الإخوان المسلمون السوريون وتعليق النشاط المعارض..ماذا بعد؟
ياسين الحاج صالح
الأرجح أن لقرار الإخوان المسلمين السوريين تعليق نشاطهم المعارض للنظام ما بعده. كان القرار صدر في 7/1/2007 على خلفية “العدوان الصهيوني على أهلنا في غزة” وبغرض “توفير كل الجهود للمعركة الأساسية”، لكنه خلا من أي ربط زمني للتعليق بالعدوان. والمؤشرات غير المباشرة المتاحة توحي بأنه يندرج ضمن إعادة تموضع عامة، تعيد ترتيب علاقات الإخوان بكل من القوى المعارضة الأخرى، “جبهة الخلاص الوطني” بصورة خاصة، والنظام ذاته، وكذلك الجماعات الإسلامية العربية الأخرى. حصيلة التموضع العام المقدر مرهونة بتفاعل هذه العوامل الثلاث، وبصورة أخص بالاحتمال (المستبعد) لتجاوب النظام مع البادرة الإخوانية.
في أواسط شهر شباط الماضي، أفيد عن “تباينات” في جبهة الخلاص الوطني (تكتل سياسي معارض للنظام وعامل على تغييره، تشكل في ربيع 2006 من الإخوان وعبد الحليم خدام، النائب السابق للرئيس السوري، ومجموعات أخرى صغيرة تقيم خارج سورية). وقد تكلم السيد على صدر الدين البيانوني، المراقب العام للجماعة السورية، على “تبايناتٌ في وجهات النظر حول القضية الفلسطينية، والموقف من المقاومة، ومن العدوان الصهيونيّ الأخير على غزة، وكذلك حول تقويم موقفنا من تعليق الأنشطة المعارضة، حيث رأى أكثرية الأعضاء أنه لا ينسجم مع ميثاق الجبهة”. والظاهر أن الإخوان غير مستعدين لمنح عضويتهم في جبهة الخلاص أسبقية في تحديد سياساتهم على توجههم الجديد.
ومن جهة أخرى، عرض خطاب الإخوان في الشهرين الأخيرين تزحزحا نحو مواقف قريبة من مواقف الجماعات الإسلامية الأخرى، ونطق بلغة قريبة من لغتها. طوال أعوام كان الإسلاميون الفلسطينيون والأردنيون، وبدرجة ما العراقيون والمصريون، وحتى اللبنانيون (السنيون منهم في هذا السياق)، على علاقات طيبة مع النظام، فيما عانى الإخوان السوريون من استبعاد جذري في بلدهم، ومن عزلة نسبية ضمن الجماعات الإسلامية العربية بلغت أحيانا حد الخصومة، عزلة تعود بجذورها إلى بعدهم عن المزاج “الممانع”، الجامع بين الإسلاميين المذكورين والنظام. وكان جرى تداول معلومات عن وساطة بين النظام والإخوان عبر القيادة العالمية للإخوان المسلمين. وقبل يوم واحد من إعلان الإخوان السوريين تعليق معارضتهم، كان وفد من اتحاد العلماء المسلمين، برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي، يلتقي الرئيس بشار الأسد، وقادة فصائل فلسطينية في دمشق.
أما على محور العلاقة مع النظام فلم ترصد استجابة محسوسة من أي نوع للبادرة الإخوانية. كان من شأن استجابة واضحة أن تكون مفاجأة كبيرة، ربما تعد بتغير أساسي في البيئة السياسية السورية على نحو ما عرفناها طوال جيل كامل. في غياب شيء كهذا قد لا تتجاوز تفاعلات بادرة الإخوان استقلالية أكبر لهم ضمن جبهة الخلاص، بما يضع حدا للتمحور الحصري حول مواجهة النظام، الواسم لهوية الجبهة. كما لا يبعد أن نشهد تباعدا أوسع بين الإخوان وخدام، وإن دون إخلاء الإخوان موقع المعارضة.
هل يحتمل أن تتكشف الأسابيع والشهور المقبلة عن تفاعل أكثر إيجابية من قبل النظام مع البادرة الإخوانية؟ لا نملك إجابة. لكن ليس من الضروري، ولا من المرجح، أن يتمثل التفاعل بمصالحة سياسية بين الطرفين، بل قد يتركز في معالجة ملفات إنسانية موروثة عن سنوات الصراع العنيف بينهما (معتقلين، منفيين، مفقودين، أملاك..). هذا مهم جدا إن حصل، فهو يزيح من الطاولة السورية ملفات كان ينبغي أن تعالج منذ عقدين من السنين على الأقل.
بيد أن للبادرة الإخوانية بعد آخر غير سياسي. بعد فكري. إذ يبدو أنه يبرز أكثر وأكثر الوجه “الأممي”، وتاليا الشرعي، للخطاب والسياسة الإخوانيين على حساب البعد الوطني السوري. وهذا يتوافق عموما مع سياسة أكثر محافظة، تعي ذاتها بلغة “الثوابت” و”الهوية” و”الأمة”، وأكثر التصاقا بالموجبات الشرعية منها بالشؤون السورية. يبرز عنصر “علماني” في تفكير ونشاط الإخوان في كل مرة يشغل الحقل السياسي والاجتماعي السوري مركز اهتمامهم (“مشروع ميثاق الشرف الوطني” في ربيع عام 2001، وبدرجة أقل “المشروع السياسي لسورية المستقبل” في آخر عام 2004)، بينما يسود الطابع الشرعي والإسلامي حين يفكر الإخوان السورين بأنفسهم في إطار إسلامي عالمي، فيحضر القرضاوي والغنوشي ومن في حكمهما من إسلاميين عرب .. في وعيهم لذاتهم وتعريفهم لدورهم. وبينما يقترن التوجه الأول، السوري، بتصور وطني وديمقراطي بصورة ما للشرعية، وبعلاقات أكثر كثافة وانفتاحا مع المعارضين “العلمانيين”، فإن التوجه الثاني يؤسس الشرعية على الشريعة وعلى مفهوم “الأمة الإسلامية”، ويتوافق مع علاقات أكثف مع الإسلاميين العرب والإسلام العالمي.
لكن هنا أيضا تقيم حدود هذا التوجه “الأممي” أو “العالمي” في الشرط الأساسي للإخوان كتنظيم معارض اضطرارا (واختيارا)، الأمر الذي يلزمه رغم كل شيء بقدر من “سورية” وقدر من “علمانية”.
وكمحصلة عامة، ربما يسعنا التكلم على إعادة تموضع واسعة، فكرية وسياسية، توسع هامش مبادرة الإخوان السوريين الذاتية، وربما تسهم في إعادة هيكلة الحقل السياسي السوري باتجاه أقل استقطابا وتشنجا. هذا تطور إيجابي يتعين الترحيب به من اية وجهة نظر غير سياسوية. وهو إن كان وثيق الصلة بإخفاق سياسة المجابهة في عامي 2006 و2007، وكذلك بانتهاء سياسة المحاور واسترخاء (وقتي على الأقل) للأوضاع الإقليمية، إلا أنه يستجيب لحاجات سياسية وإنسانية سورية يمتنع إلغاؤها. وحتى ما يحتمل أن تعرضه السياسة الإخوانية في المستقبل من مركزية إسلامية قد يكون محرضا مرغوبا لتنشيط أكبر للجبهة الفكرية في سورية، بعد سنوات من هيمنة تفكير سياسوي ضيق في الشأن العام السوري، يزنق نفسه في السياسة وحدها، ومن هذه في مسألة السلطة وحدها.
يبقى أن نتساءل عن خيارات الإخوان المحتملة فيما لو مضت الشهور ولم تحظ بادرتهم بأية استجابة من قبل النظام؟ نرجح أن لا عودة إلى سياسة المجابهة الخطرة، التي كانت عقيمة أيضا في النهاية. في الوقت نفسه، من غير المحتمل أن يثابر الإخوان على تعليق معارضتهم للنظام في مثل هذه الحال. لا يبقى ثمة خيارات متماسكة جيدة. وربما سوف يشبه التوجه الإخواني العام ما كانه في مطلع العهد الحالي: نقد هادئ النبرة للنظام، وانفتاح سياسي على المعارضة الداخلية، و.. الصبر. جبهة الخلاص تبدو لنا ضحية مرجحة في كل الحالات.
ربما يظهر المستقبل القريب تمايزا من نوع مختلف ضمن الطيف السوري المعارض: قوى ذات جذور اجتماعية و/ أو فكرية حقيقية (المعارضة الداخلية والإخوان) مقابل قوى بلا جذور (أكثر المعارضة الخارجية..)؛ تمايز كان الاصطخاب السياسي في السنوات الأربعة الماضية شوشه أو محاه.
خاص – صفحات سورية –