عواصم الثقافة العربية
طيب تيزيني
درجت مجموعة من البلدان العربية على أمر تحوّل، شيئاً فشيئاً، إلى تقليد ثقافي أخذ يعم كل العالم العربي، وهذا الأمر يمثل حالة صحية جميلة ومثمرة، في العموم والخصوص، إذ أنْ يعلن على الملأ أن مدينة عربية ستكون عاصمة للثقافة العربية في سنة معينة، إنما هو أمر على أهمية فائقة في حياة المدينة المذكورة والبلد العربي المعني.
وضروري في السياق الذي نحن فيه أن نضبط إحداثيات هذا الحدث، كي نتبين دلالته العظمى في عدة حقول يبرز في مقدمتها الزمان والمكان، يداً بيد مع مفاهيم التاريخ والتراث والمستقبل والثقافة والتقدم والحداثة.
فالإعلان عن القاهرة أو دمشق أو الرياض أو القدس… الخ عاصمة للثقافة العربية يأتي في حال أخذ الأمر بصدقية وجدية بمثابة التصدي لمجموعة من الاستحقاقات المتوزعة على شبكة من الحقول المجتمعية، منها التنظيمي والمالي والبيئي والإعلامي والتربوي والجمالي والفني، إضافة إلى الثقافي الإبداعي والبحثي. ومن مقتضيات إنجاز ذلك أن يشف عليه “أهل الشأن”، من داخله، وضمن أجواء مفعمة بالحرية والشفافية والديمقراطية والإنفتاح على كل الفئات، التي تتعاطى الشأن الثقافي أولا، والتي تقر بمبدأي التعددية الثقافية والانفتاح العقلاني ثانياً.
لقد شاركنا في حالات متعددة من “عواصم الثقافة العربية”، فلم نسجل إلا لماماً من “الإنجاز” المتعدد الحقول والأنساق كالتي ذكرنا. فمعظم تلك الحالات لا تخرج عن كونها مَعارض لبعض الإنتاج الثقافي نوعاً وكماً، إن ما يحضر فيها إنما هو الانتاج الثقافي المكتوب أولا، والمُنتقى من نسق ثقافي دون غيره ثانياً، والمنتقى على أساس غير نقدي وذي بُعد واحد ثالثاً، لذلك تأتي الحالات المذكورة – في إجمالها – كأنها دعاية لكتب أو كتّاب معينين، أو كأنها زينة خارجية لا تمس جذر أو جذور الثقافة ومظاهرها في البلد – أو العاصمة العربية المعنية. وثمة التباس يقع فيه الكثير ممن ينظمون “عواصم ثقافية” عربية، حين يقومون بتقديم محاضرات في أسبوع أو أسابيع ثقافية محددة، بعيداً عن النظر إلى الثقافة والإنتاج الثقافي بمثابتهما حالة مجتمعية تتصل بحياة الناس، ضمن المنظور الذي يقدمه علم الإناسة (الانثروبولوجيا) وبحسب ذلك، تسقط أنماط العمل والنشاط الإنساني من الحساب، لصالح ما أشرنا إليه تحت حد “ثقافة الكتاب” و”ثقافة النص” وما يدخل في حقله.
لقد سجّلت تلك الملاحظات على دورات متعددة من عواصم الثقافة العربية، في عمّان ودمشق والقاهرة، وغيرها مثلا.
وقد نرى في ذلك تعبيراً أولياً ونقدياً عن الثقافة والمثقف العربي. ووجه النقد المعني يكمن في النظر إلى أذنيك الإثنتين في ضوء القوليْن التاليين:
1- الناس فضّلوا الفهم على العلم… وهذا مثل شائع يعبر عن أن الحصافة والحكمة يتجليان في القدرة على العيْش القائم على جدلية النظر والفعل، مع التأكيد على أن معيار النظر يكمن في الفعل الخلاق.
2- المثقف هو العامل مفكراً، والمفكر عاملا، وهذا قول ألح عليه أرتال من المفكرين العرب والأجانب مثل ماجاء في كتاب صحائف الذهب.
وإذا عمّقنا النظر في دلالة الشعار “الرباط أو صنعاء عاصمة للثقافة العربية” لعام ما، فإننا يمكن أن نضع يدنا على جوهر هذه الدلالة، وهو الإنجاز العقلاني والنقدي المفتوح لنهوض ثقافي، إنْ لم نقل ثورة ثقافية تمسُّ كل شؤون المجتمع. ويبقى أن نشير إلى أن المدن العربية كلها تستحق أن تتحول إلى “عواصم للثقافة العربية” وعبْر أعوام متتالية ومتشابكة في آن واحد، وفي سياق استهداف إنهاء أو إضعاف الفروق الكبرى والخطيرة بين المدن والأرياف العربية ضمن خطط التنمية المستدامة، مع تطوير معمّق لاتجاهات التحديث المتوازن بين القطاعات المختلفة. هذه ملاحظات أقدمها برسْم ما لاحظته في مناسبات متعددة من “عواصم الثقافة العربية”.
الاتحاد