صفحات ثقافية

أقفلت بصمت لكنها وضعت المشهد الثقافي السوري أمام تحدّ فعلي.. من يخشى نجاح الاحتفالية؟

null
وسيم ابراهيم
أغرب ما في احتفالية دمشق هو الصمت المطبق الذي كان قفلة ختامها، صمت القيمين على الحدث الثقافي الرسمي، يتريث القائمون عليها، وهو بطبيعة الحال «صمت رسمي». مراقبون، صحافيون ونقاد، قالوا في ما أنجزته الاحتفالية غزلاً صريحاً، لا نعرف متى حظيت مؤسسة ثقافية سورية بسماعه. حفاوة وصلت بالبعض إلى الرجاء أن تكون تلك التظاهرة الكبيرة الباب اللائق لعودة دمشق عاصمة ثقافية بحق.
نتائج الاحتفالية فاجأت القيمين عليها قبل غيرهم. إقبال الناس على حضور الفعاليات فاق تصورهم. صحيح أنها قدّمت أحداثاً، مثل عودة فيروز الى دمشق أو حفلات زياد الرحباني، لكن الاقبال لم يكن محصوراً بالفعالية الحدث. مهرجانات مثل «مهرجان موسيقا العالم» صيف العام الماضي، أو «النساء تغني» في قصر العظم، عدد حاضريه كان مباغتاً ومفرحاً، إلى حدّ إعادة حفل نزولا عند اقبال الناس ورغبتهم بالمزيد. وفاق التصور أن يجول خلف دليل سياحي، او ما شابه، نحو 700 شخص من أهل دمشق، يريدون التعرف عليها في نشاط شهري خفيف التسمية «شامنا فرجة». ومثله التئام شمل داوم، في مقهى الروضة، على تلقف ذكريات المدينة والمداولة فيها. حفلات فنية أيضاً كان منظموها ينظرون إلى الاحتشاد فيها، وهم يفركون أعينهم. نشاطات أخرى اضطرتهم إلى فرك «افكارهم» عن ذائقة الجمهور وتلقيه، كما قالوا. يشير أحد المنظمين هنا متسائلاً عما يجعل جمهوراً متنوعاً يثبت في مقاعد المسرح الدائري ثلاث ساعات، ليتابع مسرحية باللغة الهنغارية (نورس تشيخوف بتوقيع الهنغاري أرباد شيللينغ)، مترجمة على شاشة جانبية؟ أو ما الذي يحمل بعض الجمهور، المحافظ شكلاً، على إكمال مسرحية حملت جرعة عالية من الجرأة في التعرض لقضايا الجنس؟ (مسرحية صوتان للمخرج الهولندي يوهان سيمونز). وعلاوة على ذلك، كانت مثيرة الحفاوة النقدية بمسرحية «المهاجران» التي أنتجتها الاحتفالية، وأبدع فيها الممثلان سامر عمران ومحمد آل رشي بعد أن حبسا انفاس الجمهور اكثر من ساعتين في ملجأ. هذه المسرحية التي استمرّ عرضها ثلاثة شهور متواصلة، أثارت شكوكاً في نوعية الخلل الذي يكتنف إدارة الإنتاج الثقافي وخياراته في التمويل. هذا إلى جانب قضية المنح الإنتاجية للشباب التي ثبت انها لا تكلف ما يذكر. أما تمويل نشر مجموعات قصصية وشعرية لجيل جديد من الكتاب، فقد حرك الكتابة النقدية لأول مرة باتجاه الحديث عن كتابة شعرية جديدة في سوريا.
ثمة نجاح لا يمكن إنكاره، مع بعض التحفظات من رهاب المنظمين انفسهم حيال تابوات معينة، حدّ الهلوسة بها وبكل ما يمكن تفسيره على أنه انحرف باتجاهها. لكن لم يتبين إن كان هذا النجاح، وقد فاجأ متعهدي مشروع الاحتفالية، أخُذ على محمل النقمة أم النعمة؟ الآن لا يمكن أن يديروا ظهورهم وكأن شيئاً لم يكن. ليس بإمكانهم إقامة نصب تذكاري لاحتفالية دمشق، ليشهد انهم في يوم ما أنجزوا شيئاً. الأمر ليس بامتحان، أو أزمة طارئة غلبوها. ثمة واقع جديد فرضه نجاح فعاليات الاحتفالية. إنه النجاح، لكنه أفسح للفضيحة في عباءته. الحديث عن تردّي ذائقة الجمهور، وتبرّم المؤسسة الثقافية الرسمية من عزوفه، وهي تنتحل معارك ثقافة نخبوية، صار بالياً. المجادلة بالميزانيات وسقوفها، لم يعد له معنى عندما نعرف أن ميزانية الاحتفالية، كما صرّح القيمون عليها، لم تكن أعلى من ميزانية وزارة الثقافة. والأنكى أن ما أنفقته الاحتفالية على فعالياتها لم يتجاوز نصف ميزانيتها. صاحَب أوركسترا الاحتفالية، ومن حيث لم يحلُ لها ان تقصد، تفريد بالغ الوقع على «مقام» الفضيحة. لقد وفرت أدوات لفحص كل ما يقال حول قدرية مؤسفة تسيّر تراجع الحياة الثقافية. من هنا لن تكون مجازفة القول عن دمشق قبل الاحتفالية، ودمشق بعدها، وعطف ذلك على التساؤل إن كان النجاح نعمة أم نقمة. انه تساؤل لا يمكن تبرئته من شماتة ستنمو في جسده مع مرور الوقت، تبعاً للكيفية التي سيصرف فيها صمت الختام.
صمت رسمي حجب أو تمهّل مؤتمراً صحافياً وبياناً. لماذا؟ الاجابة الوحيدة المتوفرة حتى الآن، ما يقوله المنظمون عن حرجهم من السؤال: ماذا بعد الاحتفالية؟ وهو سؤال كانوا يدركون تماماً أن كلّ الاذهان ملقّمة به. واذا تذكرنا أن وظيفة مؤقتة، منتهية الصلاحية، بوسعها تجنيب أمانة الاحتفالية حرج الإجابات، يبقى أن نخمّن الجهة التي يهبّ منها صمت الختام. يمكن أن نرجح أنه صمت ليس اختيارياً، وليس تدبيراً حلّ تلقائياً نهاية جدول أعمال. وعليه، هل من الممكن أن ثمة من يفكّر الآن في مخرج من ورطة نجاح الاحتفالية. كان أحد مراميها الأساسية إظهار صورة حضارية عن سوريا، او ما فسّره معارضون بأنه «تبييض لصورة النظام». مع النتائج لن تفرق كثيراً إحالات التسمية، فثمة إمكانٌ لفعل شيء، جعلته النتائج بيّناً، و يبقى الخيار بين تكريس هذا الإمكان واقعاً جديداً وبين عدم الاكتراث بمفاعيله. إنها ورطة أقلها «أخلاقية»، ودفّة الخيار لا يقودها موظفو احتفالية دمشق بالتأكيد! وأي محاججة بعد الآن يكون اللاحول واللاقوة على الفعل مدارها، ستجد أمامها غمزاً ليس بريئاً، بأن وماذا عما فعلتم في الاحتفالية؟
ما رشح من مداولات واقع ما بعد الاحتفالية، أن هنالك تفكيراً بمواصلتها العمل من موقع آخر. سبقت ذلك اشارة ظهرت قبل عدة أشهر من ختامها، عندما أخذ موقعها الالكتروني يستفتي وهو يسأل: هل تؤيد أن تواصل الاحتفالية العمل بعد انتهائها. كان السؤال نافراً وفيه إضمار ملتبس، وهذه الأيام يروّج حديث عن تمخّض لجنة أو هيئة عن أمانة احتفالية دمشق، تعامل كمؤسسة مستقلة. لكن هذه الصيغة بما تحمله من مهام للهيئة الجديدة، تولد خشية من جعلها في تنادّ مع موقع وزارة الثقافة. فتنظيم النشاطات الثقافية، وتمويل المشاريع، واستضافة العروض، هي أمور في صلب عمل الوزارة. ومع ذلك فإيجاد تخريج لائق لهذه المشكلة، ليس صعباً على من لديهم حساب مفتوح الى بنك الصلاحيات. أساساً الاحتفالية ذاتها، وفي عزّ نشاطها، لم تنج من موقعها كندّ لمؤسسات ثقافية أخرى، تباهت بوصفها الأقدر على بثّ نشاط ثقافي مؤثّر. نديّة وصلت إلى «الحرب الباردة» في مرحلة ما. إضافة إلى نأي الاحتفالية بنشاطاتها عن وزارة الثقافة، وعدم ذهابها إلى تبني وتمويل صيغة الاسابيع الثقافية العربية نزولاً عند تقاليد الوزارة. كان الآخرون اهتدوا الى «كشّاشة» مريحة لكل الاسئلة. تساموا بالقول إن الاحتفالية لكل الوطن، وكل ما يقدمونه هو في سبيلها، وردّت الاحتفالية أن عندنا برنامجنا المحدد، وهو ما نحاسب عليه. الحرص على عدم الخلط، بدوره، جعل وزارة الثقافة في مرمى المقارنة مع ما تقدّمه الاحتفالية. مقارنات لم تكن نتائجها وإحالاتها سارّة أبداً.
من أين تخطر الجرأة للكلام؟
كل ما سبق، من أسئلة وتتبع الخيارات، بإمكانه أن يصلح بوصلة لفهم حديث أمينة الاحتفالية حنان قصاب حسن. كلامها توافر على جرأة ليست معتادة في حديث مسؤولين رسميين. لم يكن عادياً ان تقول قصاب حسن ان الاحتفالية أفرزت ضرورة لإعادة النظر في المشهد الثقافي السوري وكل بناه. تلفت إلى ان وزارة الثقافة أنشأت عام 1959، على نموذج الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية، وقد صارت البنى الآن قديمة ويجب «تنضيرها» من جديد. تقول «نحن في عام 2008 (نسبة الى سنة الاحتفالية) وحان الوقت لنفكر بشكل جديد، وهذا يحصل على مستوى الدولة…». إنها تدعو إلى مؤتمر وطني لإحياء الثقافة، عندما تقول انه من الملح دراسة وضع السينما والمسرح وغيرهما، خصوصا انها تضع تعليقا معبّرا عقب ذلك: «المهتمون لديهم ما يقولونه وهناك خبرات تعرف أين الخطأ». ثمة اعتراف غير مسبوق هنا. أولا انه اعتراف من موقع الانجاز والنجاح وليس لازمة التنصّل والتطهّر عند الإخفاق. وثانيا لم يسبق ان فضح مسؤول رسمي الأمر على هذا النحو: يعترف بحكم تجربة أن الخطأ موجود، يواصل نخره، ويعترف أن امكانية اصلاحه حاضرة، ويوجد من هم قادرون فيها، فما الذي تبقى؟ باتجاه آخر، قصاب حسن نفسها تحتار في أمر نجاح الاحتفالية :«ما السبب الذي يجعلني لا استطيع في المعهد العالي للفنون المسرحية (وهي عميدته) أن أنجز، كما أفعل في الاحتفالية؟ هل هي الصلاحيات الاستثنائية والدعم الكامل؟ هل هي الموازنة المريحة؟ هل بفضل التركيز على ابراز صورة دمشق؟..». لا تجيب بل تتساءل، لكنها اقرب لمن يجيب ضمناً على اسئلة مضمرة. وهي اجابات تفيد ايضا في استقراء الواقع الجديد، إذا كان من واقع جديد، خصوصاً بالنسبة لمن يتنبأ بحركة تغيير كراسي. تقول قصاب حسن إنها لا تتوقع انجازاً اذا سارت خطط جديدة بآليات قديمة، فهل يرجح استمرار الاحتفالية بصيغة أخرى؟
(كاتب سوري)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى