صفحات ثقافية

في مديح الحمار!

null
رامي الأمين
يُنعت المرء بـ”الحمار” دلالة على الغباء، أو البلادة في معظم الأحيان، وينسى معظم الناس الصفات الحسنة التي يتمتع بها هذا الحيوان الجميل. ثمة من يعتقد بقبحه، لكن من يقول بقبح الحمار، في الغالب الأعمّ، يعتبر الأحصنة جميلة، والحمار كما هو معروف من فصيلة الأحصنة، غير أنه أبطأ، وأكثر “شعبية” من الخيل، لجهة علاقته بالطبقات الفقيرة والشعبية، وقد حيك حوله الكثير من القصص والروايات الطريفة. الحمار حيوان جميل، هكذا أراه، لصفاته الحسنة الكثيرة، فهو غالباً ما يكون وحيداً، لا جلد له حتى على النعاس، أو على كشّ الذباب، لا يتحرك كثيراً، ولا ينهق كثيراً. يصمت غالباً، وكأنما في فمه ماء. حامل المشقّة، يصبر على واقعه، فلا ينتفض ولا يعطس ولا ينبث ببنت شفة حينما يُنهَر ويُضرَب بالعصا. كما أنه محتال، والحيلة من صفات الثعلب، لكنها صفة (قطبة) مخفية لدى الحمار لا ينتبه إليها أحد. حيلته أنه يقبل ويتحمّل لأنه لا يجد داعياً للعناد، فهو إن مشى طريقاً حفظه، وإن أكل طعاماً استطيبه، وإن سمع كلاماً كتمه، وإن حُمّل ثقلاً تحمّله، فلا يشكو ولا يبكي و”لا يهشّ ولا ينشّ”.
والحمار في “لسان العرب” هو العِير، حيوانٌ أَهليٌ شديد الصبر على الكد يُضرب به المثل في البلادة ويكون وحشيًّا ويُقال له حمار وحش وحمار الوحش والحمار الوحشيّ جمع: أَحمرة وحمر وحمير وحمور وحمرات ومحموراء. والعرب تكَنّي بالحمار في بعض أنحاء الكلام فتقول: قد حلَّ حمارُهُ بمكانِ كذا، إِذا أقام فيه وتمكَّن. فالإقامة والإستقرار والتمكّن من صفات الحمار، وهي صفة متقدمة وحديثة، حضرية، فالحمار ينتقل لكنه يبقى، أي أنه قليلاً ما يسلك المسافات البعيدة كالإبل، فهو كان يستعمل للإستخدامات المحلية، لنقل الحطب والطعام من مكان إلى آخر، كما كان يستخدم لنقل الأشخاص في مناطق ضيقة، في القرى والبلدات النائية، إلى أن حلّت السيارة مكانه، والسيارة حمار الحداثة، على ما يقول البعض.
ثم إن الحمار، في نظري، من أذكى الحيوانات. هو بالتأكيد أذكى من القرد الذي ينطنط بلا طائل. الذكاء، دائماً في نظري، هو مطرح استفادة، لا يكون بلا منفعة، فالحمار نافع ومفيد، ويسهّل حياة الكثير من البشر، كما أن إزعاجه قليل، وجلبته خافتة، اللهم إلا إذا اعتدى عليه أحد، فيصير وحشياً، وهو كذلك، فيرفس ويؤذي من يعتدي عليه، كائناً من كان. والحمار، أيضاً وأيضاً، ضليع في الجغرافيا، فلا يصحّ في من لا يعرف الجغرافيا نعت “الحمار”، ولا يصحّ أيضاً في من لا يتذكر، فللحمار ذاكرة قوية. كما أن للحمار ميزات تجعلني أمتدحه في هذه السطور، إحداها أنه على عكس الحصان، قد يكون له طموح خاص (كأن يطمح الى أن يصير حصاناً، فهل يطمح الحصان الى أن يصير حماراً؟ ربما، من يدري!)، وهو إذ يُستغل، فلصالح حميد، بينما الحصان يركض في السباقات، فقط لكي يراهن عليه الشعب الكادح. فلا رهان على الحمار إلا في قدرته على التحمّل، وفي مجمل ما يتحمل، سيل الإهانات والتوريات والصفات التي تُلصق به، وهو الأصمّ الذي لا ينطق ليدافع عن نفسه، فلا يسعه إلا أن ينعق ويرفس وينزوي احتجاجاً. لهذا أكتب هذا المقال في مديحه، لأن الحمار يُظلم أحياناً عندما يقارن بالبعض.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى