صفحات ثقافية

صناعة المستقبل: بيان من أجل حساسيّة شعريّة جديدة

null
نصر سامي
التّصدير:
(لقد أصبحنا نتطلّب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشّباب. ومن يتطلّب الحياة فليعبُدْ غده الذّي في قلب الحياة. أمّا من يعبد أمسه وينسى غده فهو من أبناء الموت).
أبو القاسم الشّابّي
(إننا هنا أبناء أرض لن تبيد، وماض لن يضيع، ومستقبل لن يبدأ، وحاضر لن ينقرض.. إنّ عالم الأوابد الذّي نحمله بين أيدينا ونراه.. لا يمثّلنا. إنّنا ذاك الشّيء الذّي لا ينتهي).
هنري ميلر
نبدأ من الموت تماما كالأرواح ونعبر حقول الزّمان مثل أقمار صغيرة تتساقط على البيوت المسقوفة بالأدعيّة. نعلن العصيان ونحن نتفجّر حياة وغضبا ونقول للغير: إنّنا نملك شيئا ونودّ تجربته. نفتّش عن هندسة جديدة متينة وبسيطة ونهزأ بما شاده عصركم. نهزأ بتلك البيانات الغوطيّة التّي توهم بالعظمة، وهي مسوّسة مـن الدّاخل ومسكونة بالأرَضَة وروائح الأجداد العطنة. وتلك المعالم المحفورة على الصّخر، تلك الشّاهدة على القدم والأصالة والتجذّر، نرفع لها معاولنا الصّغيرة. وفي هذا الطّواف سنطالع العالم بنصّ مختلف ولغات مختلفة وحساسيّة جديدة. وستكون نصوصنا مسرحا للاّمعقول والسّريالي. وسنكون مسرح الحافات الأخيرة. وسيلتقي فينا العالم بلا معقوليته ولا جدواه. شيء واحد سيحكم برباط نورانيّ جسد نصوصنا. إنه النضارة والجدة والإدهاش. وهذا ما سنؤكده من خلال محاولتنا ملء الفراغات الكثيرة التّي تحيط بحياة الكائن وآدابه. وبعيدا عن التّجريد الرّائع الذّي أحبّ ممارسته أبدأ طرق الموضع من خلال محورين:
1) دحض الأوهام:
– لا ندعو إلى الانكفاء والانطواء ولا إلى غلق النّوافذ أمام الغير: نطلع القدر من منابته ونكرره وننوعه ونظلمه ونلاحقه، فلن يحبّه أحد مثلنا. ومن أجسادنا نطلع الأبد ونبدأ المعرفة.. وسيغفر لنا القدر كل هذا الحبّ. الآخر بهذا المعنى ليس نقيضا. وليس أيضا عدوّا. إنه السميّ الآخر العظيم للذّات. الطرف المنسيّ الداخل في ذهب الرّوح. والآخر هذا الملاك الصّامت سيكون مرهقا للغاية وشاحبا وصوته الأجشّ متهدّلا في وهن. وتحت عيونه الحزينة تنام ظلال داكنة تميل إلى الاحمرار. وجفونه ملتهبة. وصوته الخشبيّ مسموع وهو يتشقّق داخل الموقد. هذا الملاك الصّامت سيظلّ دائما يسكن الدّواخل. يستيقظ مبكّرا ليبدأ كلّ صباح شحذ الرّوح، وتأمّل الشّقوق الطّولية التّي تحفر في الجدران، والرّطوبة التّي تكسو الألواح الخشبية. ليست الذّات فردية. إنها عالم مصغّر. لم يستهلك فيه شيء بعد. ولم ينته من إبدالاته وإمكاناته شيء. جميع العلاقات التّي أعلنوا موتها مازالت بكرا. وكلّ الدّروب التّي أوهمونا بحدودها لم نلحظ فيها قدم إنسيّ (وجدنا فيها أقدام الأرواح). العالم، إذن، مازال لم يكتشف ولم يؤوّل، ولم نر أبدا أثر الدّماء على أحجاره اليابسة. عندما يسألني النقّاد عن الآخرين أقول لهم إنّهم داخلي. وعندما يسألونني عن العالم أجيبهم هذا هو العالم: إنه أنا، انظروا إلى وجهي، إنّني مرايا العالم.
– المعلّمون الكبار عاشوا فيما مضى: تركت لهم بابي مفتوحا في الليل. وأخذت الكثير مـن المعلمين الكبار الذّين يعيشون الآن. وجدتهم أقوى وأصلب. ووجدت أن أعمالهم تحكمها حساسية أخرى من حيث الرؤية والتقنية والإدهاش. وهذا الحوار الذّي يتمّ يوميّا هو الإمكان الوحيد لتأجيج المحرقة وإيقاد نيران المغايرة. والمغايرة هنا ليست عملا إضافيا، إنّها تتمّ في اللغة، وتتمّ في النبض أيضا. وتهدف إلى تغيير الكائن وإرجاع هيبة الحروف التّي كفّت عن التّسمية والخلق. لقد آن وقت استيقاظ النمرة (الكتابة).
– الانشداد إلى قواعد الصّنعة ليس أبدا إهانة لقداسة النصّ: على الشاعر أن يتقن وسائله، وأن ينشدّ إلى قواعد الصنعة، وأن ينسى أمر الإلهام. وهكذا، سيصنع قصائده كما تصنع الغابة شجرها وكما تصنع رطوبة الجدار العشب، وكما يفتح الرسّام ألوانه على الغياهب. هذا لأنّ الانشداد إلى قواعد الصّنعة والوقوف على أسرار اللّغة وخباياها ليس أمرا مكمّلا لهالة الإلهام. وليس أيضا جسدا إضافيا لإيقاد النار، إنه النّار الأولى نفسها والشّجرة الأكمل في غابة الإبداع. لست أدعو إلى الصفوية ولا إلى الإعادة. أدعو فقط إلى بعث قارة الألفاظ من رمادها القديم وإطلاق أجنحة العنقاء الأزلية من قمقمها. للشّاعر أن يتأمّل الأيام. وأن يلمس خزفها الطيني المتروك على عتبات البيت. وأن يشمّ رائحة الماعز إذ يصعد في أعقاب اللّيل إلى الأدغال، وله أيضا أن يقف على الينابيع، وأن يقرأ مكاتيب الأهل وصهيل أفراسهم. له أن يفعل أيّ شيء. شيء واحد عليه أن يوفّره، إنّه اللغة القادرة على حمل الآباد، اللّغة القادرة على القبض الدائم على الأزمنة الشعرية المتعدّدة، اللغة التّي تنهض بوظيفة الإبادة والخلق: إبادة القدامة وخلق أفق لغوي آخر. آلته الحدس الطائر بأجنحة المخيال وأفقه مفتوح على تجارب الآخرين وعلى التشوّف والاندفاع.
– الشعر لاهوت رمزي: غرفة بملايين النوافذ. وتعريفه بالعودة إلى فاعليته ودوره وأثره تحديد إقصائي لبعده الأجمل. التحرّر التّام من كل التحديدات الماقبلية والقدرة على العصف المستمر والجاهز. ندعو، إذن، إلى إعادة الشعر إلى بيته القمري وتخليصه من الوحل الذّي ألصقوه به. ندعو لإطلاقه من سجن الاجتماعيات (الالتزام/ الشهادات/ التّوثيق/ الاعترافات…) وتركه لمهمته الأجمل: تجميل بيت الكائن وإطلاق عربات الصور. ولا تخشوا غياب الواقع. فالواقع هو أيضا ما لا ترونه حولكم وما لا تفكرون به. ندعو إلى تحرير الفكرة من محمولها الواقعي كما حضر في كتبكم ومن فهمكم للكتابة. ونجرب باستمرار أفكارنا السابحة في بيت العالم. وفي الواقع ذلك الطين المغوي الذّي أوهمتمونا بسطحيته. وفي الأفق الذي تفتحه الأفكار الحرة على المجاهل. ليس الشعر عملا إنسانيا فقط. إنه أيضا محارق أرواح ومسارح رموز. وبهذا الفهم نتقبل هازئين اتهامنا الرائع بحرق ورقة التوت وكشف البيوت عن خوائها الأبدي وعن يبوسة أرضها وعطالة أصحابها وفقرها الجمالي. نعيد الشعر إلى ينابيعه الأولى. نهيّئ له الأحصنة النوريّة ونمجده. ونضع بين يديه أغانينا الحزينة كقطرات خمور مقطرة. ونجعله يستمع إلى ارتعاش النغمات التي تسقطها أصابعنا التي تنحت الضوء. نمنحه الفضاء الشفاف المحاط بالبسمات الناعمة. نمنحه كلمات الماء وعطر الفجر الصاهل في غابات الشرق. نقطر عليه في أول نوفمبر قطرات الروح والشتاء البارد ونضع في سلة أحلامه عناقيد الوجد وخمور الآباد. ووقتها سنرى أقمارا تتلألأ في أديرة الصفحات البيض ونرى أرواحا لاهية في صحراء أعماقنا. وسنلحظ ماء ينهل من سقوف بيوتنا الحجرية. وستكون قصائدنا مثلنا صغيرة وفاتنة. وسنستطيع فتح الصباح والوقوف باعتداد على ضفافه. نعيد الشعر إلى قداسته. نعينه على قطع المشيمة والخروج من بيت الأهل ونعدّ له الوليمة. سنضع على المائدة شفتي عروس تقطران شهدا ولسانا من عسل الجبال وثيابا برائحة تستيقظ ريح الشمال وريح الجنوب وجنانا مغلقة وكلمات: هبّ على الجنات المختومة. قف تحت أطايبها وادخل فهذه بيوتنا وتلك الأزهار التي تفوح منها روائح الرغبة بيوتنا أيضا. وتلك النجوم التي تهدهدها أراجيح الغيوب. وذلك الفجر السائل على وسائد الأبد وتلك النّافورات المنقوعة في ندفات الثلج ودكنة الصباح وأوراق البردي.. كلها بيوتنا. نحن إذن واقعيون بشكل مدهش. نذهب بالبرق إلى آخرة الليل. نأكل القداسات نيئة، نترك على الأعشاب الرّخوة الوردة كاملة الفتنة. ونبدأ فعل التّسمية من جديد. فليس صحيحا أنّ كل شيء مسمّى ومكتمل. الحقّ أنّ كل شيء معمّى تماما وبحاجة إلى الدّماء المسكونة بالتّطواف ليتسمّى ويكون.
– من الحمق ادّعاء القدرة على الاعتماد الكلّي على وسائل الشّخصية وحدها: الوسائل الشّخصية لا تكفي. الأقمار الصّغيرة المخبوءة في أرض الرّوح والكنوز المغروسة في دكنات الصّدور والأنهار الصّابئة المسكونة بالدّماء… كلّها لا تكفي. ربّما كانت رائعة. ربّما استطاعت لوقت محدّد أن تزرع ثمر الإغواء الفاتن. وتطرح أعناب الغموض والجدّة والإدهاش. لكنّها، وإن أدركت هذا المتعلّق الصّعب، تظلّ منقوصة فتلك الأقمار الصّغيرة السّاكنة في أرض الرّوح تظلّ بحاجة إلى أضواء أخرى تأتي من أطراف العالم. وتلك الكنوز المغيّبة في دكنات الصّباح تظلّ بحاجة قصوى لكنوز الآخرين وبروقهم ورياحهم وعوالمهم السّفلى. ما يكتبه الآخرون هو بدايتنا. وسائلهم الشّخصية جزء من شخصيتنا أيضا. ونحن بهذا المعنى لا ننادي بالمحو وخطابنا ليس معنيّا بالرّفض والتجاوز ومقولات التعيير والقيمة. ما نحن معنيّون حقّا به هو تطوير وسائلنا والانفتاح على تجارب الغير. نبدأ من القديم. من دماء الموتى المدفونين في العراء. من اللاّمرئي الجوّال السّاكن في كتبهم. من النّار الرّاقدة في تضاعيف جملهم.. نسكن لفترات بيوتهم وندرك أنّ لنا جذورا مضيئة في التّربة وأنّ في أعماقنا أشياء ليست ملكا لنا. إنّها الميراث. نرث قديمهم وقديمنا كلّه، معلومه وهامشه، نقيم فيه ولكنّنا نخرج منه خروجنا من بيت الأهل. ونبدأ أيضا من معاصرينا (غربا وشرقا). ونستفيد من فنونهم كلّها (المسرح/ السينما/ الرّسم/ الموسيقى..). ونستعين بهم لنجمّل بيت الكائن. وهكذا نلغي الاعتقاد بقداسة الوسائل الشّخصية، ونؤكّد أن وسائل الآخرين إمكان آخر للإيغال في المغايرة والكشف والعصف بطمأنينة الشّاعر وإيمانه بأسلوبه وبطريقته الآمنة في إنتاج المعنى. وانطلاقا من هذا نقاطع أيضا الشّعر الذّاتي ونقاطع الشّاعر الذّي لا يقرأ. ديوان الشّعر عندنا ليس الشعر التّونسي فقط وليس أيضا الشّعر العربي. إنه النصّ المنفتح على هواء التعدّد والمنفتح على الآفاق والثقافات، المستند إلى أكثر من حساسية ومناخ والمتعلّق بأكثر من جدّ وبأكثر من أرض، والبادئ من أكثر التّجارب طيشا وعصفا بالمستقرّ والجاهز. نبدأ فتح نصوصنا على هواء الغير. ونندفع بانبهار نحو تلك المسارب المفتوحة على الأبديّات. نشعر بالدّفء والرّضى في أسرّة التساؤل والشكّ.
2) طلقات الرّحمة:
ثمّة رعب يستعمر فينا قلق الكلمات. ثمّة موت يسكن أعماق الكائن. ثمّة نار باردة تتسقّط أخطاء الماضي. وثمّة أيضا الأوهام، نعم، الأوهام تلك الفاعلية المولّدة التّي اكتشفناها في واقعنا. وثمّة أيضا ألف أغنية تقضّ مضجع الّلّيل وتقلّم مخالبه. وثمّة إيقاعات الموت. ولكنّي لن أكتب المراثي الرّحيمة. سأترك ذلك للأموات. وسألهو بالسّخرية. وفي الليل عندما ينشغل الآخرون بتشييع الجنازات سأنشغل أنا بالنّهايات، بتلك الأيّام السعيدة. سأكتب نصوصا للاّشيء وسأغني في انتظار الكارثة. سأطالع العالم بنصوص مختلفة، بلغة مختلفة، بحساسيّة جديدة من حيث الرّؤية ومن حيث التقنية ومن حيث النبرة والمفارقات. وإذا صرخ أحد: ماذا تبقّى لكم. سأجيبه بنبرتي السّاخرة تلك: تبقّت لنا النّضارة والإدهاش والجدّة. تبقّى لنا التقاء العالم على لا معقوليته وعلى عبثيته ولا جدواه. تبقّى لنا أن نؤثّث مسرح الحافات الأخيرة. إن ما نكتبه هو ثمار المواهب المدهشة. تلك المواهب التّي تتغذّى باستمرار من روافد متعدّدة. لذلك لم نقنع يوما بتلك اللغة الميّتة البكماء المدفونة تحت الصّمت منذ سنوات طويلة. ولم نعتمد الوسائل الشّخصية وحدها بل نكتب النصّ العارف. لا أصرخ مثل غيري جميع الترتيبات مستهلكة! ولا أفرط في السّوداوية. ما أومن به أن جيلا جديدا أعلن العصيان والخروج من دوائر الموت بحثا عن كتابة جديدة تهزأ بالموجود. وهكذا نفكّر بترك الشّعر لنوره الأعمق ونجرّه وراءنا إلى الفلسفة وإلى العلم نبعده عن العالم وندعوه إلى العزلة. ونرى أنه بذلك سيحضر فيه بعمق أكثر. ندعوه إلى البحث الفكري الصّارم. وبذلك لن يستمرّ الشّعر صدى للعصر ولا ناقلا لانفعالات أصحابه. ندفعه إلى اللاّمبالاة المطلقة بالفائدة. فالجمال يناقض الفائدة مناقضة كلّية. إن ما نفكّر فيه هو شيء من عبادة الجمال الصّافي، ولكنّه أيضا إيمان مطلق بالمهارة وبالتقنيّة التّي لا نرى غيرها بقادر على رفع الشعر إلى مرتبته اللائقة به. نكره الشعر السهل (الشعر العاطفي) وندعو إلى دخول العلوم الإنسانية حقل الشعر. ونلح في البحث عن منابع جديدة نستقي منها مواضيع شعرنا بعد أن نضب النبع العاطفي والشخصي والنبع الاجتماعي والسّياسي ونؤكّد، لا بدّ من استبدال المنابع بعدما نضبت جميع المنابع القديمة. ليس ذلك سهلا. نعم. ولكنه أساسيّ. علينا أن نستخرج المدهش الذّي يغمرنا ويروينا من اليومي التّافه ومن الاجتماعي المتغيّر. علينا أن ننتزع من الحاضر النّاحية الملحمية وأن نؤبّد الجوهر. علينا من خلال الشّعر أن نجعل النّفس ترى البهاء الكامن في ليل الكائن، وهكذا سيكون الانفعال الشّعري نافذة أبديّة لما وراء العالم (ذلك العالم الأكمل) وستهجر الصّور بيتها الأوّل (بيت الزّينة) لنحت دورها الأجمل (دور الخالق) وبذلك فقط ستنكشف الأعماق عن الأسرار والجواهر. الكتابة ليست شيئا غائما معلّقا في فضاء الرّغبة والحدس. وليست أيضا انقذافا في المغايرة والمجهول. إننا نستقرّ على أرض لا تنطفئ براكينها. ولكنّنا مع ذلك نفكّر بعدّة نقاط يمكن أن تعضد سيل الرّغبة وفتنة الأقاصي وهذه أهمّها.
1) مسايرة الإبدالات الأدبية والمعرفية التّي حصلت داخل العقل البشري، وتفهّم أسبابها وتبنّى أطروحاتها. وإلغاء تلك العطالة الفكرية القاصرة عن إدراك ذلك.
2) الانفتاح على الممارسة النصّية والمقاربات النظرية والاستفادة القصوي من مجمل مراحل تطوّر صناعة الشّعر لأنّ تاريخ الحداثة، ذلك التاريخ الصّدامي، كان أيضا تاريخ انتقالات ونجاحات كبرى وقراءة ذلك التاريخ قراءة جديدة هو من أوكد ما تتطلّبه كتابتنا.
3) خلق حساسيات جديدة وطرق تعبير فارقة وقيم جمالية مغايرة. وذلك أمر طبيعي. لأنه لا تكون روح جديدة إلا في جسد جديد لم يسكن أبدا من قبل. ربما كان ما نجرّبه مشابها لبعض النّصوص الأساسية في حركات التحديث. وربّما كانت أطروحاتنا أيضا تستفيد من تنظيرات سابقة في الزمان والمكان. كل ذلك لا ننكره وذلك لأننا رافد قمريّ لهذا الضّوء الّنهاري الرّائع الذّي يخترق العصور.
4) وهج الابتداء الذّي لا يشيخ هو أهمّ ما ندّعيه. وبذلك الوعي ننزل إلى الواقع لتفتيته، وإلى النّماذج والتّماثيل لكسرها، وإلى الأب لحمله إلى مرقده السّماوي. وإلى المضمون لإعطائه عكاكيز البلاهة وصفاقة الرّضى. وإلى الحادثة لوضع الزّهور على توابيتها المقدّسة.
5) زلزلة الأشكال والمعاني الموروثة: ما ظلّ منها حيّا من القديم وما صار له أيضا سلطة القديم من إنتاجات الحداثة. الجماليات التّي تمّ اكتشافها هي أحد مكوّنات النصّ الذّي نريد… لا أكثر.
6) تجاوز كل التّعريفات السّابقة: لأنّها رغم حداثتها ظلّت مسكونة بسؤال الهوية. فكأنّ قارّة الأنا بحاجة إلى حصانة الماضي. فلقد ظلّ الحوار مع جماعة الشعر الحرّ مركّزا على القوانين العروضية التّي يسعى شعرهم للتحرّر من جمودها ورتابتها، وتواصل هذا المبحث مع جماعة الشّعر المعاصر وإن أضافوا مقولة روح العصر أو المعاصرة. واستطاعت مجلّة مواقف أن تخرج بالنّقاش من هذين المبحثين إلى أفق أرحب. وتجرّأت على الماضي وعلى سؤال الهويّة ونظرت إلى الشّعر العربي في ضوء قيم قادمة من الغرب. ولكنّ هذا الأفق ظلّ يعاني من الإرباكات والمراجعات. وظلّ هو أيضا يمارس نوعا من الحنين إلى الماضي وإن كان حنينا شيّقا ومليئا بالعقوق، وتركّز مفهوم أساسيّ في فهم العملية الشعرية هو مفهوم الرّؤيا. فالعملية الشعرية لم تعد انعكاسا ولا تقريرا ولا شهادة بل انجذاب كلي نحو المتخيّل. وبحث عن المنابت والجذور الغامضة التّي تحكم العملية الشعرية. وأصبحت قارّة الرؤيا هي الرّحم الوحيد الحاضن لجزر الحواسّ. وانفجر الشّكل وصار من الضّروري أن تكون للكتابة الجديدة لغتها الجديدة. واستبدل الحديث عن العروض بالإيقاع، وعن المعنى الشّعري الواحد بالمعنى المتعدّد، وامّحت تنظيريّا الحدود بين القديم والحديث. وترسّخت أسس أخرى للكتابة الجديدة تركّزت على:
* نفي المعلوم وإيجاب المجهول.
* إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية.
* الزمن الثقافي بدل الزمن الشعريّ.
* استبدال مقولة الفهم بمقولة التأمّل.
* اعتبار القارئ منتجا لا مستهلكا.
وهذه الأسس التّي كانت نتاج فكر خلاّق هي أيضا بعض الأسس التّي نضيفها للقصيدة. ونعمل على تطويرها ودفعها نحو هواء الغير. وذلك لن يتمّ إلا في أفق حضاريّ موسّع نفتح فيه النصّ للاستفادة من منجرات العقل البشري. نفهم كلّ ذلك ونتجاوزه. ننتقل من التّنظير المنفتح على المستقبل. ومن إلغاء الحدود بين الأجناس إلى إنجاز ذلك النص المتعدّد، ومن استبدال مقولة الفهم بالتأمل إلى منطق آخر يخترع فيه النصّ قارئه. ونؤكّد أن ذلك لن يكون إلا باختراع فعل شعري قابل لجميع المعاني. فدفع الشعر لاستعادة وظيفته الإلهية يقتضي إصلاح الحساسية التّي تحكمنا، وإيجاد منابع جديدة للنصوص وإعادة القيمة لعناصر الفعل الشعري للكلمة، تلك الفضّة التّي هي الواقع الحقيقي للشعر. نلوّن حروفها ونضع فيها الحياة. وفي هذا الطريق سنجعل الشعر يقترب من الموسيقى ومن النّحت ومن الرّسم وندفعه نحو الإيحاء لا التجسيد، وذلك لأنه لا بدّ من شيء من المغامرة. إن غرض الشعر ليس الفكرة الواضحة والعاطفة الدقيقة وليس الغموض ولا الإلهام… بل دفع المعنى إلى ليل اللّغة ليكتفي القارئ بشيء تقريبي يشدّ العقل ولا يصدمه، ولا يعيقه عن المشاركة الخلاقة. نعرف كل ذلك ونلغيه. نفهم هذه الحركة في جوهرها. نؤمن أن محرّكها هو نفسه الذّي ننطلق منه لذلك لا نتبنّى النتائج لأنّها ليست أبديّة ونتبنّى الحساسيّة التّي حكمت ذلك الجيل لأنّها أبديّة وذلك هو منتهى ما تتقبّله روحنا في التّعامل مع الآخرين. إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي صناعته. ولقد بدأنا ذلك. وسنواصل.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى