الوعظ والاتعاظ لا يكفيان لفهم الحدث السوداني
حسن شامي
يبدو أن القرار الصادر عن محكمة الجنايات الدولية بتوقيف الرئيس السوداني عمر البشير المتهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم في حق الإنسانية قد أيقظ كثيرين، عربياً ودولياً، من غفلتهم عن وقائع وحوادث فظيعة في اقليم دارفور السوداني، حصلت وتواصلت قبل وخلال سنوات. فعلى جاري عادة «معرفية» ترقى، في حواضر العالم العربي والإسلامي، الى عصر النهضة، يصل التاريخ الى الأذهان عبر ضربة أو صدمة زلزالية ومزلزلة تستدعي التنبّه والاستفاقة واليقظة، بحسب ما يستفاد من عنوان كتاب شهير لجورج أنطونيوس عن «يقظة العرب» وضرورة تنبّههم الى حفلة الخداع التي دعوا اليها وشاركوا فيها سادرين وغافلين أثناء الحرب الأولى وما تلاها.
ويستفاد من هذا التنبّه الصاخب أنه كان يمكن، قبل صدور القرار الجنائي الدولي، أن تبقى حوادث القتل والغزو والتهجير في حدود الفظاعة التي تحفل بها الحروب والنزاعات الأهلية في بلد واحد، دون أن تحظى هذه الفظاعة بصفة سياسية أو قانونية، سلباً أم ايجاباً. والحال أن التحقيقات الميدانية وتقارير المنظمات الدولية العاملة في دارفور اضافة الى انتشار قوة دولية وافريقية ومحاولات متكررة للتوصل الى تسوية بين الانفصاليين وبين المتشددين في إحكام القبضة المركزية، ساهمت كلها في إضفاء الغموض على مأساة دارفور. وهذا ما يولّد الانطباع بأن هذه المأساة تحصّلت على نحو مفاجئ على صفة الحدث السياسي «التاريخي» وضرورة معالجته في اطار القواعد والقوانين والأعراف الدولية. وهذا أيضاً، أي تحويل وقائع فظيعة انسانياً الى حدث سياسي راهن، ما يجعل من استعراضات عمر البشير وحشود المؤيدين له، على ايقاع رقص جسدي وبلاغي يهز العصا ويرفع حذاء الزعيم وجزمته الى مصاف درع حربي معهود في طقوس وأهازيج القبائل ومفاخراتها ومقارعاتها، الى حدث يتعدّى الفولكلور، بحيث يكتسب مباشرة صفة العنتريات القادمة من زمن آخر وغير المبالية بالضوابط والمواثيق الدولية العصرية.
كان يمكن إذاً لمآسي دارفور أن تظل طرفية وثانوية لا تستدعي الاهتمام ولا الانتباه، ما دام السودان لا يهدد البلدان المحيطة به ولا أمنها الوطني والإقليمي. قرار المحكمة الجنائية الدولية معطوفاً على تأييد دول كبرى لقرارها، بما في ذلك تلك التي لم توقع على انشائها، مثل الولايات المتحدة الأميركية مخافة تعريض جنودها وضباطها الخائضين في غير مكان في حروب، لا يتمتع بعضها بالشرعية الدولية المصطلح عليها، للمحاكمة والمحاسبة، هو ما يصنع من المأساة قضية سياسية وحقوقية بارزة ذات مفاعيل ومضاعفات كبيرة. مسارعة بعض المسؤولين العرب الى التحرك تأتي لتدارك المفاعيل المحتملة للقرار الجنائي الدولي وما قد يترتب على السعي الى تنفيذه من اضطراب اقليمي ودولي ودفع النزاعات العرقية والأهلية السودانية الى المزيد من الكوارث. وعلى نحو موازٍ تبدو مسارعة بعض الكتّاب والإعلاميين والمحللين العرب أشبه بمواكبة وعظية وارشادية تستقبل القرار كما لو أنه ايذان ببزوغ فجر جديد لا مكان فيه لتمادي المستبدين في غيّهم وجرائمهم، وجرى اخراج هذا الاستقبال، لدى العض، في صورة تنبّه أو صحوة كبرى، مما استدعى ويستدعي تبريراً للغفلة عن مقدماته وعن حيثيات تحوله الى حدث ممتاز.
وأفصح هذا التبرير، والحق يقال، عن قدرٍ من قلّة التواضع، فجرى أحياناً تعليل الغفلة هذه بعزوها الى الانشغال بقضايا مركزية، مثل حرب غزة والانقسام الفلسطيني والصراع (أو اللاصراع) العربي – الإسرائيلي، مما لا يترك متسعاً للاهتمام بمأساة أو أزمة دارفور.
والحق أن التواضع، أو بعضه في الأقل، يحمل على الإقرار بوجوهٍ أخرى للمسألة أقرب الى الواقع. من ذلك أن السودان، بلداً ومجتمعاً ونزاعات أهلية وعرقية، يشغل حيزاً طرفياً وثانوياً في المخيلة التاريخية والثقافية للعرب المحدثين. والأمر هذا كان ينطبق على بلدان ومجتمعات أخرى، عربية واسلامية، مثل أفغانستان قبل اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) وارتقاء منظمة القاعدة ونظام طالبان الى مصاف نجومية عالمية ودولية. وليس في الأمر نقيصة أو انتقاص من قيمة بلدان ومجتمعات تشترك معنا في صفات جامعة لا تقتصر على الإنسانية المجردة، بل تطاول التاريخ والثقافة واللغة وروابط الجغرافيا. فالتاريخ مسرح تبدّل وتفاوت وتراتبية ومستجدات، صغيرها وكبيرها. وكان بعض المؤرخين المرموقين (مثل الراحل ألبرت حوراني) يلحظ بحق أن وجود صفة اسلامية عريضة تشترك فيها وتصدع بها عشرات المجتمعات والأقاليم لا تمنع من وجود فوارق واختلافات في التشكل التاريخي لهذه المجتمعات ومبادئ تنظيمها الاجتماعي. والدعاة فقط يسعهم أن يرفضوا هذه التباينات القائمة ليس فحسب بين بلدان ومجتمعات برأسها، بل كذلك داخل المجتمع أو البلد الواحد. وينطبق هذا على العروبة والعالم العربي، وعلى أوروبا وعلى الكاثوليكية المشتركة بين مجتمعات مختلفة من حيث العقلية والتطور الاجتماعي والموقع السياسي. أما المؤرخون، أو حتى الملتفتون الى التاريخ وشواغله، فهم أولى بتعهد هذه التباينات ليس بهدف عزل المجتمعات عن بعضها البعض، بل لكي يكون التقريب بينها، بما في ذلك احتمالات توحدها التدريجي، مستوفياً للشروط العقلانية والمادية القابلة للاستمرار ولتحقيق التقارب والانضواء في صفة جامعة.
وهذه ليست حال من يتلقى الحدث السوداني مهللاً وواعداً ومتوعداً، فهو ليس له من حدثيته سوى تلقيه، مما يحتاج الى احتضانه دون تمحيص. وكل ذلك لتوليد الاعتقاد بمجاراة العصر والتطابق معه خشية من اتهامه بالشقاوة والبدائية، ويؤسس هذا لسلوك اتباعي وتبعي وليس لسلوك نقدي، علماً بأن الحداثة السياسية وعالمية الحق والعقل توفرانه، للراغب فيه بالطبع. وفي هذا المعنى لا تناقض بين الإقرار بالحاجة الى مرجعية حقوقية دولية وبين تمحيص كل قرار لالتقاط دلالاته والخوض في حيثياته. وفي هذا الإطار يتمتع الرأي المناهض لازدواج المعايير والكيل بمكيالين (في ما يخصّ الجرائم الإسرائيلية – مثلاً) بكامل وجاهته، فحين يغلب الاستنساب والمحاباة والتواطؤ، تتضاءل حظوظ استقرار المرجعية العالمية للمواثيق الدولية، وينفتح الباب على السعي المحموم الى القوة، ما دام القوي معذوراً لا يحاسَب ولا يعاقب.
الحياة