القدس: عاصمة الثقافة العربية: تطبيع على خطى ضبع الثقافة إميل حبيبي
د. عادل سمارة
القدس الغربية (West Jerusalem) أكتبها بالإنجليزية مخافة أن يقرأها البعض “العربية” هي عاصمة الثقافة العربية في هذه المرحلة. ولأن الأكثرية الساحقة من طلبة الثانوية في الأراضي المحتلة لا يعرفون أن القدس الغربية هي عاصمة فلسطين الحقيقية، ولأن الأكثرية المطلقة من هؤلاء الطلبة في الوطن العربي لا يعرفون أن ما يسمى “إسرائيل” هي وحدة عسكرية نووية استيطانية احتلت فلسطين، وكل هذا بأفضال التطبيع، ولأن ساسة ومثقفين فلسطينيين وعرب قرروا أن القدس عاصمة الثقافة العربية وهي تحت كل هذا الاحتلال، فهذا يعني ببساطة أن من يقود هذه الثقافة في هذه المرحلة هو الكيان الصهيوني.
هكذا كانت نتائج شعارات خطيرة من طراز:
• سلطة وطنية على كل شبر محرر (طبعاً لم يحرر أي سم2) بينما تحرر جنوب لبنان.
• كامب ديفيد
• أوسلو
• وادي عربة
• سلسلة اتفاقات مثل طابا وواي ريفر…
• إنقاذ ما يمكن إنقاذه
• السلام خيار استراتيجي
• المبادرة “الرسمية” العربية
• محاصرة غزة بمنع الحليب قبل الحديد
• تحويل شرم الشيخ إلى قاعدة للإرهاب الرسمي
• دمج الكيان في الوطن العربي اندماجاً مهيمناً
لست مؤرخاً لكي أعرف أن هناك قيادات سياسية وثقافية واقتصادية –راسمالية، في اي مكان على الأرض واي زمان في التاريخ، كما هي هنا، تقاسمت وطن أمتها مع العدو، وواصلت إسقاط قطعة قطعة (ستربتيز التراب).
ولكي ننصف هؤلاء المستفيدين، يُحال السؤال إلى الشارع، أو عليه! هل يمكن لشعب ان يقبل بكل هذا التطبيع ويبقى كما يزعم متخارجو الثقافة “مجتمعاً مدنياً” في القرن الجديد؟
هل هذا الحديث قاسٍ؟
كلا.
فمن لا يعرف أن أجزاء من وطنه بيد الأعداء، من سبتة ومليلية والأهواز والإسكندرون، وطنب الصغرى والكبرى، وأبو موسى، وغيرها لم نعرفها بعد، ومن لا يعرف أن نصف القدس اغتيل عام 1948 والنصف الآخر عام 1967، ومن لا يعرف أن زعماء بلاده زاروا هذه الأرض المحتلة باعتبارها “إسرائيل”، ومن يسمع شعار : “القدس عاصمة الثقافة العربية ولا يفخخ فكره، هو رأس ضأنٍ في قطيع!”
ولكن، سيداتي، سادتي من المثقفين الذين يرتزقون حتى على حساب شرف القدس: ما معنى، وما ثمن أن تعترض على مرحلة عقيدتها التطبيع، التبرع بالوطن للعدو، والارتزاق والنفاق الدجل؟ معنى أن تعترض، لا يقف أنك خارج السرب.
هذا اشتباك، وهذا معنى أن تعترض على وجود ثقافة عربية في هذه المرحلة، فهكذا ثقافة ليست عربية بالقطع. وهذا معنى أن تخوض “حرب غوار الثقافة” كما كتبت في ورقة، نُشرت مؤخراً، تكريم بيت الشَعر لي.[1]
قبل أن يسأل المرء هل القدس عاصمة للثقافة، يسأل: هل هناك قدس؟ لا أعتقد أن اي منافق يجرؤ على القول نعم! هناك مدينة للكيان الصهيوني!
أصبحت القدس اليوم، في ظل الاحتلال الصهيوني، عاصمة المخدرات، والسرقات، والتجنيد المخابراتي، والبغاء. تعرفون اي بغاء؟ بغاء في المدينة المقدسة! ولا أريد التفصيل. لست أنا من الذين يتدخلون في أجساد الناس، لكن بغاء القدس ينتهي بالضرورة إلى العمالة وبيع الأرض، بيع القدس، هذه المرة بالفردي والقطًّاعي بعد أن باعتها الاتفاقات بالجملة. فالمسح الحقيقي للأرض يجب أن يكون شبراً شبراً. يكون بالتهجئة، وليس كما قال مظفر النواب: “فلا تتهجى جسد المحبوب بل اقرأ قاطبة”.
لكن مظفر صدق حين تسائل:
القدس عروس عروبتكم…. فلماذا أدخلتم كل زُناة الأرض إلى حجرتها”.
من يرى هذا مبالغة، فليذهب إلى سور القدس الذي بُني ليحميها، هناك في فتحات الدفاع عن المدينة تتوالد أوكار المخدرات.
ومع ذلك، يُتوَّج شعراء التطبيع وروائيوه “ملوكاً على الأدب العربي” فهل هذه ثقافة عربية!.
القدس اليوم، حجرة زنى بمجملها، فأية عاصمة للثقافة العربية هذه، إلا إذا حاولنا الصدق وقلنا، كل شيء يتصهين اليوم، فلماذا لا يتصهين مثقف هنا وآخر هناك؟
أليس الاعتراف بالكيان صهينة؟ أليس صهينة منع الحليب عن غزة إلا بالاعتراف بالكيان؟ ويذهبون إلى واشنطن يعودوا بالقول: “واشنطن لن تُدخل الحليب إلى غزة إلا باعتراف الجميع بإسرائيل” ونسمي هؤلاء قادة!
نقول صهينة، لأن شرف التهويد، لأن الدين اليهودي، والحمد لله، لا يقبل إلا من أتى من رحم امرأة يهودية. ولا نقول أسرلة لأن الأسرلة جنسية (من تجنيس)، أما الصهينة، فهي الاعتراف بالكيان الصهيوني والزعم بأن القدس ليست فقط عربية بل عاصمة للعرب، وهي تحمل على شرفها “عرش بنيامين نتنياهو، ومن القدس نفسها خرجت الطائرات التي ذبحت غزة!
أنا…أكره هذه القدس!
سألني أكاديمي تطبيعي من جماعة بيان ال 55 [2]ذات مرة:
ألا تشتاق للقدس؟ (هذا طبعاً بعد أن “أممها-صهينها” الاحتلال ومنعنا من زيارتها.
قلت: لا، لأن قريتي هي القدس وكل شبر هو القدس، ولأن من يلخصون فلسطين في القدس، إنما يحصرون الأمر في الصلاة، وهم ليسوا مؤمنين.
أما والقدس على هذا الحال، أليست صهينة أن يأتي عربي إلى المناطق المحتلة وقد “ختموه” وجهاً وقفا بخاتمهم! هل ينكر من يأتي أنه لم يخضع لهذا!
فلماذا يأتون؟
ولكن، بدل شعار القدس عاصمة الثقافة العربية، لماذا لا يُنشىء موقع إلكتروني يشرح أين وصلت القدس، وأن عذراء الأمة أصبحت نهباً لكل أنواع البغاء! www.rapedquds.org، على سبيل المثال.
فهذا ينقل لمن لا يعرف أقل الحقيقة: بأن القدس ليست بيدنا.
منذ سنوات والتسوية ترسل مثقفيها لإقناع مثقفين عرب لزيارة الأرض المحتلة زاعمين لهم أن الأرض محررة، إلى أن يصل هؤلاء إلى الجسور ويذوقوا كما قال عبد اللطيف عقل ـ ـ الشاعر الراحل دون تكريم رسمي ودون تمثال من الماس، ودون مبنى ثقافي، ودون بوسترات، ودون اصطفاف بغاث الشعر يتقربون منه ميتاً ليُسجلوا شعراء ويحصلوا على مرتبات ـ ـ كما قال في رائعته:” الحسن بن زريق ما زال يرحل”:
يكفيك ذلُّ التصاريح
على الجسرِ
وقوفك في آخر الصفَِ…
إذا كان هناك من يجهل أن معابر الأرض المحتلة بيد شعب الله المختار، فليعرف. عندما كانت الأكذوبة “أوسلو” طازجة، حاول أكاديميون من جامعة بير زيت الإيقاع ب سمير أمين ليأتي إلى هنا. كان أن التقيته في باريس عام 1995 وكان يحسب أن رام الله هانوي المحررة. حبذا لو يرى رام الله اليوم وهي تتجشّىء التطبيع وتبكي. تفهَّم شرحي ببساطة وألقى بتذكرة الطائرة في سلة مهملات فرانكفونية، لتقوم شرطة باريس السوداء بتفتيشها من وجود سطر فيها باللغة العربية.
قل لي صديق، ومع ذلك تطالب بأن تعمل استاذا في جامعات الضفة؟
قلت له ولا القطاع! العمر لحظة او وقفة عِزّْ، هكذا قال أنطون سعادة واستشهد. طبعاً طالما وصفه الكمبرادور الثقافي بأوصاف التعصب الفاشية…الخ. أما هو فلم يمت مثل إميل حبيبي على فراش المرحلة، فما بالك بقيادات سياسية وثقافية التي ماتت وتموت على فراش ال سي.آي إيه، وأي فراش!
من أوسلو، إلى المبادرة العربية الرسمية “هجوم السلام” إلى القدس عاصمة الثقافة العربية “هجوم الثقافة”. موجات هجوم إثر هجوم، ولا نرى سوى فرقاً من المثقفين الذين يمارسون مثاقفة التطبيع مع الكيان، مع الأنظمة، مع إدارات الأكاديميا، مع المركزانيات الأوروبية مع ثقافة الكاو-بوي…الخ.
أعاد هذا الحديث لذاكرتي المرحوم إميل حبيبي. لقد “حاز” على جائزة رابين من الدولة العبرية، وبقي ملكاً لمثقفي التخارج الغربنة واستدخال الهزيمة وإعادة التثقيف، ثم قفز إلى الرباط، وشارك مع أربعة من أمثاله من العرب ليحملوا كتاب الملك الحسن الثاني ويركضوا به أمامه على بساط لا أدري لونه، فنال الكتابين: “حامل الكتابين”. والملك الحسن الثاني أخذ قبل رحيله أرواح عشرات الآلاف من المناضلين المغاربة. هو الذي اعتقل عبد اللطيف اللعبي، ولم يقتله، ربما لأن الملك، وهو ملك، بوسعه قراءة الغيب، صاحب نبوءة فعرف ان اللعبي سيأتي إلى رام الله في تطبيع فرانكفوني، وأن مثقفين في الأرض المحتلة سوف يتمتعون بشِعره، ورشفة قهوة كابتشينو واختلاس نظرة إلى غانية هناك!
أيها السيد اللعبي، المسألة أكثر تعقيداً من كل هذا التلاعب. صحيح أن التلاعب بالكلمات فيه فرصة للكثير من المستور، ولكن من يحصر راسه في الكلمة، حتى لو كانت جميلة، لا يكون من الشعب، فمن ليس من الشعب بالكاد يُحترم، فكيف حين تكون الكلمة مغموسة بسائل التطبيع!
عجيب أمركم وأمر قدسكم “العبرية” هذه! ما تحتاجه الأرض المحتلة هو ابتعادكم عنها، ومن يأت، فليأتِ تسلُّلاً عبر نهر الأردن! تأتون إلى القدس، فلا يُتاح لكم إلا رام الله! تأتون لتناتجوا وتُناسلوا الكلمة من الكلمة، والقدس أتخمها الكلام الرخيص، يكفيها الاغتصاب، ولا حاجة بها لسفاح لغوي لا فكري.
القدس حالة اغتصاب، ومن كان له شرف الكلمة والموقف، إن غزة عاصمة المقاومة العربية فليذهب إلى هناك، وليحمل قصيدة لا بأس، ولكن في اليد الأخرى زجاجة حليب أو دواء. اربعة اشهر وغزة في المرض والموت والجوع والبرد، ويغنون ل القدس عاصمة الثقافة العربية. أربعة اشهر والأنظمة العربية لا تجرؤ على إرسال رغيف خبز إلى غزة. ويزعمون هنا ان القدس عربية. لم يعد الوطن العربي عربياً! عشرات ملايين الجنود في الوطن،لا يرفع واحد منهم عينه في جندي صهيوني، ويتآمرون لذبح المقاومة لأنها هزمت جيشاً نووياً في لبنان وغزة، وألقت حذائها على وجه جورج بوش، فزاغ الحذاء قرفاً…بئس من هدف!
حينما عقدوا مؤتمر بيت لحم للاستثمار، وضع جيش الله “جيش الاحتلال” يافطات ترحب بالعرب القادمين؟ ولم يخجل من ذلك أحد فيقفل راجعاً! أما بالمثقفين، فلن يتنازل ذلك الجيش حتى للترحيب. فهذا جيش أُناس يشمون رائحة العملات منذ المشاعية البدائية. “مثقفو التطبيع وخدمة العدو-مثقفون في خدمة الآخر” هم مرتزقة يبحثون عن الدرهم في جيوب شهداء غزة، وفي أكوام القمامة، لا مال وفير لديهم كي يستقبلهم جيش الاحتلال، سليل المضاربات والسمسرة والربا عبر التاريخ.
من الذي استقبل “المستثمرين”؟ هم أعضاء مجلس الأعمال الإسرائيلي-الفلسطيني. اي التطبيع بالملايين. أما مثقفو القدس عاصمة الثقافة، فهم التطبيع بال”ملاليم”.
المثقفون عضويون لطبقاتهم. ومثقفو القدس عاصمة الثقافة العربية منطلقون من: السلام خيار استراتيجي.
هؤلاء المثقفون من الطبيعي أن يأتوا إلى الاحتفال بالقدس بزعم عاصمة الثقافة العربية.
ولكن اين، فالعروس غائبة لأن العدو يضاجعها. يغنون للزنى بالقدس، ولكن من
رام الله، لأن لا أحد يسمح له العدو بدخول القدس. فأية عاصمة هذه، اي عرسٍ لا تحضره العروس.
* * *
إذا لم يعرف العرب ما حال القدس، عليهم أن يعرفوا أن لا أحد يمكنه دخول القدس إلا إذا كان يهودياً، وحامل جنسية إسرائيلية، أو تصريح من جيش الاحتلال يحدد له عدد ساعات الدخول والخرووج.
لا لشيء إلا، وببساطة، لأن القدس تحت الاحتلال، ولأن الضفة والقطاع تحت الاحتلال. فما معنى شعارات رنانة: “القدس عاصمة الثقافة العربية”، والوصول إليها دونه الموت، أو التطبيع مع العدو، إذا “تنازل” وسمح! كيف يسمح إنسان لنفسه بحمل كل هذا الكذب ولا يموت على المكان!
في القدس طرد لأهلها بيد الاحتلال.
في القدس هدم للبيوت بالعشرات وتبليغات بهدم آخر بالمئات.
في القدس تجويع وبطالة كي يرحل أهلها، كي “يزيحوا” أنفسهم مما يعفي الاحتلال من الطرد المباشر.
فما الأهم تثبيت أهل القدس بالاستثمار، ولو حتى بدفع النقدي لإعمار المنازل القديمة، أو دفع أجور المنازل، وحتى دفع أجور كاملة لمن لا يجدون عملاً كاملاً، أم انفاق طائل الأموال على مثقفين بين جهلة ومطبعين مع سبق الإصرار يأتون تحت شعار “القدس عاصمة الثقافة العربية” ولا يدخلونها، ولو دخلوها يدخلوها : “باستسلام آمنين”.
وطالما الاحتفال تطبيعي إلى هذا الحد، فمن يدري؟ قد يطلع علينا أولمرت قاتل اطفال غزة، أو نتنياهو، أو السيدة ليفني، ليمنحوا القادمين والقادمات أوسمة : “الدولة العبرية”؟ هكذا تعطَّف رابين على سيد التطبيع: إميل حبيبي” فحملها متفاخراً. ومع ذلك بكاه محمود درويش قِدّيس التسوية والمجيء المختوم على الجسور، وقال له: “يا معلَّمي”…وأي معلم!
النشرة الألكترونية- كنعان