ألفة تشيخوف القلقة
علي جازو
ثمة من يعتقد وهو غير مخطئ في ذلك- أن شخصيات تشيخوف بسيطة، يومية، عائلية، شبابية، ويمكن توضيحها وتقديمها للقارئ العادي بسهولة ويسر. لكننا حقاً نراها عميقة وحذرة حتى حينما نقرأها لمجرد القراءة والمتعة وتمضية الوقت. إن الطاقة الشعرية والقرابة الحميمة،بإضمارها المنفعل وقوتها الهادئة، لا تظهر لنا سهلة وواضحة من القراءة الأولى. كان تشيخوف يرتاب في قدراته المسرحية. كان يعتقد أنه لن ينجح أبداً في كتابة مسرحية جيدة. نفهم من هذا أنه كان يعيد الكتابة أكثر من مرة. وأن سهولة النص خادعة، وأنها كذلك بسبب براعة خفية وتفكير صارم، وجهد استثنائي. لا شيء جديد. كل الأمور تحدث وتتلاقى وتتجاور كما ينبغي لها أن تكون. لكن رغم ذلك، ثمة ما يدفعك إلى القراءة من جديد. الألفة ليست على الدوام علامة إدراك أكيدة، ربما أنه كثير من الجهل بسبب الكثير من اعتياد الألفة . فجأة، ومن ثراء ولمعان عبارة بسيطة، تتوقف معيداً الإصغاء إلى النبرة المحزنة، والمضيئة في آن. ببساطة وحنان، دائمين مشبعين حدّ الثمالة، يحدثنا تشيخوف عن الإنسان، متألماً وحيداً ومحتاراً وخائفاً. الأحداث والشخصيات في حدودها الطبيعية وربما الساذجة، ليست في الأهمية والنفوذ اللذين يمنحهما ويخشاهما المجتمع المسكون بالتعاطف العام والتكافل الإلزامي. ما من بطولة خارقة أو شجاعة ممدوحة ومنمذجة ، ما من آلهة أو أقدار مجنونة على عهدها اليوناني أو الروماني، وما من مواقف غريبة ولا مثيرة. ثمة من سيجها وأحاطها بسكينة نافذة وجوانية قلقة وحانية. ثمة السكينة التي تحّرض عبر الهدوء والمراقبة والتأنّي على الإحساس المشترك والتفاعل القوي والتأثر الممتلئ حساً وقرباً ومراقبة. تشيخوف يراقب ويسجل لصالح همّ الإنسانية ما يجعلها أكثر دفئاً ودواماً وقوة رغم كل ما يعيقها ويشتّتها ويؤلمها. مرة أخرى، تُدفَعُ إلى التفكير بحنوّ وقرب آسرين فيما تظنه سهلاً وطيعاً وأليفاً وبلا حاجة للتفكير. إنه يعيدنا إلى التأمل من جديد فيما تجاوزناه لأننا اعتقدنا أننا رأيناه وعرفناه. تشيخوف لا يخدش ولا يقطع ولا يجرح، لكنه مع ذلك يؤلم كمن يشدُّك بقبضة من “حرير الرضا التائه”، بنفحة من “ذكاء الأزهار”. إنه يحملك بفطنة غير عادية أبداً صوب هذا الامتلاء الإنساني العميق وهذه الشكوى الخافتة كأنما هي تصدر من بين الظلال، من فم أشباح لطفاء وحيدين. وهي كذلك من دروب عزلة الإنسان اللامتناهية. إنه “حقيقي” عندما تكون الحقيقة ضرورية كالصراخ، كعزف على البيانو، كقبلة سرية لا هي ضحلة ولا هي خائنة. إنه يسجل ويراقب ويراسل من بوابة الضرورة التي لا يمكن أبداً نكرانها أو تحريفها أو تأجيلها. ثمة “هَمٌّ أخلاقي وجمالي” ينزف بصمت وحياء داخل أعمال هذا الكاتب النادر. حياء من مادة النقاء الخلابة، وصمت هو شقيق الخيال حياً ومتوارياً في آن. إنه طبيعي شريك صادق ومؤثر، أخٌ في آثار الجزمات الموحلة،أو طفلٌ في زوايا شرفات المزارع الريفية، وصاحبٌ عليلٌ في انتظار تكامل النجوم. إنه “طبيعي” بحرص شديد، لم تحرمه الثقافة الرفيعة ولا تعدد اهتماماته من الانغماس في أجواء من هم دونه في الثقافة والعمل والطموح. طبقات فقيرة، متشنجة، متأرجحة بين ريفية هاذرة وتمدن مشكوك في رسوخه ومتانته. عمال مأجورون، وموظفون لامعون ذوو نفوذ وثراء، نساء رقيقات وغبيات وشغوفات. ومن كل ذلك وغيره يبزغ الشعور الأعمق والأدق بتوحد وتشابك المصير الإنساني. ثمة تفاؤل واستمرار وتشارك يجمع المختلف في الألفة الساحرة، والمتنازع في النهاية التي تنزع عن الهاذر إطنابه، وعن القلق همومه الفردية الضيقة. ثمة هذا الأمان الداخلي العطوف ينضح ويشع عبر أكثرالانفعالات حميمة والتباساً وألفة. ومن هذا التآلف السخي يرتفع أفق يعيد إلى الإنسان رجاء عينيه الواسعتين من داخله الممتلئ إلى طبيعته الناقصة نقصاناً يدفعنا إلى تعاطف حار وقرابة حادة. يقدم لنا تشيخوف إبهاراً يشبه عمق وصفاء البديهة المنسية. البشر متشابهون، ومن يعتقل الإنسان- من الداخل دائماً ليس سوى حرمانه من إنسانيته. ربما هو نفسه بطريقة لا واعية يقمع أكثر أحاسيسه نبلاً وحفاوة. ربما هو نفسه قد غداً قيداً ضاغطاً وظلاماً بارداً وارتباكاً مرهقاً. وعبر قدرة الكشف الشفافة والهادئة، عبر الإصغاء إلى أكثر الناس بساطة وغفلاً نمتلك من جديد ، كما لو أنها الفرصة الوحيدة الممكنة، غموضاً قد تألق بسبب العزلة، وألفة قادرة على إحياء التواصل الأشمل بين، ومن تجارب البشر التي لا تعرف النفاد ولا التوقف. الحياة مستمرة ، رغم الألم والعار الكونيين. وعبر تذكّرنا لها، نحياها كما لو كانت حلماً، حتى لو لم تعد هناك أحلام أبداً .
المستقبل