صفحات ثقافية

“الحارق” و”نهر لندن” فيلمان عن تفجيرات لندن: الخوف من الآخر وتكاتف الغرباء

null
زياد الخزاعي
كان علينا انتظار المخرج الجزائري الأصل الفرنسي الجنسية والإقامة رشيد بوشارب وجديده «نهر لندن»، الذي قارب فيه هجمات تموز 2005، بعد أن «شتم» أوروبا في عمله الكبير «بلديون» قبل ثلاثة أعوام، كي نفهم أن المصائر لا تجتمع إلاّ في المصائب، وأن الفواجع تُحلّل التسامح، وتبني الثقة بين الأعراق ومحرّضي الديانات. قبل عام، أنتجت السينما البريطانية فيلماً مفعماً باللؤم السياسي، يحمل في حكايته التحريضية غمزاً كثيراً على الإرهابي المسلم، وإن لم يعرض سحنته على الشاشة؛ ويعزّز غرضيته المتحاملة على الملتحي وصاحب الجُبّة الآسيوية، بدءاً من عنوانه «الحارق»، وانتهاء بفاجعة الأم الشابة التي تلتقي أقدارها الشبقية مع صحافي الجريدة اليمينية «ديلي تلغراف»، وهما يمارسان الجنس بلهفة على كنبة متهالكة وأمام شاشة تلفزيون كبيرة، فتختلط شهقاتها بصرخات المذيعة الموتورة، التي تنقل الخبر الصاعق عن تفجير أكبر ملاعب كرة القدم في العاصمة البريطانية. ما إن يتوقّفا عن معركتهما الجسدية، حتى نعرف من انهيار البطلة أن طفلها الصغير ووالده كانا ضمن المشجّعين الأبرياء! ومثلما هو انحطاط ربط العملية الجنسية بالتفجير، نتابع هاجس المرأة في البحث عن فلذة كبدها أولاً، ولاحقاً الزوج المخدوع، الذي غلّب هوسه الكروي على صون كرامته أمام ابن مهنة الدسائس، الذي تدفعه النخوة الذاتية إلى مشاركتها البحث عن «الشهداء» بين الركام.
التخويف الجماعي
سعى فيلم «الحارق» للمخرجة شارون ماغواير، التي حصدت مديحاً نقدياً وتجارياً واسع النطاق عن عمليها المتسلسلين الكوميديين «مذكّرات برجيت جونز»، إلى تجيير عقيدة «الحرب على الإرهاب»، التي أطلقتها عصابة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بُعيد هجمات 11 أيلول، وتلقّفتها نظيرتها البريطانية التابعة لمكتب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، اللتان اجتمعتتا على منهجية واحدة قائمة على التخويف الجماعي من الآخر الملتحي، وإلى جعل قنبلة الملعب التي نرى كرة نارها كأنها نتيجة تفجير نووي، كنذير شؤم على تغلغل هذا المسلم الآسيوي في العمق البريطاني، وكإثبات على وحشيته ودناءته وتحامله على الرفاهية الغربية. إن المحيط الوضيع للأم الشابة (الأميركية ميشيل ويليامز) يعكس محتدها الذي نفهم أنه ينتمي إلى طبقة المساعدات الاجتماعية الحكومية، الأمر الذي يُضخم خساراتها، باعتبارها أضحية اقتصادية لا تستحق العقاب القاسي بغياب طفلها. ولكي تضع المخرجة ماغواير رواية الكاتب التجاري العديم الموهبة كريس كلايف، المنشورة في العام 2005 في سياق اتهامها النظام الذي تسرّب من بين حواجزه القتلة المسلمون، حولّت شخصية الصحافي المتهتك غاسبار بلاك (الاسكتلندي إيوان ماك غريغور) الى أخيل معاصر مقدام، يحوّل جهده، لفترة وجيزة، للتنقيب بين ركام التفجير عن خيوط ما تقوده إلى مواقع عدو تخفّى بين السحن البيضاء. بيد أن مقتله المهني (مسايرة لكعب بطل الميثيولوجيا الإغريقية) يكمن في تحصّنه اللاحق بملذّات عشيقته الأرستقراطية وخيانته «الأفضال الجسدية»، التي وفّرتها له سيدة العمارات الشعبية الواقعة في شمال لندن، المتخم بالأقليات.
تنهار الشابة، وتعصف بها حالات من الجنون، تدفعها الى التجوّل في قلب المدينة المتضخمة، يتبعها ضابط في شرطة «اسكوتلنديارد» يتعاطف مع حالتها. وكلما اقتربا قليلا، هي في ظنونها أنه يساعدها في الكشف عن القتلة، وهو في تحيّنه فرصة مواقعتها في فراش، يرغمنا الكاتب كريس والمخرجة ماغواير بجهدهما المشترك الفاسد النيات على لعن الجميع، بعد 96 دقيقة من اللغو السينـمائي. الغريب أن خاتمة «الحارق» هي نفسها بداية العمل الروائي، الذي نقرأ فيه الفقرات الأولى من الرسالة الشخصية التي تكتبها الأم الـشابة الملــتاعة، الموجّهة الى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن: مونولوغ طويل، اتهامي ووصفي لقيامة حداثية، تخبره فيها أن سماء لندن احترقت، ونهرها اصطبغ بلون الدم.
لن يخفي الكاتب كلايف، الذي تخرّج من جامعة أوكسفورد، هاجسه الاتهامي للحثالة التي دنّست فيافي الجزيرة، وأرهبت أناسها المتطامنين على كنباتهم. كتابه مركون على رفوف المكتبات، ونقوده الأدبية مخزّنة ومتوفرة على شبكة «إنترنت». لكن ما يدفع المرء إلى تجاهله، كونه من النصوص المغلّفة بعنصرية تستغلّ المزاج العدائي العام الذي أصاب البريطانيين إثر هجمات السابع من تموز 2005.
كان على أحفاد دهاة السياسة تشرتشل ودزرائيلي أن ينتظروا نصّ رشيد بوشارب، كي يُعيد النصاب ولو قليلاً إلى نباهتهم وتأنّيهم في رسم صورة جماعية للمحنة، التي فاجأت الجميع، خصوصاً بعد هبّة المليوني معترض على حرب العراق، والتي واجهتها دوائر توني بلير بالتشكيك الوطني، كونها رفضت كذبة الدقائق الخمس والأربعين التي افترضت فيها وصول صواريخ صدام حسين إلى قلب لندن، وتعيد رعب أماسي نظيرتها النازية في العام 1945. يذهب نص بوشارب إلى الكائن البشري، المواطن، الفرد الذي يشكل قيم الحياة ومعانيها، العائلة وترابطاتها ومصائرها، المجتمع ومواراته المتعدّدة المستويات. يقترب من الإنسان الذي يتبع أصوله ومعارفه وانتماءه وعقائده، من دون أن يُغفل محيطه وتراثه.
في قلب الفاجعة
يطرح فيلم بوشارب «نهر لندن» أسئلة عدّة: هل نحن مختلفون إلى حدّ القطيعة؟ هل جُبلنا على العداوة؟ مَنْ يوصلنا إلى الظن الخاطئ: الأهل أم السلطة أم النفاق أم الجهالة المقننة؟ يزيد في المرارة، حين يضع العائلة في قلب الفاجعة الشخصية، ويتساءل: هل ننتظر موتاً ما، كي نقترب أكثر نحو تكافلنا الجماعي، ونعي حاجتنا إليه؟ تنفجر القنابل في قلب لندن، لكنها ليست أبوكالبيتية على طريقة «الحارق». فهي لم تستهدف موقعاً ثابتاً هائل الحجم، يصطاد ضحاياه في استاد رياضي (كإثبات على جبن مرتكبي الجريمة)، بل تحقّقت كفعل قتل متعمّد. ذهبت إلى الشارع وأناسه كي تُرعب وتُرهب وتسبّب أكبر خلخلة للنظام العام. لم يشأ بوشارب أن يعيد تمثيل الجرائم، بل أخذنا نحو الطبيعة التي تحبو على الأب الأفريقي المسلم عثمان (جائزة التمثيل للسنغالي سوتيغوي كوياته، الذي عمل سابقاً مع بوشارب في «السينغال الصغيرة») والمراقب في محمية طبيعية فرنسية، والأم البريطانية المسيحية السيدة سومرز (بريندا بليثن) التي تقطن قرية غورنسي في جزر القنال، البعيدة عن ممارسة الفلاحة والرعي. كائنان مفترقان في الجغرافيا، مجتمعان على هدف طبيعي واحد، على الرغم من أن عزلاتهما اختيارية: الأول يرى نفسه أقرب الى الله حين يصلّي في العراء، فيما تمارس الثانية يومياتها بهمّة، وتكشف لنا أنها على قدر هائل من الحرية والأمان. صنوان بشريان تدفع المفاجأة الدامية لولديهما إلى لقاء أقدارهما في الأحياء اللندنية الشمالية، التي لعنتها المخرجة ماغواير في «الحارق» السيئ الصيت. تلك الغيتوات الحاضنة للأعراق والمعتقدات والهجرة والسِخرة، لكنها أيضا المفعمة بوهج التكاتف بين قاطنيها. يأتي عثمان إلى لندن كي تواجه بساطته تعقيد النُظم واللغة والشكوك، فيعرف أن الابن يذهب الى الجامع مؤدّياً فرائضه، على الرغم من ملمحه العصري، وهو طالب وافد لم يخف أصوله، بل كشف عن اندفاعة حضرية، نواجهها لاحقاً مع السيدة سومرز، عندما تكتشف مصعوقة أن ابنتها الشابة صديقة الأفريقي، ورفيقة معيشته. تقول لوالدتها في رسالة هاتفية: «أماه. التقيت للتو شاباً زنجياً. سنتزوج في الجامع».
كما أنه لا بد من الصدود بين الشخصيتين، يُشهّدنا بوشارب في نصّه القوي (كتبه بمشاركة زوي غالريون وأوليفيه لوريل) على تفاهماتهما اللاحقة، التي تتشكّل عناصرها من غياب الأحبّة واحتمال مقتلهما في التفجيرات. وتلعب فكرة الموت (على العكس تماماً من وجوده كأساس في محنة الأم الشابة في «الحارق») كقاعدة احتمال، يخدعنا بوشارب بتعداد الشابين بين الضحايا، ويُرينا تفاصيل اليوم الأسود عبر ريبورتاجات المحطّات التلفزيونية من مواقع استهدافاتها لشبكات النقل العامة، كي نستكمل ظنوننا أن وجهيهما سيُبانان على الشاشات. هذه الاستعارة التقنية أبعدت «نهر لندن» من الوقوع في المحاسبة واشتراطتها في ما يتعلّق بالمهاجمين الآسيويين، والحكم على دوافعهم. وهي صيغة لم تلفت صنّاع «الحارق» إلى خطورتها، عندما قرّروا إلغاء وجوه الإرهابيين، وثبتوا القناعة بأن مسلمي آسيا غدروا بالأمة. وإذا كانت بطلة كتاب كلايف وفيلم ماغواير تذكر في رسالتها إلى بن لادن أحوال المسلمين الذين أُبعدوا عن الوظائف بسبب إرهابه، والشرطي الذي يلقب المسلم بـ»جوني عرب، الذي فشل في الوصول إلى الجنة ولم يتمكّن من بعثنا الى الجحيم»، وعن أغنية المطرب الشعبي الذائع الصيت ألتون جون «قلب لندن ينزف»، التي وصلت إلى قائمة أفضل المبيعات؛ فإن السيد عثمان والسيدة سومرز، باعتبارهما كائنين منتجين وفاعلين، يحقّقان تقاربهما الإنساني والعقلاني لمعرفة الحقيقة بوسائلهما الرعوية: الأول بإيمانه بأن نجله لم يفعل شيئاً خاطئاً، والثانية بشهادتها: «أننا لا نختلف عن بعضنا البعض». الأمر المؤكّد أن بوشارب وازن بدقة بين شخصيتيه، وهما في أغلب المشاهد مغلوبان على أمرهما، لكنهما محظوظان، فالمساعدات تنهال عليهما، والتقصّي عن ابنيهما يصل إلى مرحلته النهائية: الشابان بخير. فإرهاب السابع من تموز لم يسفك دم الجميع، ولم يخضّب نهر لندن.
(لندن)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى