شريعة غاب نعم.. ولكن أين الغابة؟!
فرج بيرقدار
في جهات كثيرة من عالمنا تستقيل أو تُقال حكومات وقادة وشخصيات بارزة، حين لا يحالفها النجاح في تحقيق شعاراتها ووعودها.
في جهات أخرى زعماء “ملهمون وحكماء وخالدون” يتباهون بنجاحهم في تحقيق عكس ما يعلنون، فيكافئوا أنفسهم، وتكافئهم “الجماهير” بمسيرات من التأييد والتمجيد. وما دام الأمر كذلك، فلا بد من “رضوخ” أولئك الزعماء لمشيئة الجماهير المطالِبة بتمديد أو تجديد أو تأبيد مواقعهم عروشاً ونعوشاً!
ممارسة الزعماء في الجهات الأولى مرشحة للاتهام بأنها “بدعة”، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!
ممارسة الزعماء في الجهات الأخرى لا ترضى وصفاً بأقل من الإبداع!
لكأنه عصر انحطاط جديد في عباءة من الشعارات الوطنية والقومية الفاسدة أو المنتهية صلاحيتها.
* * *
كان فأر الشك يقرض روحي، وصحوت على حين شباب أو كهولة، لأرى الفأر جرذاً تهرب منه القطط ثم الكلاب ثم الذؤبان. لم أقل “الذئاب” لعلي أكسر السجع مع “الكلاب”، فقد كثر السجع في مقالتي، ولطالما فتن السجع أحباب الله وأعداءه، وأنا لا من هؤلاء ولا من أولئك.
تجرَّعت في طفولتي شعارات “الوحدة والحرية والاشتراكية” البعثية.. تجرعتها إلى حد الكفر.
لا أشك الآن في أن الحليب كان فاسداً، وإلا فما معنى أن يتكاثر أعضاء الجامعة العربية، وسيتكاثرون أيضاً وهم سعداء، على ما يبدو، بحكمة “الصديقين” سايكس وبيكو، رغم كل اللعنات التي أحاطت بهما في مناهجنا المدرسية ضمن كتب التاريخ والجغرافيا، ولاحقاً في كتب “الثقافة القومية الاشتراكية”؟!
نعم كان الحليب فاسداً، وإلا فما معنى أن يفضي شعار الحرية بعشرات وربما مئات الآلاف إلى السجون من أجل كلمات ليس لها، مهما بلغت حدَّتها، أن تكون سلاحاً حربياً بأية حال؟!
وما معنى الاشتراكية إذا كان “بنو تميم وقيس ولفُّهما” استفردوا بقيادة “الدولة” وحالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية وواجبات المواطن بغض النظر عن حقوقه، هذا ناهيكم عن النفط والدم والدمع والماء مثالاً لا حصراً؟!
ولماذا صادروا لنا أيقوناتنا من أمثال عارف دليلة وميشيل كيلو وأنور البني ومحمد فائق المير ومحمود عيسى وكمال اللبواني وعلي برازي، والسلسلة تطول…؟!
لم يوفِّروا حتى فراس سعد، ذلك الشاعر العذب والشرس في آن معاً، الأمير والمتشرِّد في آن معاً، وليس من خيار له الآن سوى أن يتمترس في خندقه الشعري الأخير، كما يليق به وبالشعر!
ما الذي كان يضيرهم لو تركوا لنا هؤلاء وأمثالهم، واكتفوا بالازدلاف إلى حسن العاقبة مع ثرواتهم التي تفيض الآن على أحفاد الأحفاد!
أهو الحكم العضوض أم استفشار جنون العظمة أم الخوف مما سلَّفوا واستلفوا؟
* * *
اختلط الحابل بالنابل، ولم أعد أعرف ما معنى أن أكون وطنياً أو قومياً، ولكنني كنوع من الاحتراز أقول: إذا تعارضت الوطنية أو القومية مع إنسانيتي، فأنا ضدهما حتى لو كانتا ملفوفتين بالأعلام والعمائم، ومحفوفتين بقداسة اللعنات المباركة.
* * *
أحاول أن أكون صريحاً وواضحاً وجريئاً كما يليق بي كسوريّ ولو بعد بطحة عرق.
ما أكثر ما قرأت من أهجيات لما يسمى “شريعة الغاب”، وكم بودي أن أعيد الاعتبار لهذه التسمية.
ذلك لأنها تنطوي على وجود “الغابة” في أسوأ الأحوال.
لم يخطر في بالي إمكانية أن تأتي سلطة، تحتطب الأخضر واليابس، وتشيع التصحُّر حتى في النفوس والأحلام، ومع ذلك تستمر بنفس الشريعة!
سوريا الآن نموذج باهر لشريعة الغاب ولكن بدون الغابة.
على أية حال ليس هذا اكتشافاً، ذلك لأن الرائز الأهم في تشخيص الاستبداد، أنه نظام سياسي متحلل من أي منظومة قيم أخلاقية. وهو محروم من نعمة النقيض، ومصاب بلعنة التناقض بين ما يدَّعي وما يفعل.
أناخت على ظهري “جبهة الصمود والتصدي” إلى أن هتكت روحي، التي لم تستطع الصمود في وجه تلك الجبهة ولا التصدي لها، في حين ظلَّت إسرائيل آمنة مطمئنة، بل إنها دخلت إلى قاعة المفاوضات مراراً، وستدخل إليها لاحقاً.
لإسرائيل قاعة المفاوضات، ولشرفاء سوريا قاعة محكمة أمن الدولة وشبيهاتها من المحاكم المدنية التي لم يغيِّر وصفها “المدني” من سطوة تدخُّل “أجهزة الأمن”، التي نجحت بامتياز في النهوض بنقيض مهامها المفترضة على نحو لم يعد فيه أحد آمناً حتى لو كان من الحاشية!
ثم حوصرتُ وأمثالي بمقولة “التضامن العربي” إلى أن انهارت المقولة، ولا ضلع لنا، نحن متسوِّلي الديموقراطية، في ذلك، غير أنهم رتَّبوا لنا عملية جراحية لزرع اسطوانة جديدة أسموها “التوازن الاستراتيجي“.
نَفَس يا رسول الله نَفَس!
رحلة طويلة آلت في النهاية إلى زنزانة “وحدة المسار” بين الشعبين الشقيقين في سوريا ولبنان.
سامحونا يا أصدقاءنا في لبنان، وتقبَّلوا شكري وشكر الكثيرين من أهلي لتوقيعكم معنا على “إعلان بيروت- دمشق“.
تعرفون كم هو إعلان بسيط ومرن ومهاوِد في محاولته غسل بعض آثار العار، الذي خلَّفه انعدام الحكمة والرحمة معاً، لدى حكَّامنا في التعامل معكم أيام الاحتلال.
ولكنكم تعرفون أيضاً كم كانت ضريبة الإعلان باهظة.
بودي أن ألفت انتباهكم إلى أن ما لحق بنا جرَّاء معارضتنا للاحتلال، منذ بدايته، قد لا يقل عما لحق بكم، مع حفظ الفوارق الآن بين مخاطر الاعتقال ومخاطر الاغتيال.
مع ذلك شاركتمونا مشكورين في التوقيع على الإعلان الذي أتمنى له، على بساطته، أن يكون بذرة صالحة لرسم علامة فارقة بيضاء، من غير سوء، على طريق مستقبل شعبينا الشقيقين، بالمعنى الحضاري والأهلي، وليس بالمعنى التسلطي أو الأسطوري الذي عاينَّاه وعانيناه وقرأناه في قصة هابيل وقابيل، على ما في القراءات من تنوع واجتهادات.
بالطبع لا يعني ذلك أني لا أضع يدي على قلبي وأنتم فيه.
سوريا أخت لبنان بالأصالة، ولكن “الوكالة” لن تدخر جهداً من أجل تحويلهما إلى لقيطين، ومن ثم ادعاء فضيلة تبنيهما.
* * *
هكذا.. بعض الجهات في العالم تمتلك اسمها ومعناها عن جدارة تليق بها، ولكن ما يحزنني أن بعض الجهات لا تمتلك حتى الآن غير الرمل والرماد، وربما هي مشرفة على الهاوية، إن صَدَقَ الطغاة والعرَّافون وتلجلجَ المثقفون.
* * *
الظنون وقائع محتملة، وأنا أظن بأن الآلهة استقالت من سوريا، وعلى السوريين أن ينتزعوا أشواكهم بأيديهم وأيدي أشقائهم وأصدقائهم.
يبدو لي أن النهايات، تأتي دائماً أكثر وضوحاً وبساطة وحكمة من البدايات.
إن هي إلا مترين مربعين يكفيان لقبر عادي، ويكفيان لحديقة عامة، ويكفيان أيضاً لديكتاتور مع سلالته المسكينة، ثم يعود القمح من أوله في هيئة إنسان يحب أرضه وعمله، ويرى نفسه في مرآة الآخرين