العالم كما يراه كتّاب من عشرين بلداً
تورنتو ـ جاكلين سلام
في هذه المختارات المعنونة بـ” كلمات بلا حدود” المترجمة من لغات العالم إلى الانكليزية، يقدم المشرفون على تحرير الكتاب وهم ” ديدي فيلمان، آلان ساليرنو، وسامانثا شني” نخبة من أخصب حقول الأدب في العالم، إلى قراء اللغة الانكليزية. 28 نصاً مختاراً من آسيا، أفريقيا، أوربا، أميركا اللاتينية في متناول القارئ. بعض النصوص لكتاب كبار معروفين، وبعضهم مايزال مجهولاً بالنسبة للقارئ العربي. ذلك أن التقصير في الترجمة والانفتاح على لغات العالم ليس ميزة أو “عاهة” أميركية حصراً. مقدمة الكتاب بقلم الكاتب الأمريكي اندرية دوباس الحاصل على جوائز عدة وله رواية مترجمة إلى 30 لغة عالمية، يشير إلى أنّ المجتمع الاميركي في أيامه الحالية يمر في أسوأ مراحله جهالة، وعدم معرفة بالآخر، بالجغرافية، بالتاريخ، بالأدب. ولا يتردد في الإشارة إلى سقطات فظيعة أو “غبية” ارتكبها رئيس جمهورية بلاده في حوارات وخطب يورد بعضها في مقدمة الكتاب. تشير المقدمة إلى أن 50 بالمائة من الكتب المترجمة إلى لغات العالم، هي عن الانكليزية، بينما نسبة الكتب المترجمة من لغات العالم إلى الانكليزية لايتجاوز 6 بالمائة. بالمقابل تظهر للعيان جهالة المواطن الأميركي وشح معلوماته فيما يجري خارج محيطه، رغم أن أميركا بلد المهاجرين أساساً. كما تبينَ حسب الاختبارات على فئة الشباب أن 83 بالمائة لم يتمكنوا من تحديد موقع ايران على الخارطة، ونسبة 37 بالمائة لم يعرفوا أين تقع العراق على الخريطة. ولا غرابة في أن تعجز سارة بايلن، حاكمة الاسكا الأميركية التي كانت مرشحة للرئاسة عن معرفة ما إذا كانت أفريقيا قارة أم دولة. ومن هنا تأتي أهمية هذه المختارات التي صدرت في نيوروك عن “راندوم هاوس” عام 2007 في 377 صفحة منتقاة من 20 بلداً ولغة، لتقدم صورة عريضة عن هذا الآخر المهجول. إنها قصص موزعة ما بين الشعر، المقالة السيرية ، الشهادة على وقائع الحرب، الفقر، التعذيب في السجن، والمنافي. كلمات تجتاز الحدود وتخلف على وجه القارئ ضحكة، دمعة، دهشة، صرخة وجمرة معرفة. نلاحظ أنّ للكاتب العربي حضوراً ملحوظاً في هذا الإصدار. نذكرمن الكتّاب المشاركين: ايتل عدنان، جبار ياسين، جمال الغيطاني، عدنية شبلي من فلسطين، حسان خضر ـ فلسطين، سنية صالح من سوريا. نصوصهم مرفقة بمقدمات تعريفية شاملة عن الكاتب وأدبه، كتبها عنهم كتاب أمثال: نجيب محفوظ، أدونيس، أهداف سويف، ديانا أبو جابر وعيسى بلاطة، وجوزيه ساراماغو.
المشارَكات تخوض في تجربة المنفى والعودة إلى البلاد بعد غياب، تعرض صوراً من واقع الحرب في لبنان وفلسطين، كما تعطي صورة ناضحة عن تطور القصيدة والقصة الحديثة في الأدب العربي الذي قلما وصل مترجماً إلى العالم، كما في قصائد الشاعرة السورية الراحلة سنيّة صالح، وقصة لجمال الغيطاني. ترجح الميزان لصالح صورة العربي ـ الستريوتايب. النص هنا يزحزح بطاقته ورؤاه تلك الصورة التي تؤطر العرب في مجتمع النفط الكسول، ركوب الجمل، ثرثرة النساء على نبع الماء، وحديثاً “الإرهاب” والصورة ما بعد سبتمبر 2001.
التعريف والتقديم لهذه المختارات العالمية المنتقاة من نتاج أسماء لم يكن لها بعد فرصة أن تخرج من ثوب لغتها الأم يشارك كتّاب كبار بعضهم حائز على نوبل: وول سوينكا وغونتر غراس، نجيب محفوظ، أدونيس، ايريل دورفمان، خوسيه ساراماغو، أهداف سويف، ادويج جادهوري، البرتو مانغويل…الخ.
نصوص وقصص هذه المجموعة تبحر بنا مع وقائع ومخيلة شاسعة تنطلق من فلسطين، نيجيريا، العراق، بنغلاديش، ايطاليا، الهند، اندونيسيا، بولندا، الصين، السلفادور، الارجنتين، المكسيك، ايران، سوريا، إلى جوار كتاب مهاجرين مقيمين في شمال أميركا وانكلترا، وإلى الهند وأميركا اللاتينية. فنجد تركيزاً على قوة اللغة وما تلعبه من دور فوقي أو سلطوي ينبع من سلطة وقوة الدول الكبرى التي تتحدث تلك اللغة. نجد مفارقات ساخرة، وعميقة تقودنا إلى تلك المناطق الحساسة من العلاقة بين المواطن ولغته ولكنته التي تحرمه متعة الاندماج مع المجتمع الجديد.
الكتاب وجبة غنية ثرية تفتح شهية القارئ وتشده في كل صفحة ومنعطف. رغم ما نعرفه عن الخسارة التي لابد منها حين ترجمة النص. وهذا ما يأتي على ذكره الكاتب الروائي النيجيري الحائز على نوبل وول سوينكا حين يكتب مقدمة وتعريفاً بالكاتب النيجيري المشارك في هذه المختارات. الكاتب ( أكين ايسولا) الذي كتب بلغته الأم “يوروبا” وترجم النص بنفسه وهو المعروف بترجمته لبعض كتابات مواطنه سوينكا من الانكليزية إلى النيجيرية التي تحدث بها بعض أقوام نيجيريا والكونغو ويتجاوز عددهم 20 مليون نسمة. محور القصة التي تحمل عنوان “استعمالات الانكليزية” هو في حد ذاته دلالة على سلطوية اللغة الانكليزية في مجتمع فقير متخلف يرزح تحت تقاليد شعبية قديمة. القصة فكاهية بامتياز، تعرض موضوعاً حساساً ما زالت نساء بعض الدول العربية الإسلامية تعاني منه. إذ تتعرض للحديث عن العنف المنزلي، والشجار المتواصل بين امرأة وزوجها وضرّتها. على أثره يقدم الأعيان والجيران نصيحة للزوج للبحث عن زوجة ثانية، كي يكون ذلك درساً للزوجة القديمة التي تثير هذه الشجارات، وتستخدم كل الوسائل لإيقاد حروب صغيرة في البيت. لا تمانع الزوجة زيجري البحث عن” ضرة”. يتم الزواج الثاني والأسرة لا تهدأ أحوالها بل ينتقل الشجار إلى محور آخر، إلى الزوجتين فيما بينهما. الزوجة الجديدة المتفوقة بجمالها وشبابها، ترفض تنفيذ أي واجب منزلي، وترفض توجيهات “الزوجة الأولى” بخصوص الطبخ والتنظيف وجلب الماء من العين. ولا يحلو للنسوة الشجار إلا على باب البيت، فيحضر الجيران ويعربون عن تعاطفهم مع هذه دون تلك. الزوجة الجديدة، تتفوق بلغة الشتائم والسخرية. تمتلك لغة غنية ولساناً سليطاً ومقدرة على المجاز والتشابيه التي تهين الزوجة الاخرى وتجعلها عاجزة عن الرد. إلى أن تخطر للقديمة فكرة شيطانية. تطلب من ابنها في الصف الثالث أن يشتم زوجة الأب بالانكليزية انتقاماً لأمه. وهنا يمارس الطفل دوره العنيف. يبدأ التحدث مع المرأة بالانكليزية، ويبدأ الشجار. يجتمع أهل القرية ثانية. الطفل يرشق الكلمات الانكليزية التي تعلمها في المدرسة، تشتعل الساحة. أما الكلمات التي يرددها هذا “البلبل الصغير” فهي من قبيل:” ما هذا؟ هذه سلة. اذهب إلى الباب. إلى أين أنت ذاهب؟ أنا ذاهب إلى الباب. لأضع السلة على الطاولة. أين هي السلة؟ السلة على الطاولة. ماهذه؟ هذه نافذة. …”
حين تسمع زوجة الأب كلمة النافذة، تصرخ وتقول: أرأيتم إنه يسخر من الفجوة الظاهرة بين أسناني الأمامية. هذا الطفل الشيطان ينفذ تعاليم أمه. وهكذا بين الضحك والسخرية والاستغراب من مقدرة الطفل على التكلم بالانكليزية. يصل المتفرجون إلى حقيقة أن الطفل لا يعرف أي شتيمة بل يردد كالببغاء ما تعلمه في المدرسة. وحين يحضر أستاذ الانكليزية إلى الساحة، تنكشف اللعبة ويهرب الطفل، وتنفضّ الحلقة.
في نصوص أخرى نقف مع كاتب بنغالي يعتبر الأكثر فكاهة في بنغلاديش في القرن العشرين، يقدم صورة معكوسة عن احتلال الهند. في سرده يحدث أن تحتل الهند، الامبراطورية الانكليزية العظمى. بالمخيلة والموهبة المرحة يحول الكاتبُ الغضب والرغبة في الانتقام إلى ضحكات متفائلة، مبتعدا عن روح الانتقام والديستوبيا. الكاتب راجيشيخار باسو، عاش بين ( 1883-1960) درس الكيمياء في جامعة كالكوتا، وشغل مناصب مرموقة علمياً واجتماعياً.
ومن النصوص التي تمت ترجمتها وتقديمها في هذا الكتاب نص للكاتب الارجنتيني خوان جوسية ساير، يقدمه لنا الكاتب الارجنتيني الكبير الحائز على نوبل جوزيه ساراماغو. يقول في كلمته: “بالنسبة للكتّاب الارجنتينين، بلدهم الأصلي لم يكن يوماً على ما يبدو محققاً لأحلامهم. ذلك البلد الهائل، الذي يشغل ما يقارب 4 مليون كيلومترا مربع، صغير جداً عليهم. عيونهم وآمالهم ما تزال تدور حول أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية. كأنه هناك وببساطة ولمجرد التغيير، سيتحقق نجاحهم. بطريقة ما يبدو أن الكاتب الارجنتيني، يفترض أن لا نبي في وطنه…”. ثم ينتقل لعرض تجربة هذا الكاتب والنجاح الذي حققه في فرنسا التي رحل إليها عام 1968. يضيف ساراماغو ” لكننا نعثر في أعمال الكاتب على صدى القبيلة، المنطقة، مكان الولادة…. تفاصيل لا يمكن أن تخبو وتنطفئ كالرماد… لم يستطع خوان جوزيه ساير، أن يصبح أوروبياً. مكانه هو العالم. العالم الذي أتاح للارجنتين أن تكون، أن تتعرف على نفسها، وتقبل نفسها”. يبدو أنه ” الحلم الأميركي” الذي طال نفوساً كثيرة في الشرق.
بين دروب هذه الرحلة الإبداعية الجامحة حول العالم يقع القارئ على جماليا ت ومشاهد غنية تعكس جوانب حساسة من حياة المنفى، الأسرة والوطن أيام الحرب واللاحرب، وتضع اليد على المشترك الإنساني بين الشعوب في هذا العالم الذي أصبح قرية صغيرة.
المستقبل