النيروز: شيءٌ من عالم يشحّ سحره

رستم محمود
بشكل شخصي، دونما شك، ثمة تضخم ما في وعينا القومي الكردي، فيما يخص الاحتفاء بمناسبة النيروز. فالحالة السياسية الكردية الخاصة في الشرق الأوسط، منذ ما يزيد على نصف قرن، نجحت إلى حد بعيد في اعتبار الاحتفال بذلك اليوم حدثاً مفارقاً في إظهار التباين بين الكرد وأقرانهم الآخرين في الشرق الأوسط. فقد قفز عيد النيروز والاحتفاء الكردي به إلى مرتبة الوهم المشترك بين أفراد الجماعة، الشيء الذي يسميه أنطونيو باث “بذرة الهوية القومية”. لكن السؤال الأكثر أحقية في هذا المقام: ما الذي يجعل حكاية ما ـ قسمها الحقيقي ضئيل إلى حد بعيد مقابل قسمها المتخيل والمتوهم، خصوصا أن هناك روايات كثيرة بشأنها، ولا يوجد نص مكتوب ومثبت لتأكيد أصالتها ـ ما الذي يجعل، حكاية بمثل الدخانية تلك تصمد في وجه كل موجات الحداثة، وكل رياح تفكيك الأساطير، وتثبيت العقلانيات ما الذي يجعلها إلى الآن مولدة لمعان ودلالات مؤثرة، بل لمنتجات وبواعث رمزية سياسية وثقافية ومادية مباشرة.
الحكاية كما في صدر الكردي:
“في غابر الأزمان، كان ثمة ملك ظالم يدعى ضحاك، وقد كان ضحاك هذا يعاني من ألم شديد في ظهره. وحين استشار الأطباء والحكماء نصحوه بأن يضع مكان الألم جلد شاب ذبح حديثا، على أن يكرر ذلك في اليوم مرتين، فما كان من ذلك الملك الظالم ضحاك، إلا أن طلب من أقوى الحدادين، وكان يدعى “كاوا” أن يتولى المهمة، ويجلب له كل يوم شابين ويذبحهما ليتسنى للملك الشفاء من آلام ظهره. لكن كاوا الحداد لم تكن نفسه تطيعه على فعل ذلك، فقد كان يذبح أحد الشابين اللذين كان يأتي بهما زبانية الملك ضحاك، ويطلق سراح الآخر، وعوضاً عنه كان يخدع الملك بجلد أحد الغزلان، وكان يطلب من الشبان الذين يطلق سراحهم، أن يصعدوا للجبال، وأن يشعلوا النيران حين يطلب هو منهم ذلك. وفي أحد الأيام أقدم كاوا الحداد على قتل الملك ضحاك الظالم، وهرع إلى الشباب الآخرين الذين لاذوا بالجبال، وحين لحقهم جيش الضحاك، حالت النيران التي أشعلوها بينهم وبين الجيش المهاجم، وبذلك نجوا. وفي صباح اليوم التالي، أي في صباح الحادي والعشرين من آذار، كان العالم من دون ضحاك الظالم، فكان النيروز، أو “نه روج” أي “اليوم الجديد”.
ليس للحكاية التي يتداولها الناس منذ عشرات الأجيال أي تحديد جغرافي أو زماني مضبوط، فهي رواية في الهواء، لذا تبدو أسهل منالا في تخطيها للعقبات الزمنية ـ انتصارات العقل ـ في كسره للأشياء غير المعقولة. فمع احترام البعد السياسي والقومي الذي شحنت به تلك الحكاية منذ نصف قرن، ظل الأكراد بالملايين إلى يومنا هذا، وبمختلف درجات وعيهم، وبتباين طبقات حالتهم الاقتصادية، يشعلون النيران في ليلة النيروز تلك، ويخرجون إلى البراري في صباح اليوم التالي ـ صباح الحادي والعشرين من آذارـ احتراماً والتزاماً لشيء ما، هي حكاية متصورة في آخر المطاف.
غير الأكراد يحتفل الفرس بالنيروز، الذين كان احتفالهم يحاكي الاحتفال الكردي، إلى ما قبل ثورة الخميني، حيث صارت لهم طرق احتفال أكثر محافظة، فيتم زرع بعض الحبوب في صحن، حتى إذا انبتت وأورقت وضعت هذه الباقة الخضراء على الخوان المخصص للسينات السبعة، أو “هفت سين” كما تدعى، وهي أشياء تبدأ أسماؤها جميعاً بحرف السين: سابزي (خضرة)، سيف (تفاح)، سركة (خل)، سير (ثوم)، سكة (قطعة نقود)، سمانو (حلويات)، سماغ (سمّاق). وعلى بساط أبيض فوق المائدة نفسها، غالبا ما يوضع القرآن الكريم، ومرآة، وصور مقدسة للامام علي ونجله الحسين عليهما السلام. ويكون الغرض من جمع هذه الأمور هو إبراز مكان ما في المنزل، هو الذي تقع عليه العيون في نفس الوقت الذي يحدث فيه التحول الطبيعي، وان يجتمع أفراد العائلة حول هذه المائدة العامرة، لتلاوة الدعوات الخاصة بهذه المناسبة. وعلى اثر ذلك يتبادل الجميع العناق والتهاني والأزهار والهدايا، ويأخذ رب الأسرة في توزيع قطع النقود على صغاره وأهل بيته، وقد يعتني بتقديمها لهم بين صفحات المصحف الكريم تبركاً.
وأيضا يحتفل باليوم نفسه، الأوزبك والأفغان والتتار والأذريين والكزاك والكزجر والتركمان والمجتمعات التركية في البلقان. ولكل منهم خصوصيته في ممارسة تلك التقاليد، مع احترام الأصل المشترك للحكاية كلها. لكن خلود النيروز في إنتاج المعاني، وعدم سقوطها بالتقادم الحداثوي، يكمن في ثلاثة أسباب حسب رأينا:
أولاً: الطبيعة المجردة للحكاية وقربها لمفاهيم المطلق الإنساني، أي أنها من نوع الحكايات الصراعية الخالدة بين فكرتي “الخير” و”الشر”. حيث لكل جماعة الحرية المطلقة في تصور دور الخير. فالخيّر ليس له أي شكل وصفي ولا أي تحديد زماني أو مكاني، والذي تمثل في الحكاية بشخصية كاوا الحداد، فلكل جماعة أن تتصوره من لدنها، وترمي بصفات الضحاك على الآخرين.
ثانياً: لا تملك الحكاية وتوابعها أية روح طقوسية، خارج فترة الاحتفال بها، كما أنها لا تحوي أي شكل من علاقة الفرد البشري ببعده الميتافيزيقي. لذلك لم تنجر إلى معاداة الأديان تاريخيا ولا إلى مزاحمتها، ولذا يلاحظ أن المحتفلين بها يمتدون على طيف واسع من تبعة الأديان، ومنهم الكثير من الملتزمين دينيا.
ثالثاً: البعد الرمزي الثوري في الحكاية، والذي يشحذ في الإنسان قيم التمرد، والمطالبة بتحسين الأحوال. ويلاحظ أن طيف الجماعات المحتفلة به تكون من ذوات الجغرافية الجبلية، وأن الحكاية تصعد مع الجماعات التي تعاني الغبن السلطوي. أي هي بالغة المطاوعة للرغبات الأيديولوجية السياسية، المعارضة للسلطات القائمة أياً كان شكلها.
قبل ما يقارب العام من الآن، نشرت الصحف العالمية صورة من إحدى زوايا ساحة “تقسيم” وسط مدينة إسطنبول التركية، حيث كان العشرات من قوات الأمن التركية المجهزين بأحدث المعدات الاتصالية، يحاولون ملاحقة بعض المراهقين الذين كانوا يحاولون إشعال بعض النيران الصغيرة احتفالا بمناسبة النيروز……….. مازال في العالم مكان ما تزاحم فيه الخرافة “انتصارات العقل!؟”.
المستقبل