الحلقة 1 من رواية: سيدة الملكوت
المثنى الشيخ عطية
لا مكــان
ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض، مرة أخرى أحلّق وحيداً في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي.. الشمس بدأت تميل للغروب/ هكذا أراها من نافذة الطائرة. غروب ساحر لكنه مخيف يا إلهي. لقد أصبح الأمر حقيقة. لم يعد لعبة وقوف أمام نهر السين وظنّ أنه الفرات لمعاناة تجربة غياب العالم وتجلّي الداخل عارياً مثل وحش لاتخاذ قرار أمام لا خيار منفلت عن أي عقل. لقد أصبح الأمر حقيقة، وها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض أمام أفق مفتوح على هاوية اللامكان.
الطائرة تخرج بي من حدود باريس لتدخل آفاق عالم مجهول، يا إلهي، كم هذا مخيف، من منفى إلى منفى!..
أنظر إلى الأسفل لأرى الأرض في ظلال هذا الغروب ولكن لا مكان. هاوية فقط. فم مفتوح فقط لابتلاعي. أحاول التراجع. أحاول إزاحة عيني عن فم الهاوية ولكن لا مفر، الهاوية فم جميل هائل الاتساع ويدعوني، الهاوية فم جذاب ولا مهرب من السقوط فيه.
أتخلى عن المقاومة، أسلم قياد نفسي لهذا اللاشيء الساحر والجذاب المفتوح.
يصمت هدير الطائرة. تتحرك الغيمات البرتقالية أمامي ببطء. أفقد وزن جسدي وأنسلخ شيئاً فشيئاً عنه عبر النافذة. أحلّق في المدى البرتقالي الطليق، وحيداً أحلق في هاوية ارتحالي.
أعتدل مرة أخرى في مقعدي. أنظر إلى السائحة الفنلندية في الصف القريب على يساري. أحس دون ريبة أنها تنظر إلي. أبتسم لها مطمئناً..
“كل شيء سيكون على ما يرام مثلما قلت لكِ في المطار، لن تسقط طائرة أنا فيها، وستهبطين في لارنكا بين أحضان صديقك بالضبط”. تبتسم لي. تضحك وهي تستعيد جنوني في المطار عندما أخبرتها ذلك. لقد كانت خائفة واعتبرت أن تأخير الطائرة فأل سيء، وفكرتْ بإلغاء رحلتها.
ـ ربما كنت تخافين ركوب الطائرات فقط.
ـ نعم، لقد هبطت بي طائرة منذ سنتين هبوطاً اضطرارياً وكانت تجربة موت لا تنسى.
ـ هل سمعت بعائلة “العابد”؟.
ـ لا، وما ذلك؟
ـ أنا أحد أفراد هذه العائلة، واسمي هانيبال العابد.
ـ أنا كارين، ولكن ما شأن عائلتك والطائرات؟
ـ إن لعائلتي مزايا لدى الإله نسميها في بلادنا كرامات، وأحد هذه الكرامات هي أننا نعرف بإشارات معينة موعد حلول منيتنا، وأنا أعرف أنني لن أموت بهذه الطائرة. هل أنت متأكدة أنك ستكونين على نفس الرحلة؟
ـ ها ها ها.. نعم.. إن هذا جنون، لكنني سأصدقك.
ألصق ظهري بالمقعد وأضغط زر التراجع. هذا أفضل. أشعر بالاسترخاء. أغمض عيني بهدوء ويغيب صوت هدير الطائرة. أغرق في الأسود. شيئاً فشيئاً ينقلب الأسود إلى أسود، أسود حتى الغياب، وأرى نورا. يغيب كل شيء ويبقى وجه نورا الذي يقول لي: إنه قرارك هاني. نورا التي وضعتني مرة أخرى على الصراط عندما جئت إليها لأعرض لها المأزق الذي وصل إليه وجودي في باريس. قلت لها: هذا أنا نورا، ممزق بين خيارين.. من جهة أنا محبط وعاطل عن العمل في مدينة طاحنة مثل باريس ولكن الفرنسيين على وشك منحي اللجوء السياسي. لدي حق العمل ولكن لا عمل في باريس. علي أن أصبر لكنني غير متعود على استدانة النقود.. ومن جهة أخرى أنا أملك عقد عمل كمدير تحرير لمجلة نسائية محترمة في قبرص. هناك عمل لكن المستقبل مخيف، وقد أفقد فرصتي لدى الفرنسيين فلا أعود. هذا أنا، ممزق بين خيارين وعلي اتخاذ قرار بقائي أو مغادرتي دون تأجيل لأن فرصة العمل لن تنتظر.
أرى وجه نورا وهي تسألني إن كنت درست خياراتي جيداً، وأقول لها إنني أفضل البقاء ولكني أحس أنني أصبحت عبئاً على الجميع في باريس. لم أعد أستطيع الكتابة. لقد حجّرتني هذه المدينة. أرى وجه نورا الصامت، وأضيف: إنني لم أوضع في حياتي بمثل مطحنة هذا الخيار، أحس أنني ضائع وأريد ذريعة واحدة للبقاء. أقول لها أريد ذريعة واحدة للبقاء وأنا أريدها أن تطلب مني البقاء. أرى وجه نورا المحرج الموزع بين نارين وهي تقول لي: إنه قرارك هاني.
أرى وجه نورا وتدمع عيناي. نعم إنه قراري لكنني أردتك أن تطلبي مني البقاء نورا، ليتك طلبت مني البقاء وجنبتني رياح هذا الشقاء، ولكن هل كنت سأبقى لو طلبتِ ذلك!؟.. ألم يعنِ لي كلامك أنك تطلبين مني الرحيل، أم أنني فسّرته هكذا لأنني أريد الرحيل.. يا لشقائي فيك أيها الحب الذي لا يبدأ إلا لينتهي ولا ينتهي إلا ليبدأ.. يا لشقائي وأنا أحس أنني مثل جدي آدم على صراط تفاحته: “أنا أفهمك يا جدّ”. أقول لجدي آدم مواسياً إياه وأنا عارٍ في أول خطوة لتعاسته على الأرض، يقول لي وهو يواسيني عارياً لكن بربطة عنق أنيقة في أول طيران لي في السماء:
“إنني أفهمك يا صغيري”، ونضحك. يا لشقاء الرجال، لقد مهرنا أنفسنا بلعنة اختيار العذاب المعذبة التي لا تزول.. وأنا غادرت جنتي.
أسمع هدير محركات الطائرة وأنا أفتح عيني. أعود لتلاشي روحي. أغمض عيني وأغرق شيئاً فشيئاً في سحابات السواد.. أتساءل معذباً هل كان قراري صائباً، ولماذا اتخذت مثل هذا القرار!؟ أي شيطان صوّر لي أن هذا هو باب الخلاص!؟ لماذا لم أترك نفسي تعارك وجه باريس الذي كان يحجّرني حتى النهاية!؟ لماذا نسيت استخدام أسلحتي ودروعي أمام جمالها الذي كان يحجّرني، ولماذا انسحبت هكذا ببساطة ولم أترك نفسي تنساح، تلتحم ولو بالموت في جسد هذه الميدوزا الخالصة الجمال حتى النهاية!؟ ما الذي جعلني هكذا، قصير النفس وأنهي نهاياتي على صورة هذه النهاية!؟… لقد سمعت صوتاً يقول لي أن أرحل، نعم أستطيع القول إنني سمعت صوت فطرتي يقول لي أن أرحل وانصعت له كما أفعل عادة حين أجد نفسي في مطحنة التناقضات، ولكن ما الذي يدريني أن هذا الصوت هو صوت فطرتي، وأن هذه التافهة باريس لم تستخدم صوتاً مخادعاً لهزيمتي.. “أيتها التافهة باريس”. أقول ضاحكاً وأنا أتذكر هذا اللقب الذي يناديها به صديقي محمود تحبباً ولكي يحيّيها بترداده كلما صنعتْ باريس ما يعبّر عن عظمتها. لقد ارتكبتِ إثم هزيمتي حين لعبتِ أيتها التافهة لعبتي في أسطرة حياتي…
قلت لرفيقي محمود الذي استضافني للسكن معه وأنا أنظر اللون الأخضر في كأس الويسكي بالنعناع الذي يعده جيداً حين سألني لماذا أمارس حياة الصياد بدلاً من إيجاد فتاة أرتبط بها إنني أنتظر معجزة أن تكون نورا في باريس. وقبل أن يستنكر محمود الذي لا يرحم بأخلاقياته هذا التصرف مني، قلت له إنني أعلم أنها متزوجة الآن لكنني أوقفت حياتي على انتظار هذه المرأة منذ أن انتشر نبأ جنوني بحبها في حلب دون أن أعرفها لمجرد أني رأيت غلاف مجلة من تصميمها، وأني أعيش هذا الحب كوهم لامرأة أختزل بها جميع النساء. أنا أعلم أنها تعيش حياتها مع زوجها وابنها في الكويت، لكن هواجسي تبقيها حية في داخلي وتقول لي أن أنتظر، وضحك محمود من شطحاتي، لكنه توجس شراً فذكاؤه ودراساته عن شتراوس لم تسمح له إلا أن يقول لي: للأساطير أساس واقعي فاحذر من نفسك. أنت تعيش الحياة مثل فيلم سينمائي، ولا تفرّق بين حياتك وكتاباتك. قال لي محمود وهو يشرح لي خوفه من شطح أسلوبي الشعري بعيداً عن حقيقة الحياة إن استمريت باستخدام الأسطورة في حياتي على هذه الصورة، قال لي ذلك وأضاف أنه يخاف علي من لوثة ضياع في طيراني تدخلني في ثقب أسود لا أعرف له مخرج، ويبدو أنني دخلت هذا الثقب دون أن أدري في لوثة ضياعي بأحلامي في أحضان هذه التافهة باريس، ولم أعد أستطيع الكتابة.
سألني محمود أن أحدد له أو لنفسي ماذا سأفعل بحياتي في باريس، وقلت له دون أن أفكر وكأنني أهذي: سوف أقتفي أثرها، أبحث عنها، هنا في داخلي، وفي تفاصيل جسد باريس، وهناك في الوطن، في ذاكرتي، وسوف أتم روايتي عنها. نعم، سأكتب روايتي عنها. وضحك محمود: من أين ستبدأ، سألني ساخراً وقاصداً، من اللوفر أم من بيغال!؟.. وقلت له ضاحكاً: لا فرق لكنني قد أبدأ بما هو حيّ أي من اللوفر.. نعم سأزور الموناليزا التي يطيب لك أن تشبّهها بوحدة الكون. لكن لماذا لا أبدأ من السان دوني أو من بيغال، أو ربما من دوفين حيث يتحد حابل النساء بنابل الرجال. أو ربما من الوطن، من تلك النقطة البعيدة الحية عندما قابلتها، هناك في متحف حلب حيث نزلت من دمشق لزيارة معرض كمال في صالة المتحف، هناك في حجرة الملكة في متحف حلب حيث دخلت بالقوة نفسها التي سلبت إرادتي لدرجة أنني لم أفكر بالمقاومة ولا بموعد افتتاح المعرض في الصالة المجاورة ولا بأصدقائي المنتظرين، هناك حيث انحرفت يساراً في الرواق المعاكس لاتجاهي إلى الصالة، ودخلت الرواق المؤدي إلى حجرة الملكة دون أن أقرأ حتى لوحة النحاس المكتوب عليها “مملكة ماري” فوق الحائط، الرواق الخالي إلا من صوت خطواتي المتردد على الرخام، الرواق المفضي إلى باب الحجرة أمامي، باب حجرة الملكة المفتوح أمامي تحت شلال ضوء ينصب عليه بغزارة من نافذة خلفية، ويلقي بمحتويات الحجرة في قدر النور والظلال… هناك حيث وقفتُ في بقعة النور أمام الباب ووقف ظلي المنسفح خلفي في الرواق مرتبكاً أن يلحق بي، مرتبكاً ويمد يديه متشبثاً لمنعي من المضي باتجاه الجسد الذي تجلّى أمامي وشدتني إليه قوة نبضه الحية، شدتني إليه دون أن أستطيع المقاومة.. هناك حيث تجلّت أمامي. الربة أمامي. حيّة هكذا أمامي، وتدعوني…
انفصلتُ عن ظلي ودخلت. خطوة خطوتان ووقفت. وقفت وكأن يداً تقول لي أن أقف. وقفت وانحنيت دون أن أزيح نظراتي عنها. وقفت لأخلع نعلي الأيمن بهدوء ثم نعلي الأيسر بهدوء، ولأضعهما دونما صوت على العتبة، وأخطو حافياً. وقفت أمام الجسد الأسود الثابت أمامي. جسد الربة الحي. الربة التي أحسها هكذا بانتظاري، حية منذ ثلاثة آلاف سنة بانتظاري. الربة التي بانتظاري وتبتسم. الربة التي تبتسم لي بحنان مخيف…
نظرتُ وجه الربة. نظرت وجهها المتكشف كما مرآة لهوّة داخلي. نظرت وجهها القاسي الصلب الذي يمنحه لونه البازلتي الأسود الرقة والجلال. نظرت وجه الربة الذي هو وجه أمي عندما كانت صبية وحنون..
الجرة التي تمسك بها كفاها دعتني لأشرب ودفعتني إلى الدوران.. بطيئاً حولها. بطيئاً دون أن أزيح نظراتي عن عينيها اللتين تلاحقاني وترياني حتى عندما أصير خلفها..
نظرت وجه الربة. وجهها الذي بدأ بالتغير والتشكل وجوه نساء ميزت منهن وجه أمي ووجه جميلة ووجه امرأة أحسست أني أعرفها دون أن أستطيع تحديد ذلك. امرأة لها وجه شجرة مشمش مزهرة بتويجات الربيع.
اقتربت من الجرة. اقتربت من فم الجرة الذي ينصب منه الماء بعذوبة وهدوء. وضعت شفتي على فم الجرة دون أن أستطيع إزاحة عيني عن عيني حاملتها التي تعرف ذلك وتبتسم..
تذوقت لون الماء الذي أراه في عينيها. تذوقت لون الزمرّد، لون العذوبة التي من نار وألم على شفتيّ، وأحسست مع دفق الملامسة بالرمح الذي يأخذ مكانه بهدوء في قلبي.
جلست لاهثاً، مسنداً رأسي على ركبتها ومحاطاً بالسكينة والشقاء، وأحسست بيدها تمر على شعري بحنان وتبعث فيّ الأمان.
نظرت فوقي. نظرت جديلة شعرها المضفور على شكل “حية” وأصبت بالذهول.”الحيّة” بدت أمامي حية للحظة. حية بعثت فيّ الرعب غير أن ابتسامة ربتي أعادت إلي السلام. ابتسامة أمي وابتسامة وجه شجرة المشمش إياها التي غيبتني عن إدراك ما يحدث…
نعم. لماذا لا أبدأ من صالة المعارض في متحف حلب، التي لم تكن باردة مساء ذلك اليوم من نيسان حيث دخلت قادماً من حجرة الملكة، بخطوات شاردة وقميص مطرّز بقبة من الدانتيل أوحت للجميع بأنني قادم من زمن آخر، ودفعتهم للاندهاش.
كانت الصالة كما أحسست بها بعد أن استيقظت من شرودي تشكل مؤتمراً بهيجاً غير مخطط له من قبل شباب اليسار الذين أتوا من مختلف المدن لتأكيد روح التضامن والمساندة، ولعقد لقاءات العمل السياسي أو الجماهيري المغلف بشرعية العمل الثقافي العادي تحت أعين سلطة تجسسية ترصد حتى حركة النمل.
القبلات والمصافحات المنداة بشوق الضائعين الذين حولوا ماء سرابهم إلى ماء أيقظت في روحي أجنحة طائر كنت قد كبلته بقسوة إلى أن أستبين خيطي في كبكوبة التساؤلات.
رأيت وأنا أدخل فراشة كبيرة لم أعرف كيف انبثقت متجاوزة إياي وطائرة باتجاه الفتاة المأخوذة أمام لوحة عازف الناي بمزماره الذي يرفع الموجودات حوله من أرض وأزهار ونباتات غريبة إلى مجاهل السماء.
غاب عني الحشد الكبير الموزع في الصالة حول كمال ولوحاته، وتجلّت أمامي الفراشة واضحة وهي تبتعد قليلاً عن الفتاة ثم ما تلبث أن تدور حولها فتجعل عينيها وهما تتابعانها تومضان قبل أن تستقران عليها وهي تأخذ مكانها فوق زهرة برية في اللوحة.
رأيت عيني سلام تتملصان من استلاب الفراشة الغريبة لهما، وتلتقيان بعيني كمال، تردّان على تحيته بابتسامة عريضة منداة جعلته يحمرّ خجلاً من انكشاف لعبته، ثم يرتد للحديث مع المعجبين حوله، وسمعت بوضوح غريب صوت كمال الذي لم يحرّك شفتيه بحرف يقول: “لقد وصلتها رسالتي” قبل أن ينتشلني معاذ من بقايا سرابات جنوني.
ـ لقد اشتقنا إليك يا رجل. كيف هي دمشقك؟.. قال لي وهو يسحبني في اتجاه لوحة قرويات يحصدن القمح تحت سياط أفق مشتعل بالنار، وأضاف..
ـ عندي لك مفاجأة ستذهلك، ولكن قبل ذلك قل لي، ما أخبار سيدة غلافك!؟
أصبت بالدهشة، وأحسست أن ثمة عاصفة تقترب لتهز حياتي. حاولت تمالك نفسي..
ـ أية سيدة وأي غلاف؟!.. قلت.
ـ غلاف مجلة “الآداب الأجنبية”. قلت لي أنك مرتحل من حلب إلى دمشق لتتزوج مصممة لا تعرفها.. قال معاذ ذلك ببراءة وتخابث الطفل الذي يحمله في بريق عينيه وأسنانه الأمامية الجميلة المتباعدة، وومض في مخيلتي غلاف المجلة مثل برق لمع فجأة ليصيبني بالدوران.. انفتح الغلاف كاملاً أمامي وكأنما يفتح كوة على هوة مصيري. هاهي ذي مرة أخرى طفولة العالم بين يدي، شريط من الأخضر والأزرق والبني تتنافر ألوانه وتتآلف ببساطة انسياب ماء جدول. أخذني الماء وانساب بي بين جوانح غابات صنوبر تخفق واستطعت أن أشم رائحة الصنوبر وأن أصل إلى نقطة الهذيان/ يا أمي خذيني الآن. ردّد الصوت داخلي وانفتح وجه الأفق أزرق مثل بحر أزرق يتموج بهدوء ويدعوني.
ـ ماذا جرى لك!؟.. ألمح في وجهك حالة الانجذاب نفسها التي رأيتها فيك عندما شاهدتَ الغلاف لأول مرة. قال معاذ ضاحكاً ومحاولاً انتشالي من غرقي، وحاولت بدوري التماسك. ضحكت.
ـ هل قلتُ لك، أنا، إنني ذاهب إلى دمشق لأتزوج امرأة لا أعرف منها سوى لوحة غلاف صممته!؟
ـ نعم، أنت قلت ذلك.
ـ وأنت صدقتني؟!.. قلت ساخراً.
ـ رغم ثقتي بمعجزاتك، لكن هذه المرة لن أصدقك.
ـ لقد ريحتني، ولماذا هذه المرة؟!.. قلت محاولاً اكتشاف ما يقلقني في تصرفه.
نظر معاذ حوله، وأشار لي بعينيه إلى الفتاة الواقفة بعيداً، والمتأملة بانجذابٍ لوحةً ضخمة أمامها.
ـ جميلة.. قلت هامساً بابتسامة أسى.
ـ ألا تريد رؤيتها؟.. قال معاذ، وأحسست أن طائراً يموت في داخلي ويزم صدري حتى الاختناق.
ـ ما رأيك أنت!؟.. قلت ضاحكاً وأنا أختنق بعبرة داخلي.
نظر معاذ باتجاه المجموعة التي تراقبني، ونظرت إليهم بدوري، وتسمرت عيناي.. التقت عينيّ بعيني محسن وهزّ رأسه مسلّماً وهززت رأسي. قالت عيناه بتشف: “اذهب إلى رؤيتها إن كنت تجرؤ على تجاوز خجلك”. وردّت عيناي بسخرية على تحية عينيه: “بإرادتي كان ذلك، وبإرادتي سيكون ذلك”.
لاحظ معاذ التصميم الذي ومض في عيني بعد تحية عيني محسن.
ـ اذهب إليها، وسأذهب لأعد مفاجأتي لك، لكن كن حذراً. مازال رفاقك هنا مغتاظين من رحيلك ويشعرون أنك خدعتهم بهذا. قال معاذ بسعادة وهززت رأسي ضاحكاً بأسى:
ـ وماذا يريدون أكثر!؟.. لقد تركت جميلة كما أرادوا.
ـ وحوّلتَ تنازلك السهل إلى ذنب في أعناقهم. هل تعرف معنى أن يقف شيوعي تحت ضغط العادات مع التخلف الديني وضد مبادئه. أنت جعلتهم يحسون بالخزي. وكانوا يريدونك أن تصارع وأن تخطئ كي يمتنوا بناء منظمة حلب وفقاً لتصوراتهم أو لعقدهم إذا أردت. لكن انظر هاني. أنا أيضاً مغتاظ من موقفك وجميلة وجميع من معك ومن ضدك، لكن ليس هذا هو وقت الحساب. اذهب لرؤيتها طالما أنت مصمم. قال معاذ ذلك تاركاً إياي في صراعي مع نفسي.
تأملت الفتاة الغارقة في لوحة “رودو وروزي”، أسطورة بابلو نيرودا التي قرأناها سوية. جميلة الفتاة التي أعطت ظهرها لي. “روزي. الفلاحة. ابنة القياصرة. النهدان الوزونان. روزي الليلية الشعر، الزاهرة الفخذين. قرينة بريق قمر ينام. الصمت الملتف بعريه بين الأوراق”. تقدمت باتجاه الفتاة الغارقة في تأملاتها وتذكرت مقابلة أخيها الخاصة لي: “لقد أردت مقابلتك دون أن يعلم أحد بهذا، وخاصة جميلة. لا أريد إحباطها. أنت تعلم هاني أنني عضو قيادي في حزب يؤمن بالتحام شعبنا دون أي تمييز أو اعتبار للدين أو الطائفة، كما تعلم أنك تستطيع تمزيق قرار فرعية الجامعة بانفصالك عن جميلة، ورميه بكامل الشرعية في وجوههم، إضافة إلى أنني لن أسمح لنفسي بالطلب منك أن تنصاع لهذا القرار. لقد أردت فقط أن أضعك في صورة وضع عائلتنا المحرجة أمام أولاد عمومتنا من السماح بخطف بناتها من مسلمين. إن بعض مسيحيي الجزيرة يقتلون أخواتهم أو بنات أعمامهم على هذه الفعلة. الأمر كما ترى معقد، ووالدنا تعرض إلى هذا من قبل وأجهد. سوف أؤكد لك هاني إنني أفضلك على جميع الرفاق، وأن القرار عائد إليك وإلى جميلة التي أرجو منك أن لا تعلمها بحديثنا”.
تقدمت باتجاه جميلة. مررت بكمال الذي يتحدث مع مجموعة من الحشد. صافحته وهنأته على معرضه. قلت له غامزاً: أحسدك على فراشاتك، وفهمني. ردّ ضاحكاً وغامزاً إياي: ستجد منها الكثير في لوحة “رودو وروزي”.
اقتربت من جميلة بهدوء دون أن تحس بي. حاذيتها وأحسّتْ هي أن أحداً بجانبها دون أن تلتفت. قرأتُ البطاقة الصغيرة التي وضعها كمال بجانب لوحته:
ـ ” قالت إني خائفة “.. قلت ذلك وتسمرت جميلة في مكانها. مال وجهها الأبيض المستدير إلى الشحوب. نظرتْ إليّ مواربة، وأكملتُ قراءة البطاقة:
ـ ” أحبك بكل هذا الخوف الجوفي
بكل أذى العقاب.
إني أخاف شقائق النعمان الساعية إلى النهش
والصاعقة التي تحضّر أفعالها في شجرة البركان السرية
إني أخاف ضوءها الرهيب،
أخاف نهارها الصافي المستحيل رماداً “…
نظرتْ جميلة بعينيها الصغيرتين البراقتين في عيني دون أن تتكلم، ونظرتُ في عينيها بعيني الحزينتين وأكملت:
ـ “فإلى أين نتجه ؟ ولماذا جئنا !؟”.
ـ أنت تحفظ نيرودا عن ظهر قلب!.. قالت وهي تبتسم لي. نعم لماذا جئت!؟.
مددت يدي مصافحاً فمدّت يدها بتردد، واحتضنتُ يدها.
ـ أظننا اتفقنا أن نكون صديقين.
ـ نعم.. قالت وسحبتْ يدها محذرة إياي، صديقين مراقبين. وضحكت.
ـ دعيهم يغتاظون، قلت وبان عليها الانزعاج.
ـ كالعادة، لا يهمك إلا أمر نفسك. هل فكرت بي!؟.. قالت ونظرتُ إليها حزيناً.
ـ أنا آسف، سمعت أنك خطبت. كيف هو خطيبك؟.. قلت وردّت علي بحزن وعتب.
ـ جيد. إنه من ديني.
شعرت بالحزن والأسى والضياع وأنا أتذكر آخر لقاء لنا عندما أخبرتها أن المنظمة قررت انفصالنا لأن أهلها يرفضون زواج مسيحية من مسلم، ولأن حبنا سوف يشرخ المنظمة باعتبار أن أهلها الشيوعيين لا يستطيعون مجابهة مجتمعهم المسيحي إذا تم خطفها من قبلي.
شعرت بالحزن وأنا أتذكر سؤالها المفجع لي: “وأنت ماذا قررت” !؟ وبالأسى وأنا أغرق في خزيي، وبالضياع وأنا أجيبها: لقد قررت الرحيل عن حلب.
نظرتُ في عينيها بحزن فلانت مشفقة علي.
ـ كيف هو حالك، كيف هي دمشق، هل وجدت فتاتك؟ قالت بابتسامة، وأصبت بالدهشة.. “يبدو أن معاذ نشر خبري على الملأ”.
ـ فتاتي؟!.. قلت متصنعاً الدهشة.
ـ نعم، معاذ قال لي إنك ذاهب لتتزوج فتاة أعجبك غلافها.
ـ وصدّقتيه؟!
ـ ألا تفعلها؟!.. لقد قالوا لي إنك تراهن على فتيات وتربح الرهان.. قالت وهبط جليد العالم على نفسي. لمعتْ في ذاكرتي صورة عبد الواحد وهو يدفع ثمن العشاء بعد خسارته الرهان معي من أنني أستطيع إغواء الفتاة التي يلاحقها بثلاثة أيام فقط، واختلطت صورته بصورة ندى وأنا أودّعها قائلاً إنني لا أستطيع وعدها بأي ارتباط للزواج. نظرتُ إلى جميلة بعتاب بارد:
ـ لم يخبروك أنني أردت كسر دونجوانية عبد الواحد فقط.
ـ بإيذاء الفتاة! هل فكرت بالفتاة!؟.. قالت وكأنها تعني نفسها وخيم عليّ صمت كسير.
“هل هذا ما تفكرينه بي”!؟.. قالت لها عيناي، وأحسستُ بإحراجها من انكشاف عواطفها أمامي فأمسكتْ بيدي معتذرة.
ـ لا عليك هاني. أعرف أنك لست بهذا السوء. نحن أصدقاء. هل رأيت لوحة رودو وروزي. تأملها معي.. قالت وأحسست بالتوتر يزول. نظرتُ متأملاً اللوحة، متأملاً الكائنين المتحدين غير الملفوفين سوى بقوة عريهما الساطع في صدر اللوحة أمام قوة ظلام عمياء يصعب استدراك مصدرها تنبثق من الخلف والجوانب محاولة قذفهما خارج حركة موجودات الغابة الحانية. أحسست أن قوة العماء في انفلاتها الوحشي لا تفعل سوى شدهما بقوة أكبر إلى بعضهما في حالة اعتصار لكن مكابَرة وألم. لمع في ذاكرتي السيف الذي يحمله حارس بوابة النعيم خلف الكائنين الأبديين الفانيين/ الرجل والمرأة، آدم وحواء مايكل أنجلو، لكنني لم أر أي أثر في وجهيهما للندم. كان ألم المعاناة الذي يحاول قصم ظهريهما يستحيل إلى عناد، وإلى حنو، وإلى التفاف أكثر لهما ببعضهما في حركة حماية أمام انفلات الهول.
تأملت وجه الرجل.. إنه يشبه كمال، كما أنه يشبه معاذ، وأيضاً يشبهني.
شعرت بخلل حواسي، وأجبرني الخلل أن أنظر وجه المرأة في اللوحة.. بمواربة في البداية، ثم بخشية ما لبثت أن استحالت خوفاً ثم إلى تحدٍّ دفعني إلى التحديق، لقد كانتْ هناك.. الربة بابتسامة عينيها الساخرتين القاسيتين والحانيتين بآن.
أصبت بالدوران، وكان على أحد ما أن ينتشلني من سرابات عذابي.
جاءني صوت معاذ مسّلماً على جميلة، محتضناً بيديه يدها وضاحكاً لإغاظتي..
ـ “حمامة بيضاء تهدل”.. قال ضاحكاً وناظراً إلي بشقاوة الطفل الذي سرق تعبيري في وصف جميلة. ضحكتْ جميلة وضحكت أنا على أيام هناءتنا الماضية.
ـ سأقدم لك مفاجأتي مادمت عدت إلى صفاء روحك.. سوف تأتي الآن.
نظرت بالاتجاه الذي أرادني أن أنظر إليه. نظرت إلى المرأة القادمة بخطوات رشيقة، المرأة الضاحكة بصفاء ماء جدول يجري، المرأة التي أسرتني تسريحة شعرها التي على شكل قوس من الحرير يحتضن وجهها، المرأة التي تملّيت مع اقترابها وجهها وأصبت بالذهول.. كان وجه شجرة المشمش إياه المزهر بتويجات الربيع، وجه الربة الذي ومض فجأة واختفى ليفتح أمامي كوة على هوة مصيري.. هاهي ذي طفولة العالم مرة أخرى بين يدي.. شريط من الأخضر والأزرق والبني تتنافر ألوانه وتتآلف ببساطة انسياب ماء جدول..
أخذني الماء وانساب بي بين جوانح غابات صنوبر تخفق واستطعت أن أشم رائحة الصنوبر، أن أصل إلى نقطة الهذيان/ يا أمي خذيني الآن.. ردّد الصوت داخلي وانفتح وجه الأفق.. أزرق مثل بحر أزرق يتموج بهدوء ويدعوني..
ـ نورا محمد علي، سيدة غلافك.. قال معاذ معرفاً إياها ومددت يدي لمصافحتها.
ـ هانيبال العابد.. قال معاذ معرفاً بي، وأحسست بيدها تختلج في يدي مثل حمامة عصف بأجنحتها وميض البرق.. اتسعت عيناها من الدهشة واغرورقتا بالدمع.
ـ هاني!؟.. قالت نورا وهبط عالم طفولتي أمامي.. تلك هما عيناها، غابتا طفولتي، البحيرتان اللتان اختطفتا قلبي الطفل منذ ثلاثة آلاف سنة وغابتا.
ـ نورا، أنت نورا، لصة المجلات.. قلت دامع العينين محاولاً انتشال نفسي من هول المفاجأة.
ـ وأنت هاني، الأناني.. قالت ضاحكة وشدت على يدي بكفها التي لم أعد أستطيع إفلاتها من يدي.
فوجئ معاذ الذي كان يهيئ نفسه لمفاجأتي.
ـ أنتما تعرفان بعضكما!!.. قال وردّت نورا معاتبة إياه.
ـ هل هذا هو الشاعر الذي هاجر إلى دمشق لكي يتزوجني من غلافي!؟.. لماذا لم تقل لي إنه هاني. ياه.. منذ كم سنة لم أرك. عشرون، قالت متملية إياي، لم تزل كما أنت النحيف المعصعص.
ـ وأنت نورا محمد علي التي كانت تسرق مجلاتي. لماذا عبد الله. لم أعرف أنك الرسامة.. قلت وضحكت نورا ملتفتة إلى الرجل الواقف المستغرب ما يدور بجانبها..
ـ إنه يوسف عبد الله. زوجي الذي أخذت اسمه للتوقيع على أعمالي، وليتني لم أفعل. قالت نورا ضاحكة ومقدمة إيانا لبعض.. هاني ابن خالتي نوّارة، صديقة أمي التي سميت باسمها. لقد حدثتك عنها.
شدّ يوسف على يدي.
ـ الحق على معاذ. يعرفك ولم يعرّفنا بك.. قال وحاولت مقاومة غصتي من الرجل الجميل الأسمر ذي الجسد الرياضي.
ـ وما أدراني بهذا!؟.. قال معاذ.
ـ إنها مفاجأة فعلاً.. قلت ساخراً منه وعيناي لا تفارقان عيني نورا.
ـ لم تزل مفاجأة. أردت أن أكذّب معجزة من معجزات تخاطرك ونجحت. هاهي ذي سيدة غلافك، لكنها متزوجة.. قال معاذ.
ـ لكني لم أقل إنني سأتزوج من عذراء!؟.. قلت مازحاً وناظراً إلى يوسف الذي ضحك قائلاً:
ـ أخشى أن أحداً ما سيشعر بالإحباط.
قدّمتُ جميلة إلى نورا، فقبّلتها وكأنها وصية علي، ولم تتوقف عن اختلاس النظر إليها.
ـ أنت لا تعرف ماذا خسرت هاني. أخبرني معاذ بالقصة. لو كنت أعرف أنك البطل لذهبت معك إلى أهلها للمبادلة بيوسف.. فها هو مسيحي منهم أخذ مسلمة.. قالت نورا ونظرت إلي بأسف استحال إلى بحيرة حنان أغرقت قلبي مرة أخرى وغابت…
*******
بدأت بحثي بإخبار محمود أنني سأقوم بتحقيق صحفي حول مهنة الدعارة في باريس لصالح مجلة نسائية يعمل بها سامح، وسخر مني محمود قائلاً: إن معظم الصحفيين الذين يأتون إلى باريس مثلك ومثل صديقك سامح يحاولون إجراء هذا التحقيق، ومن أجل أن يكون التحقيق أكثر واقعية يتحولون إلى أبطال فيه. لكني تجاوزت سخريته وبدأت بحثي عما يؤرق نفسي بالتنقل بين اللوفر وكنيسة نوتردام والسان دوني، موقناً بشطحٍ لا أعرف مصدره بأن السرّ يكمن في البرزخ الفاصل مابين المتناقضين، وفي وحدتهما الغامضة المتجسدة في ما لم أستطع إدراكه مما قرأت عن عمل كاهنات المعابد.
أخذتني عيون الموناليزا التي استخلصتها حية خالصة بنظرة خاطفة وأنا أسير مع حجاجها إلى عيون الفرنسيات الودودات في الطريق وفي السوبر ماركت وفي الباصات وفي ممرات المترو المزدحمة وأكثر من ذلك في عيون فتاة غجرية كانت تحج إلى كنيسة نوتردام.
تتبعت خطى غجريتي أزميرالدا وهي تسير مع عنزتها في أروقة نوتردام، وبحثت عن سر عدم قدرتي على تخيّلها دون عنزتها، وحلّلت منطق فيكتور هيجو بخلق هذا النموذج وشطحت بمخيلتي إلى آلهتي عشتار/ سيدة الحيوانات، وتساءلت هل كان هيجو يدرك مايعمل عندما كوّن ازميرالدا على هذه الصورة!
جلت وصلت في السان دوني. سحرتني نظرات نساء السان دوني الخالية والمفعمة بالمعنى في ذات الوقت. سحرني المعرض الحي المقام أمام الملأ في الشارع للحم النساء الحي.. شقراوات فرنسيات، بيضاوات أوروبيات، أميريكانلاتينيات، عربيات وحتى هنديات وسوداوات أفريقيات ينظرن نظرة مواربة غير مهتمة في الظاهر، ويتخايلن بما يكشف عن مفاتن تدفع أشد الرهبان عصبية إلى اعتبار الخطيئة محواً للخطيئة. سحرتني عيون نساء السان دوني وسحرتني أجساد النساء الجلادات، نساء فالكيري، حاملات سوط السيطرة، حضن الرجال الذين تعبوا من حمل مسؤوليات الشرف وقدموا ليبكوا في الحضن الذي حمّلوه دون أن يدركوا تبعة ذلك صليب الآلام.
تفحصت حضن ميشيل الأشقر الحنون بعد أن خلعتْ عنها سوط ومشابك الجلد لتتجلّى أمامي آلهة للرقة والحنان، وتفحصتْ هي ترددي عن التفاعل بتفهم يليق بالملكات. سألتني عن سبب اختياري لها، وسألتني إن كنت أعاني فعلاً من مشكلة شعور بالذنب، ولم أستطع سوى أن أبتسم . قلت لها ضاحكاً إنني ملاحق بذنب إنزال البشرية إلى الأرض، ونظرت في عيني بجدية، قالت لي بحنان إنه ليس عليّ أن أشعر بذنب لم أرتكبه، وقبّلتني على خدي. قالت لي إن لدي فقط مشكلةً في تأقلمي مع واقعي، وإنني لن أستطيع حلّ مشكلة تأقلمي في هذا المكان.
توغلت أكثر في بحث مشكلة عدم تأقلمي إلى محاولة إقامة علاقات أعمق، وساعدني على تلمس طريقي صديق قديم طريف كنت قد أمضيت معه أياماً مليئة بالضحك والمراهنات ولا تنسى في دمشق.. التقيت بألدار في بيت سامح وضحكنا من تذكر أيامنا الماضية حيث كان يسلبني بعض النقود بالمراهنة وكسب الرهان على محادثة أي فتاة أشير له أن يكلمها، وعلى مدّ الرهان إلى إقامة علاقة معها. تفهمت وأنا أناقشه في مواد المجلة النسائية التي يعمل سامح مراسلاً لها في باريس أكثر وأكثر فلسفته البريئة في أنه نذر نفسه لخدمة الملكات دون تحديد أو تمييز ودون غش كذلك، وأبديت استغرابي من قدرته على أن يظل نبيلاً مع المرأة في هذه الفلسفة التي تمحو حدود التملك في زمن يدفع التملك أهله إلى حد القتل.. التقيت بألدار، وسّرني أن وضعه كان جيداً بالعمل في مطبعة عربية في باريس. أخبرني أنه ترك عمله في بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي وخرج تقريباً مع المقاومين الفلسطينيين، حيث لم يأمن العودة إلى دمشق بسبب عمله مع المقاومة…
جرّنا الحديث ونحن نناقش موضوع آلية دفاع المضطهَد عن مضطهِده في المجتمع العربي إلى صعوبة تنفيذ مشاريع تحرر المرأة بسبب ما يشدّها من حبال غلّظها تاريخ متواصل من السيطرة والخديعة إلى الدرجة التي أصبحت فيها المضطهَدات جزءاً من آلية الاستعباد، وتذكرت اكتشاف ألدار الساخر لخيط الثقافة الذكورية المتسرب إلى قصائدي، وقوله الصريح لي ببساطة إنني أستعمل مفردات ومفاهيم تجعل مني دون أن أدري أحد الداعمين للثقافة التي أحاربها مثل مفردة الشمس التي أستخدمها كسلاح في يدي دون أن أدري أن الشمس تشكل محور الثقافة الذكورية باعتبار أن الآلهة الأولى للثقافة الذكورية كانت الآلهة الشمسية.
أردت أن أبين لألدار بصورة لا مباشرة مدى تغيّري واهتمامي بجلاء الغموض عن مفاهيمنا وعدم الانخداع بما تقدمه الثقافة. وأشرت إلى اهتمامي في البحث عن رموز الديانات الأمومية داخل حيوات الناس وأساطيرهم اليومية، ووجد ألدار فرصة لإعادة التوهج إلى صداقتنا وإثبات مفاهيمه الغريبة التي تصرّ على دمج الوجودية بالماركسية فقام بدعوتي إلى معرض فريد لفنانة فرنسية صديقة له قال إنني سوف لن أنسى تجربة عرضها.
استقبلتنا ماريان بحرارة آسرة للروح. عانقتْ ألدار الذي ضم خصرها بنعومة مع تقبيله لخدها، وأعطتني خدها الأبيض الذي مس شفتيّ بفيض من الحرير الدافئ لم أستطع معه ترك يدها فأسلمتْها ليدي ضاحكة ومرحبة وضامة إياها بيدها الأخرى بأدب وهي تجرني لتأمل لوحاتها.
أذهلني ما أراه أمامي: امرأة وحيدة تتكرر في لوحات المعرض بآفاق ووضعيات مختلفة لكن بهيئة واحدة هي هيئة المرأة الحامل، وبتعبير من النشوة والرضا ينير وجهها ويشع في ابتسامتها ويوحي بأنها تعيش الكمال، وأكثر من ذلك.. إنها تشبه صانعتها.
ـ الأم والطفل، سحر الألوهية الذي لا يزول في الديانة المسيحية حيث يشكل الكمال، لكنْ بخصوصية ماريان ورموزها المجهولة التي تفصح عن نفسها بالزخارف والأزهار التي توشّي ثياب المرأة، لابد أنك وضعت قصة في كل رمز وفي كل زهرة، ويالها من قصة أخاذة تدفع للدراسة.. قلت لماريان التي لم تخف سعادتها بتحليلي.
ـ لم يفتك جوهر العمل. أنا سعيدة لأن أحداً أحس بي على هذه الصورة. هل ستكتب ذلك؟.. قال لي ألدار أنك صحفي.
ـ نعم أنا صحفي لكني لا أعرف إن كنت أجرؤ على الكتابة في الموضوع الذي يشغل حياتي.. المرأة، الألوهة، الكمال، والحب. أرى الكثير من الحب، لكني أرى النبذ والتوحد أيضاً. ليس هناك من أثر لرجل واحد رغم حضور روح الإخصاب في اللوحة. قلت وضحكت ماريان مفسحة المجال بمفاجأتها بالسؤال الذي فاجأني أنا نفسي وكأنه لا يصدر عني..
ـ هل عشت تجربة الحمل؟!.. قلت وتوهج وجه ماريان.
ـ لا، ولست حاملاً كذلك.. قالت وهي تضفي على اللعبة نوعاً من الألق منتظرة ردّي.
ـ هل أستطيع أن أرى بطنك؟.. قلت مقتحماً أسوارها وأنا أنظر بتأكيد في عينيها اللتين اشتعل فيهما بريق اللوز. فوقفت أمامي فاتحة ساقيها قليلاً وسحبت كنزتها الصوفية قليلاً إلى الأعلى كاشفة عن بطنٍ حليبي ضامرٍ أخاذ كما صفحة كونٍ شاسعٍ تتوسطه سرّة تلمع كما نجمٍ وتجذبني مغيّباً لأنحني على ركبتي وأضع شفتي عليها، أقبلها بإجلال وأنا أسبح في فضاءات كوني. انفجرت الصالة بتصفيق وضحكاتٍ أيقظتني كصفعة ماء بارد على وجهي، ووقفت محرجاً وضاحكاً بينما سارعت صديقة ماريان إليها. ضمتها ضاحكة، ومنتشلة إياها من فيض الإعجاب.
أخبرني ألدار أن ماريان تدعونا على العشاء غداً في بيتها، حيث سيأتي ناقد فرنسي مميز مع صديقته لنقاش أعمالها، وقد أحبت أن أكون حاضراً لأن النقاش سوف يتناول الرموز، ودعت صديقتها أيضاً من أجل التوازن.
لم أصدق أن ماريان ستستجيب لنداء الغموض بهذه السرعة، غير أن ألدار الخبير بطبع النساء قال لي ضاحكاً أنني تفوقت عليه نفسه في هذه الحركة التي لم تخطر على البال..
ـ إن عفويتك ساحرة لكني أحس أنها مدمرة كذلك.. قال لي وهو يضحك، وانشغلنا لساعات في ما يجب أن نأخذ هدية لماريان.. النبيذ أم الأزهار، واهتدينا إلى أن يأخذ كل منا نوعاً وكان نصيبي أن أقدم الأزهار، لكن بقيت مشكلة أي نوع أقدم لفتاة مثل ماريان.
تناولت ماريان أزهار الأوركيديا البنفسجية المرقطة بلون الزهر من يدي ضاحكة وتأملتها.
ـ بماذا تريد أن توحي لي!؟
ـ حاولت فقط أن أقدم ما يشبهك.
ـ فقط!؟ سوف أسأل ناقدي.. قالت ضاحكة وهي تعرفنا بجاك وصديقته الجميلة بالإنكليزية مشيرة إلى أنني لا أجيد الفرنسية، ولم يكذّّب جاك حدس صديقته المذهلة حتى التناقض حول أزهاري. قال بعد أن جلسنا وقدمت لنا ماريان كؤوس النبيذ وبعد أن شربنا النخب الأول الذي اقترحتُ أن يكون نخب البطن الذي يشكل حضن الكون: نعم، إن أزهار الأوركيديا تشبه زهرة الأنثى في تفتحها، وأن تقديمها ربما يكون إشارة ولا شرط أن تكون مقصودة إلى رغبة ممارسة الحب مع من تقدم له. قال جاك وتوردت خدود ماريان من هذا الإحراج الذي أحرجني وخلّصني منه ألدار بالسخرية من تحليلات جاك الذي “يعيد بقسرية مرضيّة كل شكل في الكون إلى تعبير جنسي”. وأكد جاك رأيه ببساطة قائلاً: نعم، إن الكون مشكّل من وحدة، وكل ما في الحياة يعود بالأصل إلى خلية واحدة وسواء كان ذلك مخلوقاً من قبل إله أو لا إله فإن هناك شيفرة تعيد تشكيل الأشياء وفق رمز، والموسيقى والرياضيات والفلسفة وإيقاعات الشعر تثبت هذا الرأي.. قال جاك وانتقل إلى نقاش لوحات ماريان، المعبرة كما قال عن وحدة الكون بأبلغ تعبير هو بطن الحامل، كمال الكون وجنتنا المفقودة عندما نطرد من هذا الكمال.. قال جاك مستفيضاً في شرح وحدة الكون في البيولوجيا، ومنتقلاً من ذلك إلى تعبير الإنسان عن هذه الوحدة بالرموز التي اكتشفها، ومستمراً في شرح دلالات الرموز بتحليل متألق أثار إعجاب ماريان مثلما أثارها خلافنا الحساس الذي لا أعرف إن كنت أشكره عليه أو ألعنه حول أصل نجمة داوود حيث قلتُ مستفزاً من انحيازه للثقافة الإسرائيلية إنها تعود إلى الديانة الفرعونية وإنها النجمة التي تشكل اتحاد الإلهة إيزيس بالإله آمون، والتي زدت رأيي حولها بسرقة اليهود لأسفار التوراة من الديانة السومرية والبابلية، وسرقة حتى أسطورة آدم ونوح منهما.. فقد انطبعت آثار هذا الخلاف في دمي على صورة ذكرى مدمرة لا تزول.
غادر جاك وصديقته واعتذر ألدار للمغادرة من أجل إيصال صديقة ماريان التي انسجم معها دون أن نلحظ ذلك إلى بيتها بتواطؤ لم يشأ أي منا تفسيره أو تبريره، وقمت للمغادرة، فطلبت مني ماريان البقاء لمشاركتها فنجاناً من القهوة.
رقصنا على موسيقى فرنسية هادئة احتضنتُ معها جسد ماريان بنعومة أثارتها لتبدأ بلمس خدي ولتنزل إلى عنقي، وإلى فك أزرار قميصي مع استجابتي بضمها وخطف قبلات ناعمة على عنقها. عرّينا أجساد بعضنا بأسلوب حاولت ماريان أن يكون هادئاً. أمسكتْ بزهرتي ضاحكة: هذا هو مثلث آمون المتجه برأسه إلى أعلى كما قلت.. وقربتْ مثلث زهرتي من مثلث زهرتها وأطبقته عليه: وهذا هو مثلث إيزيس المتجه برأسه إلى أسفل كما قلتَ.. وضغطتْ قليلاً: ما الذي تثيره هذه النجمة التي شكلت خلافاً قاتلاً بينك وبين جاك!؟.. قالت ماريان مقربة شفتيها من عنقي، فأمسكتُ بيديها فاتحاً إياهما لإطلاق زهرتي. إن هذا مربك وحساس كما تعلمين. قلت وجلستُ على الأريكة مبتعداً عنها، وجلستْ هي إلى جانبي.. أردتُ أن أرى تأثير الرموز بتحولاتها. قالت وقمت محاولاً ارتداء ثيابي فوقفت معانقة إياي: لا تكن غبياً هانيبال، أنا أريدك من دون رموز، وتعانقنا. قلت لها وأنا أمص بشفتي عنقها ما رأيك أن نعيش الغابة، واستجابت بضغط جسدها أكثر على جسدي، وبدأنا بشمشمة بعضنا. بدأنا بعضعضة بعضنا. بدأنا الصهيل والزمجرة والصراخ، وعوى أريج الغابة طويلاً طويلاً في دمائنا.
تلك لعنة. لعنة صافية نجلاء. لقد ارتكبت خطيئة تفاحة ماريان. أيقظتني بقبلتها الحريرية في الصباح واستغربتُ منها أن تكون مرتدية ثيابها. قالت لي إنها تودّعني. وحملتْ حقيبة ملابسها. قالت إنها مسافرة إلى كندا للعمل، وأن علي فقط إغلاق الباب عندما أخرج. سألتها إن كنت سأراها لاحقاً وقالت أنها لن تعود. قلت لها إنني لم أصدّق أنني وجدتها. وقالت لي إن عدم لقائنا خير لنا. أريد أن لا أنساك هانيبال. قالت وقبلتني ورحلت.
رحلت ماريان لكي لا تنساني يا أيها الحبّ. أخذها مدى شاسع من رمل وضاقت عليّ باريس. ضاقت باريس على تشنجات روحي.
أسمع صوت هدير محركات الطائرة، وتدمع عيناي. أعود لتلاشي روحي. أغمض عيني وأغرق شيئاً فشيئاً في سحابات السواد…
أصبت بكآبة الفقد التي شلّتني عن التفكير والكتابة. حاول ألدار بكل ما يقدر عليه صديق نبيل مساعدتي. أراد تغيير أجواء غرقي إلى أجواء فانتازية لها علاقة بما أبحث عنه وتعيد لي شغفي.
أخذني إلى كازينو يلتقي فيه الأزواج الذين ملّوا من بعضهم أو الذين يريدون إسعاد بعضهم ويلتقطون شباباً يشاركونهم لعبة ليلة من المتعة. أشار إلى زوجين جميلين تبدو عليهما علامات الاهتمام بي، وودّعني هامساً وأنا أحتسي كأسي على البار قائلاً أنه سيراني في الصباح. خرج ألدار برفقة زوجين فرنسيين أربعينيين تبدو عليهما علامات الثراء أعجبا بوحشية عينيه وشعره الطويل فاختاراه ودعياه إلى كأس، وبقيت أنا على البار متردداً وغير قادر عل القيام بخطوته. فكرت محتاراً في سلوك ومسالك الحب في مجتمع يعيش برأسماليته نعم الديمقراطية. فكرت أن المجتمع الديمقراطي وفي مدينة مفتوحة لجميع أشكال الحب مثل باريس يتيح سلوكاً بشرياً أقرب إلى السلوك الخالي من الأنانية، وتخيلت أن هذا الرجل يحبّ زوجته إلى درجة التفكير بإسعادها بين أحضان آخرَ شابٍّ وقوي. لكنني تخيلته وهو يمارس أرقى أمراض الأنانية في لعبة تلصص يراقب فيها زوجته وهي تتأوه بين فخذي ذكر آخر، ولكن لم لا يكون هذا شكلاً آخر لإسعاد الشريكين بعضهما فيما تتيحه لهما علاقات مجتمعهما.. أين وصلتَ بأشكالك يا أيها الحب الجميل الذي يعذبني التفكير في مسالكه على هذه الصورة… فكرت بماريان. أين تكون الآن وفي أي حضن دافئ تمارس غرابات أمومتها الكونية. فكرت بنورا.. المرأة التي أحب بين ذراعي رجل آخر، اختارته بملء إرادتها من غير دينها وعاشت معه حباً قاتلتْ من أجله كل أعراف وتقاليد مجتمع يضعها لهذا تحت حدّ السكين… فكرتُ هل عليّ أن أسعد لسعادتها!!.. يا أيها الحب.
عاد ألدار مشرقاً إلى بيتي ليراني في الصباح. سألني إن كنت خضت التجربة وأخبرته بفشلي. قال إن مغامرته كانت مذهلة وتليق بعجائب ألف ليلة وليلة، فقد أخذه الزوجان…..
خاص – صفحات سورية –
بأذن من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com