الأزمة المالية في الولايات المتحدة: المنافسة ام التنسيق ؟
كليف كروك
عندما وقعت الأزمة في الولايات المتحدة والأسواق المالية العالمية، بدأ ترداد رأيين. الأول يعتبر أن الضبط هو الحل ويجب اللجوء إلى مزيد منه. والثاني هو أن التنظيم هو المشكلة وفرض المزيد منه يزيد الأمور سوءاً. ومع كل هذا الإنشاد، لم يكن لدى أي من الكَوْرَسين الوقت للنظر إلى ما جرى. ناهيك عن أن التفاصيل تستدعي التوقف عندها قليلاً.
أنا أؤيّد السوق، وأحذّر باستمرار من النتائج غير المرغوب فيها للضبط المتسرّع أو المفرط. لكن في الحالة الراهنة، لا تنفعنا الدروس المعتادة التي تلقّيناها. فهذه المرة، عناصر الإخفاق الواسع النطاق في الضبط هي بما لا يقبل الجدل في صلب ما جرى. إذا أنكرنا ما هو بديهي كي نترك أحكامنا المسبقة، فنحن ننزع الصدقية عن تقديرنا للأسواق، ولا نملك ما نقدّمه كسياسة ذكية.
نادراً ما يكون للأزمات المالية سبب واحد، والأزمة الحالية ليست استثناء. لكن مع الاحترام الكامل لتعقيدات المسألة، أيستطيع أحد أن ينكر أن سوق الرهون العقارية ذات التصنيف الائتماني المنخفض في الولايات المتحدة كانت عنصراً أساسياً في الأزمة؟ وهل يستطيع أحد ما عدا آلان غرينسبان، الرئيس السابق للاحتياطي الفيديرالي، أن ينظر إلى الطريقة التي جرى التعاطي بها مع المسألة ويقول إنها أديرت كما يجب؟ وفي أصل الأزمة، كان الغش عاملاً بلا شك – والغش غير قانوني، بوجود قواعد جديدة أو من دونها. إلا أن الممارسة السيئة التي لا يمكن تبريرها انتشرت أيضاً لدى منشئين كانوا منظَّمين قليلاً أو غير منظّمين على الإطلاق. كان يمكن تفادي جزء كبير من هذا الإقراض السيئ من خلال المعايير الاحترازية العادية – وليس هذا الكلام الحكمة التي نكتشفها بعد وقوع الأمر. لقد حذّر حاكم الاحتياطي الفيديرالي السابق، الراحل إدوارد غرامليش، كثيراً من هذه الثغرة التنظيمية.
كان محقاً والسيد غرينسبان كان على خطأ. يحتاج قطاع الرهون العقارية ذات التصنيف الائتماني المنخفض إلى مزيد من التنظيم. هل كان هذا صعباً جداً؟
والمؤشر الآخر عن الفوضى الحالية كان التأمين. وهذا أكثر تعقيداً لأنه قد يكون للتأمين العديد من الفضائل – مثل ترويج توزيع أفضل للمخاطر – التي ينادي بها المدافعون عنه. السؤال المطروح هو: هل يستطيع التنظيم الذكي أن يأمل الحد من بعض سيئات التأمين؟
مني تأمين الرهون العقارية بإخفاقين كبيرين. أولاً، شجّع الإقراض المتهوّر لأنه يمكن مزج المخاطر وتقنيعها، وتمريرها (كما يُزعَم). وكان الهدف أن تقدّم وكالات التصنيف الحل لهذا الأمر لكنها فشلت، ولا شك في أن أحد الأسباب هو تضارب المصالح (بائعو الأوراق المالية المعنية وليس شاروها هم الذين يدفعون لهذه الوكالات). ثانياً، سمح التأمين للمصارف التهرّب من مقتضى حفظ رأس المال، مما سمح لها ولأدواتها من خارج الموازنة العمومية تحقيق رافعة مالية أعلى بكثير.
أظهرت التجربة أن المخاطر التي تخلّصت منها المصارف والمؤسسات التابعة لها من خلال التوريق كانت أقل مما اعتقدت. ربما كانت المخاطر غير مباشرة، مثلاً من خلال المشاغل المتعلّقة بالسمعة، لكنها كانت لا تزال موجودة. يتطلب تطبيق التأمين معايير جديدة في مجال السيولة ونسباً رأسمالية أعلى، إلا إذا كنت ترغب في المجادلة بأنه يجب ألا تتعرّض المصارف لأي تنظيم لكفاية رأس المال. وسواء كنت تسمّي ذلك “تنظيماً أشد صرامة” أو “تحديث التنظيمات”، إنها مسألة دلالات لفظية وحسب.
فشل وكالات التصنيف مهم ومثير للقلق لأنه يشير إلى أنها لا تستطيع النهوض بالعبء الذي تصوّره لها المنظّمون ذوو اللمسة الخفيفة (دولياً وفي الولايات المتحدة أيضاً) – إلا إذا جرى تنظيم الوكالات بذاتها للحد من تضارب المصالح، وحتى لو حصل ذلك، على الأرجح أنها ستبقى عاجزة عن القيام بمهمتها. ولذلك يجب إيجاد بدائل عن و/أو مكمّلات لإشرافها الفاشل.
وإحدى المقاربات هي فرض حدود على الرافعة المالية، والمقاربة الأخرى هي إرغام المقرضين على أن يبقوا مكشوفين حيال القروض التي يتم تحويلها إلى أوراق مالية. وهناك فكرة قديمة، لكنها ليست أقل فائدة في هذا الإطار، تتمثّل بالطلب من المقرضين أن يعمدوا بانتظام إلى طرح سندات دين ذات أحقية سداد ثانوية وطويلة الأمد وغير مؤمَّنة – يكون لشاريها حافز قوي للتقصي جيداً عن السلامة المالية لمصدريها.
لا تأتي مسوّدة الإصلاح التي اقترحها وزير الخزانة الأميركي هانك بولسون الشهر الفائت، على ذكر أي من هذا، مع أنه يجب ألا ننتقدها كثيراً في هذا المجال. فخطته تهتم بتحسين الهندسة التنظيمية – تبسيط من يفعل ماذا وتوضيحه – وليس بوضع قواعد جديدة. فمما لا شك فيه أن التنظيم المالي الأميركي الفوضوي يحتاج إلى ترتيب، وخطة بولسون منطقية في معظم النواحي. لكن هناك استثناء كبير واحد حيث يلتقي الشكل مع المضمون بالنسبة إلى الآلية التنظيمية.
يقتصر الإشراف الاحترازي الذي تتحدث عنه مسودة وزارة الخزانة الأميركية على الوكالات التي تفيد من ضمانات حكومية واضحة (مثل التأمين على الودائع). بعبارة أخرى، لن يغطّي هذا الإشراف المصارف الاستثمارية. وهذا غريب. في عملية إنقاذ مصرف “بير ستيرنز” (بورصة نيويورك: BSC) وفي إطار التسهيلات الجديدة في مجال السيولة التي منحها الاحتياطي الفيديرالي للمصارف الاستثمارية (ولو بصورة “موقتة”)، وسّعت السلطات شبكة الأمان ومنحت هذه المجموعات حمايات قيّمة جديدة. يمكننا أن نناقش إذا كانت هذه الخطوة حكيمة. لكن بما أنها حصلت، يجب أن تكون هناك بالتأكيد خطوة تنظيمية في المقابل.
الملاذ الأخير لمن يعارضون التنظيم بالفطرة هو القول بأنه في اقتصاد معولَم، تقضي المنافسة الدولية على الجهود الهادفة إلى التشدّد في القوانين في مكان معيّن. هذا صحيح بالطبع، والمنظمون الماليون الوطنيون المعرّضون أكثر من أي وقت آخر للوقوع رهينة مرؤوسيهم، يعون ذلك تماماً. الطريقة الصحيحة للتعامل مع الوضع هي من خلال التنسيق الدولي. وهو أمر لا مفرّ منه في المدى الطويل – ففي مختلف الأحوال، يجب مراجعة اتفاقية بازل حول كفاية الرساميل المصرفية. لكن يجب عدم الانتظار أكثر للتشدد في القوانين الأميركية حول الإقراض العقاري والإشراف على المصارف الاستثمارية.
ترجمة نسرين ناضر
(كاتب عمود خاص متخصص بشؤون واشنطن في “فايننشال تايمز“)