البشير والمحكمة والعرب
الياس خوري
هل صحيح ان الوطنية والعروبة تقتضيان الوقوف في صف الجريمة، ورفض محاكمة القتلة امام محاكم دولية؟
هل صحيح ان الأمم الضعيفة يجب ان تحارب العدالة الدولية، كي تدافع عن انظمة ديكتاتورية، جلبت لها الويلات، وسفكت الدماء، وحولت العالم العربي الى رجل العالم المريض؟
الحقيقة ان هذا المنطق يحيّرني. فنحن ندعو الى محاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين الذين يرتكبون المجازر في فلسطين، ولكن حين يصل الأمر الى ديكتاتور عربي، تبدأ التحفظات، ويلجأ المتحفظون الى قاموس جديد، يحاكم منطق العدالة الدولية، ويتهمها بالانحياز، تمهيدا لرفضها.
شاهدنا في لبنان فصول هذه الحكاية الغريبة، منذ اغتيال الحريري وبداية مسلسل الجرائم التي اودت بحياة نخبة من رجال السياسة والفكر والقادة العسكريين في هذا الوطن الصغير.
الفيلم اللبناني سوف يستمر، وسوف ترتفع الحجج: هل يحاكم العالم قتلة الافراد ويغض الطرف عن محاكمة قتلة شهداء قانا؟
لا ادري لماذا نضع الشهداء في مواجهة الشهداء. قتلة الحريري يجب ان يحاكموا، في الوقت الذي يستمر فيه العمل والنضال من اجل ان تصل العدالة الدولية الى وكر الجريمة المنظمة في اسرائيل.
فالشعوب الضعيفة، كشعوبنا، هي في امس الحاجة الى منطق العدالة، لأنها تتعرض لأبشع الانتهاكات، ولأن الديكتاتوريات اصابت من مجتمعاتها مقتلا، حين نجحت في تجويفها من مكوناتها، بحيث صار علينا الاختيار بين الديكتاتوريات والحروب الاهلية، وهما امران احلاهما مرّ، كما كتب ابو فراس الحمداني في زمن مضى.
لا ادري لماذا تدب الحميّة في جسد الجامعة العربية المتكلس، وترسل الوفود، وتتضامن الانظمة الافريقية، مع رئيس ارتكب جريمة واضحة المعالم في دارفور، وصار نموذجا جديدا لحاكم لا يتورع عن قتل ابناء شعبه.
عمر البشير ليس وحيد زمانه في علم الجريمة، لذا تصاب الأنظمة بالهلع، وخصوصا في العالم العربي وافريقيا. وهذا ما دفع دزموند توتو الى تذكير من فقد ذاكرته، بأن افريقيا كانت اول من طالب بالعدالة الدولية، وبأن دعم رفض الرئيس السوداني المثول امام المحكمة يشكل اساءة الى نضال الضعفاء من اجل العدالة.
توتو يمثل الى جانب مانديلا رمزا للنضال في جنوب افريقيا ضد التمييز العنصري. فهذا الاسقف المستنير الذي لعب دورا اساسيا في بث روح العدالة والمصالحة في بلاده التي مزّقها التمييز العنصري، يحذّر اليوم، افريقيا من الاندفاع الى تغطية الجريمة في السودان. فالنضال من اجل حقوق الانسان والعدالة، هو جوهر النضال من اجل التحرر الوطني.
الاشكالية التي تقول بأن النضال من اجل حقوق الانسان، نقيض النضال من اجل التحرر، هي الفخ الذي نصبته الهيمنة الاميركية من اجل تفكيك العالم الثالث واستتباعه. السقوط في هذا الفخ كان جزءا من زمن الخيبة، الذي صنعته المرحلة ما بعد الكولونيالية، حين نجحت الديكتاتورية في الاستيلاء على مقدرات الشعوب عبر اللجوء الى القمع الوحشي، والى بناء حداثة القمع استنادا الى العلاقات العشائرية والطائفية والاقوامية.
لقد وصل هذا الالتباس الى ذروته، حين اندرجت اسرائيل في الخطاب الأحمق الذي صاغ اللغة العنصرية التي استخدمت في “الحرب على الارهاب”، والتي قادت اميركا والعالم الى الكارثة.
النجاح الاسرائيلي في حجب واقع الاحتلال، وتصوير المعركة كجزء من “الحرب على الارهاب”، لم يكن ممكنا لولا ازمة الحركة الوطنية الفلسطينية وهزيمة الانتفاضة الثانية. غير ان هذا التزوير السافر للغة، لم يستطع حجب الحقيقة، التي اتخذت شكل جريمة الابادة في الحرب الفوسفورية على غزة.
التحرر الوطني لا يمكن ان يتخذ معناه، الا في وصفه دفاعا عن العدالة والحرية، من هنا فإن هلع الانظمة من محكمة الجزاء الدولية، او هذا الخوف المستتر في لبنان من المحكمة الدولية الخاصة، ليسا سوى محاولة لإنقاذ انظمة الفساد والقمع، وتأبيد سيطرتها وانتهاكاتها.
هل كان علينا دعم الديكتاتور الليبي في قضية لوكربي، وماذا كانت الشعوب العربية لتستفيد من دعم نظام متخشب؟ هل كان الأدب العربي ليستفيد لأن الزعيم الليبي اعلن نفسه كاتبا للقصص القصيرة، وبذا فتح الطريق امام صدام حسين كي يعلن نفسه روائيا، وهو اليوم يستعد كنظيره المصري لتوريث السلطة لاحد ابنائه، وبذا تعم الجمهوريات الوراثية التي افتتحها الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد، ويكون المشرق العربي قد عاد مئات الاعوام الى الوراء؟
لا ادري ما هي خطط البشير التوريثية، لكنني اعرف ان النظام التونسي نجح في استصدار قرار من الامن العام البناني بعدم منح تأشيرة للكاتب المنصف المرزوقي من اجل دخول لبنان، وهو انجاز يضاف الى انجازات الرقابة اللبنانية، التي كان آخر ابتكاراتها منع فيلم “هلب” للمخرج اللبناني مارك ابي راشد، لأنه لم يرق للمراجع الكاثوليكية، التي تدير مع المراجع الدينية الأخرى، الرقابة الفعلية على الثقافة في لبنان.
لا استطيع ان افهم كيف تعارض الحكومة اللبنانية مسألة احالة البشير على محكمة الجزاء الدولية! وكيف يتفق هذا مع مطالبتها بالمحكمة الدولية ودعمها لها؟ هل هذا هو التضامن العربي؟ تغطية جريمة واضحة المعالم ذهب ضحيتها الالوف، في ممارسة وحشية للقمع لا تقارن الا بالسلاح الكيميائي الذي ضرب حلبجة، او بالكارثة القمعية التي ضربت حماه.
هل علينا ان نتضامن مع القاتل؟
السؤال البليغ الذي تطرحه قضية الرئيس السوداني المتهم، هو كيفية اعادة بناء العلاقة بين التحرر الوطني ومقاومة الهيمنة والاحتلال من جهة، وبين قضيتي الحرية والعدالة، من جهة اخرى؟
من دون اعادة الامور الى نصابها، سيبقى العالم العربي مريضا، وستبقى قضية الحرية في قبضة اعدائها.
النهار