فرنسا والـ’ناتو’: انكفاء نحو الشرنقة الاورو ـ اطلسية
صبحي حديدي
قبل أيام شهدت الجمعية الوطنية الفرنسية، البرلمان، فاصلاً مسرحياً طريفاً، وضع أهل ‘اليسار’ في صفّ الدفاع عن الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول، ضدّ الأغلبية اليمينية الحاكمة التي تزعم الانتماء إلى إرثه السياسي، ولكنها تزمع التصويت على إعدام واحد من أهمّ قراراته التاريخية: الإنسحاب، في آذار (مارس) 1966، من القيادة المركزية للحلف الأطلسي، رغبة في الابتعاد عن سياسة المحاور بين واشنطن وموسكو، وتفادي استقطابات الحرب الباردة، من جهة؛ واحتجاجاً على ما تمارسه الولايات المتحدة من هيمنة شبه مطلقة في القيادة العسكرية المركزية للحلف، من جهة ثانية.
وقد يتفهم المرء نزاهة موقف الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الخضر بصدد مشروع طيّ القرار الدوغولي الشهير، بالنظر إلى موقف التيارين الرافض لأسباب إنشاء واستمرار وجود الحلف الأطلسي ذاته، في الجوهر، وليس مناهضة السياسات الاطلسية وحدها. أمّا موقف الحزب الإشتراكي الفرنسي فقد صنع فصلاً جديداً في النفاق السياسي الفاضح، لا لأي اعتبار آخر سوى أنّ الحزب كان، في حينه، قد اختلف مع الجنرال ديغول في قراره ذاك، أوّلاً؛ ولأنّ فرانسوا ميتيران، الرئيس الإشتراكي الأوحد في الجمهورية الخامسة، كان أطلسياً حتى النخاع، سواء في قراره إرسال القوّات الفرنسية للمشاركة المباشرة في تحالف ‘عاصفة الصحراء’، أو في عمليات الأطلسي على أرض يوغوسلافيا وسمائها، ثانياً.
الوجهة الثانية للنفاق تمثلت في أنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان قد اتخذ قرار طيّ ذلك الإرث الديغولي، وأعلنه على الملأ، قبل ستة أيام من موعد مناقشته في الجمعية الوطنية. صحيح أنّ التصويت عليه كان مضموناً تماماً، وأقرب إلى تحصيل الحاصل، بالنظر إلى امتلاك ساركوزي أغلبية برلمانية كافية لإقراره في الجمعية، إلا أن الإجراء كان سيبدو أكثر توقيراً للسادة نوّاب الأمّة لو انتظر ساركوزي أن يفرغوا من سجالاتهم، رفضاً أو تأييداً، وهذه بعض مظاهر الديمقراطية. أكثر من هذا، كان ساركوزي قد ألمح إلى هذا القرار أمام محفل ديمقراطي آخر غير الجمعية الوطنية الفرنسية، وقبلها بأشهر، في خطبته أمام الكونغرس الأمريكي، خريف 2007.
وبالطبع، تناسى الكثيرون أنّ ساركوزي ـ الذي يوصف عادة بـ ‘المحافظ الأمريكي الجديد، بجواز سفر فرنسي’ ـ لم يكن يجترح جديداً على محاولة سلفه جاك شيراك، الذي سعى إلى الغرض ذاته سنة 1995، لولا أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون سدّ عليه الباب حين رفض طلب شيراك بأن تتولى فرنسا قيادة الحلف في المتوسط، ولم يعد بأيّ امتياز كبير آخر في الواقع. فهل نال ساركوزي، اليوم، ما فشل شيراك في الحصول عليه قبل 14 سنة؟ كلا، استناداً إلى معلومات وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فدرين، ما خلا إضافة ضابطين فرنسيين أو ثلاثة إلى موقع قيادة في البرتغال، وآخر في مركز تدريب في الولايات المتحدة، تحت الإمرة الأمريكية دائماً!
والحال أنّ الحلف، الذي سيحتفل بعيد ميلاده الستين مطلع الشهر القادم، في مدينة ستراسبورغ الفرنسية وكيل الألمانية (والمغزى الرمزي وراء هذين الاختيارين لا يخفى، ويستعيد على الفور ذاكرة حربين عالميتين طحنتا فرنسا وألمانيا، واستقدمتا المخلّص الأمريكي عابر الاطلسي)، بدأ ذراعاً عسكرياً أمريكياً في الواقع العملي، حيث الوحدات الأوروبية المنضوية في عداده ليست أكثر من استكمال للزخرف الخارجي؛ وهكذا يظلّ الحلف اليوم، وهو يتضخم في العدد وفي العتاد وفي مساحة الإنتشار. لقد توسّع من 19 إلى 26 دولة، بينها ثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)، وثلاث دول أعضاء سابقة في حلف وارسو المنقرض (بلغاريا، رومانيا، سلوفاكيا)، وأمّا الدولة السابعة فقد كانت أصلاً جزءاً من يوغوسلافيا، وهي استطراداً بمثابة عضو سابق في الحلف الأحمر المنحلّ.
أمّا في مستوى التبشير المعاصر، الإيديولوجي والسياسي والعسكري والثقافي الغربي عموماً، والأمريكي أساساً، حول فلسفة خلود الحلف، فإنه يمكن أن يبدأ من القول إنّ هذا هو ‘الحلف الأكبر والأكثر نجاحاً في التاريخ’، حسب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والجنرال المتقاعد كولن باول؛ ولن ينتهي عند يقين ساركوزي بأنّ الحلف هو الضامن الوحيد للأمن الأوروبي، الذي يأتي ولا يأتي منذ عقود؛ فضلاً عن يقين دولة مثل تشيكيا، بأنّ الفارق بين ركونها إلى الدفاع الأوروبي مقابل الدفاع الأمريكي، كالفارق بين الأرض والسماء!
وبين هذا الرأي وذاك، ثمة إيمان رهط المحافظين الجدد وصقور الحرب الباردة بأنّ الحلف ليس الوحيد العسكري في عالمنا المعاصر فحسب؛ وليس التذكرة الوحيدة، تقريباً، بأنّ البشرية عاشت الحرب الباردة طيلة حقبة كاملة متكاملة، فحسب أيضاً؛ بل هو، أساساً ربما، حلف جغرافي ـ حضاري ـ ثقافي! هذا، في المرجع الأوّل، ما كانت الإنسانية قد فهمته من كلام فاكلاف هافيل، المسرحي والأديب والمنشقّ السياسي الذي حدث أنه كان آخر رؤساء تشيكوسلوفاكيا البائدة وأوّل رؤساء تشيكيا الوليدة، عندما احتضنت بلاده قمّة للحلف الأطلسي لا تشبه سواها من القمم، لأنها ببساطة كانت ‘قمّة التحوّل’، براغ 2002.
التحوّل العسكري؟ نعم، ولكن ليس تماماً… ليس حصراً! قال هافيل، في نبرة تحذير لا تخفي، إنّ ‘على الحلف أن لا يتوسّع خارج مضمار محدّد للغاية من الحضارات التي عُرفت عموماً باسم الحضارات الأورو ـ أطلسية أو الأورو ـ أمريكية، أو الغرب ببساطة’. هل كانت تركيا هي المقصودة بهذا التعريف المضماري الذي لا يفلح تماماً في تنقية كلّ الروائح العنصرية؟ أم أنها الدول التي ما تزال تعيش فيها جاليات مسلمة ضخمة؟ وما الدافع إلى إطلاق ذلك التحذير والقمّة تناقش توسيع الحلف شرق وجنوب أوروبا، وضمّ سبع دول جديدة إلى النادي؟ أيّ من هذه الدول (إستونيا وبلغاريا وسلوفينيا وسلوفاكيا ورومانيا ولاتفيا وليتوانيا)، لا تنطبق عليها معايير المضمار الحضاري الأورو ـ أطلسي؟
البعض يقول، بحقّ، إنّ أسئلة كهذه تظلّ نافلة كائناً مَنْ كان طارحها، ما دام جوهر الحلف عسكرياً ـ سياسياً، وما دامت الولايات المتحدة هي الدولة الأهمّ في بقائه على قيد الحياة، وفي تعزيز شوكته العسكرية – التكنولوجية. صحيح أنّ الفرنسيين والألمان حاولوا مضايقة واشنطن قبيل غزو العراق، واليمين في إسبانيا خسر معركة الحلف المقدّس مع الولايات المتحدة، وأفغانستان باراك أوباما تنقلب من جبهة ثانوية إلى أخرى مركزية مقابل العراق الذي يغلي ويتفجّر ويحترق، والتوغل الروسي في جورجيا قدّم أمثولة جديدة على العلاقات الدولية… ولكن من الصحيح أيضاً أنّ الولايات المتحدة لا تتسوّل قرارات الحروب من الحليفات الأطلسيات، ناهيك عن طلب المساعدة العسكرية من أحد، ما خلا ذلك الزخرف العتيق ذاته الذي يسبغ على الغزو صفة ‘إجماع المجتمع الدولي’، التي ترضي الدبلوماسيين وصنّاع التضليل والديماغوجيا.
ومن وجهة أخرى، ألا تعرف جميع دول العالم، وزميلات أمريكا في الحلف قبل الجميع، أنّ هزّة 11/9 منحت الولايات المتحدة أكثر من ترخيص عسكري واحد، وجنّبت واشنطن حرج التشاور مع الحليفات الأطلسيات كلما رنّ ناقوس في كنيسة؟ وإذا كان لقاء براغ ذاك قد استحقّ بالفعل تسمية ‘قمّة التحوّل’، فلم يكن ذاك لأسباب عسكرية أبداً، وإنما بسبب اختراق الحلف الأطلسي جميع مواقع حلف وارسو السابقة، وبلوغه ظهر روسيا، بعد بطنها وخاصرتها، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً!
من الصحيح، كذلك، أنّ التوازن داخل الحلف ليس مختلاً لصالح الولايات المتحدة فقط، بل هو يفتقر بالفعل إلى جملة العناصر التي تتيح استخدام مفردة ‘التوازن’ وفق أيّ معنى ملموس. مراسل صحيفة الـ ‘إندبندنت’ البريطانية اختار وجهة طريفة للتعبير عن هذا الإختلال، فسجّل حقيقة أنّ الوفد الأمريكي إلى ‘قمّة التحوّل’ تلك، دون سواها، شغل سبع طبقات من فندق الـ’هلتون’ الذي استضاف الوفود، مقابل طبقة واحدة للوفد الهولندي مثلاً! وأمّا في مصطلحات أخرى أكثر دلالة، فإنّ الأرقام كانت تقول إنّ الولايات المتحدة تنفق، وحدها، مليار دولار أمريكي يومياً على شؤون الدفاع، و45′ من مجموع الإنفاق الدولي، في حين أنّ مجموع الدول الأوروبية الـ 15 الأعضاء في الحلف تنفق قرابة 500 مليون دولار.
ومن الصحيح، ثالثاً وبناء على الفقرتَيْن أعلاه، أنّ وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رمسفيلد لم يوفّر فرصة واحدة للتذكير بأنّ قوّة التدخّل السريع (قوامها 21 ألف مقاتل) سوف تكون ‘جاهزة للتدخّل الفوري ضدّ الدول المارقة وضدّ الإرهاب’، أي ستكون مجرّد وحدة أخرى إضافية تابعة للجيش الأمريكي. الأمين العام السابق للحلف، اللورد روبرتسون، كان أوّل مَنْ تغنّى بمشروع هذه القوّة الجديدة، فاعتبر أنّ الحماس الأمريكي لتشكيلها هو ردّ حاسم على القائلين بأنّ الولايات المتحدة لن تشارك فيها. وأمّا الأمين العام الحالي، ياب دي هوب شيفر، فإنه على الأرجح يضمر الإعتقاد بأنّ الأمريكي سوف يقاتل من قاذفته في السماء، والأوروبي هو وحده الذي سيخوض في أوحال الأرض!
وقادة أوروبا، الذين سيتوافدون إلى ستراسبورغ وكيل بعد أيام، وسيتنافسون على خطب ودّ الرئيس الأمريكي الجديد، كانوا قبل 12 سنة قد توافدوا إلى العاصمة الهولندية لاهاي، للإحتفال بالذكرى الخمسين لخطة مارشال، والتنافس في التعبير عن عرفانهم بجميل الولايات المتحدة، فأصاخوا السمع إلى رسالة الردع المبطنة في دعوة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون إلى خطة مارشال من أجل إنقاذ أوروبا الشرقية. وما لم يقله كلينتون صراحة، قالته وزيرة الخارجية آنذاك، مادلين أولبرايت، في أعمدة الصحف: ‘ما لم تنتسب الديمقراطيات الجديدة في أوروبا الشرقية إلى النظام، فإن الشراكة الأطلسية في التجارة والأمن لا يمكن أن تتمّ’.
والشيفرة المبطّنة في رسالة أولبرايت كانت تقول ببساطة إنّ أمريكا أنقذت أوروبا من غائلة الجوع عبر خطة مارشال، وحفظت أمنها طيلة الحرب الباردة من خلال الحلف الأطلسي. وعلى أوروبا، هذه القارّة العجوز المثقلة أصلاً بتاريخها السابق للحرب واللاحق لها، أن تتحمّل أعباء التركة الثقيلة لانهيار المعسكر الإشتراكي وتَخَبُّط هذه الديمقراطيات الجديدة بين اقتصاد السوق وأغلال الماضي. وليس مسموحاً لأوروبا الغربية (الرأسمالية، الحرّة، المعافاة نسبياً بسبب من جميل الولايات المتحدة في حماية العالم الحر والرأسمالية) أن تزدهر أكثر من ازدهار الولايات المتحدة نفسها، وأن توحّد صفوفها بالإنتقاص من مبدأ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
فماذا سيقول أوباما، أو تقول وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، اليوم… إذْ تبدو دول أوروبا الشرقية في مغطس التأزّم المالي والإقتصادي ذاته الذي تغطس فيه دول أوروبا الشرقية، والولايات المتحدة على مبعدة جغرافية فقط من هذا الاعتلال الشامل الذي يُقعد اقتصاد السوق؟ وهل من مغزى في أنّ الجمعية الوطنية الفرنسية صوّتت على قرار العودة إلى القيادة المركزية للحلف الأطلسي، عشية يوم الإضرابات الطويل الذي دعت إليه عشرات النقابات الفرنسية، ممثلة عشرات الشرائح الاجتماعية، من عمّال ومزارعين ومهنيين وموظفين وطلاّب وتلامذة؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –