وردة النوروز الدامية
صبحي حديدي
نادرة هي الأعياد الوطنية التي تتجاوز الشعب الواحد والثقافة الواحدة، فتستقرّ في الموروث الجَمْعي لمنطقة بأسرها، متعددة الأعراق والثقافات، متباينة التواريخ، فضلاً عن أنها ليست دائماً على وفاق واتفاق، بل قد يكون الشقاق هو السمة الكبرى في علاقاتها المشتركة. ولعلّ يوم النوروز، العيد القومي للأكراد أينما أقاموا، في الجبل والسهل والمستقرّ والشتات، هو أبرز الأعياد من هذا الطراز: إنه يبدأ من الكــــرد، لكنه يمرّ بالعرب والفرس والأتراك، ويعبر إلى أقوام وقبائل في أفغانستان وأذربيجان وباكستان؛ وهو يتكئ على أرشيف التاريخ، الشفاهي والمدوّن معاً، لكنه في الآن ذاته يحتشد بعناصر الأسطورة والخرافة والملحمة والمخيّلة.
والحكاية، في تلخيصها المتفق عليه إجمالاً، أو ذاك الذي يتمتّع بالإجماع الأعرض، تقول إنّ الشعب الكردي ابتُلي ـ في مناطق استيطانه الأبكر على الشريط المحاذي لجبال زاغروس وطوروس، قبل أكثر من 2600 سنة ـ بملك غاصب للعرش، يدعى زهاك (أو زوهاق، ضحاك، دهاغ، أزدهاق… في تسميات أخرى)، كان شريراً متوحشاً متعطشاً للدماء، يحمل على كتفيه ثعبانين لا يتغذيان إلا على المخّ البشري. ولهذا كان يأمر وزيره بقتل اثنين من الشبان الكرد كلّ يوم، غذاء للثعبانين، الأمر الذي لم يطق الوزير نفسه القيام به، فكان يذبح شاباً ويطلق الآخر طالباً منه الفرار إلى الجبال، ويستعيض عنه بمخّ شاة. ولقد استمرت المأساة على هذا المنوال اليومي، حتى ثار الحدّاد كاوه (البطل الكردي الرائد، الذي تقول الأسطورة إنه عاش 2500 سنة تحت بطش زهاك)، وقاد الشبّان الأكراد الذين هبطوا من الجبال، فاقتحم قصر زهاك، وحطّم راسه بمطرقته، وسلّم الحكم إلى الملك الجديد أفريدون.
اعتماد الكتلة الأساسية للحكاية، أو الإتيان على معظم تفاصيلها، يتباين بين مؤرّخ وآخر، ويحدث أن تميل بعض الروايات إلى إلحاق غبن ـ فادح، في بعض الأمثلة ـ بالخلفية الكردية الأمّ وراء هذه السردية، وإضعاف مغزاها القومي والثقافي خاصة، لصالح الخلفية الفارسية وحدها. وهذا، في كثير أو قليل، ما يعثر عليه المرء في بعض أمّهات التراث العربي، مثل ‘المعارف’ لابن قتيبة الدينوري، و’تاريخ الرسل والملوك’ للطبري، و’مروج الذهب’ للمسعودي، و’البلدان’ للهمذاني، و’صبح الأعشى’ للقلقشندي، و’معجم البلدان’ لياقوت الحموي؛ وكذلك في ‘الشاهنامة’ للفردوسي، وتاريخ هيرودوت، أو حتى ‘شرفنامة’ للمؤرّخ الكردي شرفخان البدليسي.
في كلّ حال، كان نهار 21 آذار (مارس) هو اليوم الجديد (الترجمة الحرفية لمفردة ‘نوروز’) الذي أشرق على الأكراد، مقترناً بقدوم فصل الربيع، حاملاً الخصب والخير والنماء، ومدشناً فجر الإنعتاق والحرّية واللحمة الوطنية، حيث نار الحبّ تتقد وتغسل القلب، حسب الشاعر الكردي الكلاسيكي الملاّ جزيري (1570 ـ 1640)؛ وحيث تتفتّح وردة الربيع الندية التي ارتوت بدم الشبيبة، ويحمل أفق الأكراد القاني الأمل إلى شعوب قاصية وأخرى دانية، حسب شاعر كردي محدث هو بيره ميرد (1867 ـ 1950). وذلك، من جانب آخر، كان يوم ولادة مفردة، ودلالة، ورمز، وحكاية، وعيد… قد تتقاطع جميعها أو تتلاقى في الإشارة إلى هذا المعنى أو ذاك، ولكنها تلتقي بالتاكيد حول محتوى النضارة والإيناع والتجدد والجمال.
ولعلّ أبيات أبي عبادة البحتري في طليعة أشهر النصوص الأدبية العربية التي تعكس هذا كلّه: ‘أتاك الربيعُ الطلق يختال ضاحكاً/ من الحُسن حتى كاد أن يتكلّما/ وقد نبّه النوروز في غسق الدُجى/ أوائل وردٍ كنّ بالأمس نُوَّما/ يفتّحه برد الندى فكأنما/ يبثّ حديثاً بينهنّ مكتَّما’. وابن الرومي ذهب إلى حدّ إدخال نعت خاصّ يكاد يصف حال المتمتّع بمباهج النوروز: ‘تملّيتُ في النوروز عيش المنورز/ وعمّرتُ أعمار السعيد المعزّز’؛ هو الذي كان القائل: ‘يباكرنا النوروز في غلس الدجى/ بنورٍ على الأغصان كالأنجم الزهر’. ومن جانبه كان الشريف الرضي قد رفع النوروز إلى مصافّ خير الأيام: ‘وما النوروز إلا خير يومٍ/ أتتْ بشراهُ فيك بخير عام’.
وتجدر الإشارة، أخيراً، إلى أنّ للشاعر العراقي الكبير الراحل بدر شاكر السياب قصيدة بعنوان ‘وحي النيروز’، ألقاها سنة 1948 (وكان، آنذاك في الثانية والعشرين من عمره) خلال احتفال بالمناسبة، ونشرتها جريدة ‘السلام’ في عددها ليوم 24 آذار (مارس)، تلك السنة. القصيدة عمودية، على جري ما كان السياب يكتب حينذاك، تتألف من 27 بيتاً، وتنحو منحى خطابياً وسياسياً يستلهم شخصية كاوه الحدّاد، للتبشير بالثورة الحمراء: ‘ذكرى من الثورة الحمراء وشّحها/ بالنور والقانىء المسفوك، أذارُ/ مرّت على القمة البيضاء صاهرة/ عنها الجليد، فملء السفح أنهارُ/ في كلّ نهر ترى ظلاً تحفّ به/ أشباح كاوا ويزهو حوله الغار’. غير أنّ ما يلفت الإنتباه، ويستدعي الاقتداء في أيامنا هذه، أنّ السيّاب اعتبر معركة الجماهير الكردية والعربية واحدة لا تتجزأ، أمام المستعمر والباغي: ‘كاوا كيعرب… مظلوماً يمدّ يداً/ إلى أخيه، فما أن يهدر الثار/ والمستغلان في سهل وفي جبل/ يدميهما بالسياط الحمر غدّار’…
ذلك لأنّ فجر النيروز يندر أن يشرق هذه الأيام دون أن يتضرّج بدم الكرد، كما حدث السنة الماضية حين استشهد ثلاثة من شباب الأكراد برصاص أجهزة أمن النظام السوري في مدينة القامشلي. وهذه السنة وضعت يدي على قلبي، انا ابن تلك المدينة التعددية التسامحية الفاتنة، خشية أن ينقلب إحياء الذكرى إلى مجزرة جديدة، لأنّ الآلاف من عناصر الأمن والجيش حاصرت المقبرة، ومنعت حتى ذوي الشهداء من حمل أكاليل الزهور إلى قبورهم.
كأنّ أقدار وردة الأفق الكردي أن تظلّ يانعة بهية، وقانية دامية… في آن معاًّ!
خاص – صفحات سورية –