الحلقة 2 من رواية: سيدة الملكوت
المثنى الشيخ عطية
تابع.. لا مكان
عاد ألدار مشرقاً إلى بيتي ليراني في الصباح. سألني إن كنت خضت التجربة وأخبرته بفشلي. قال إن مغامرته كانت مذهلة وتليق بعجائب ألف ليلة وليلة، فقد أخذه الزوجان إلى قصر في ضواحي باريس وقدّما له ما طاب من مآكل وشراب، وما لبث الزوج أن تركه مع زوجته التي نهشته مضاجعة لأكثر من ثلاث ساعات وتركته لينام حتى الصباح، وأيقظه خادم طلب منه شاكراً أن يغادر مع منحه مائتي فرنك للمواصلات. قال ألدار ذلك وصدمني بنهاية روايته المشوقة. سألته إن كان أحس بمراقبة الرجل له أو أحس بأنه صوّره، وضحك ألدار. قال لي: أنت تشتري الشقاء بيدك.. فرغم أنك تتمتع بروح المغامرة التي تذهل أهل المغامرة مثلي فإنك تقيّد نفسك بأخلاق تم رسمها لقتل أرواحنا الطليقة. قال لي ألدار ذلك مضيفاً كآبة على كآبة تساؤلاتي حول الحب. وأين وصلت بأشكالك يا أيها الحب.. “يا من يسمونه الحب”.. تذكرت قصيدة “محمود درويش” وبدأت بإنشادها..
أحسّ ألدار من طريقة إنشادي للقصيدة أنني متضايق من نفسي فطرح علي حلوله البسيطة في أن يعرّفني على فتاة صديقة من أصل مغربي كانت زميلته في معهد اللغة، وتقبّلت هذا شاكراً حيث يمكنني التفاهم معها على الأقل بلغتي.
دعتنا الفتاة باستغراب مني إلى العشاء في مطعم هندي أنيق، واكتشفت لسوء حظي من لقاء لطيفة بألدار وكرمها بدفع الفاتورة أولاً أنها تحبه أي أنني سأعيش مأساوية هذا الحب على حسابي، وثانياً أن لطيفة اللطيفة لا تعرف حرفاً من العربية أو من الإنكليزية.
تركني ألدار في آخر الليل في الشارع القريب من بيتي مع الفتاة التي صدمتْ حين ودّعها، وحين فهمتْ أنه يريدها أن تكون معي.
كان الموقف محبطاً لكلينا وساعد عدم تواصلنا اللغوي في زيادة هذا الإحباط.. قلت لها إنني آسف. وشرحت لها بالإشارة أنني لست طرفاً ولن أكون في تعاستها. اتفقنا من خلال سير كلامنا أن أتكلم بالعربية أو الإنكليزية وأن تتكلم بالفرنسية على حريتنا وأن نحاول فهم بعضنا بالإحساس، وجاء الإحساس سريعاً هذه المرة.. أخرجت الفتاة من حقيبتها سيجارة اكتشفت فوراً أنها سيجارة حشيش، سحبتْ منها نفساً طويلاً ونفثته في سحابة كبيرة أودعتها مرارتها وضحكتْ على حال الدنيا. ضحكتُ بدوري على هذا الموقف. قدمتْ لي السيجارة واعتذرتُ بلطف. أحسست من سحبها للسيجارة مدى ثقل ما تعانيه، وفهمتُ منها أن بيتها بعيد وأنها ستنتظر موعد انطلاق المترو حتى الصباح. أحسست أنني ملزم بإزالة غمّها فقد ساهمتُ دون أدري في تعاستها. اعتذرت منها مرة أخرى وعرضت عليها الصعود إلى بيتي للانتظار، وصعدتْ. قدمتُ لها البيرة. أفهمتها أنني سأستلقي في الممر، وعرضت عليها الاستلقاء إذا أحبت على السرير في الغرفة لتمضية الساعة الباقية على موعد المترو. شكرتني بلطف قائلة أنها تخشى أن تنام فيفوتها المترو، وفضلتْ البقاء على الكرسي. اعتذرت منها بلطف في أنني سأنام، ويمكنها أن تغلق الباب فقط وهي تغادر، وشكرتني. كنت بحاجة إلى النوم هرباً من هذا الموقف الذي وضعني فيه صديقي، ونمت.. فيا لتعاستك أيها الحب. لقد أتعسني ألدار بلامبالاته البريئة.. التقيته في مساء اليوم التالي وكنت لا أزال متأثراً من تعاسة الفتاة، قلت له أن فلسفة نذر ذاته للملكات تفتح أبواب التعاسة للملكات، وقال لي أنه لم يغش لطيفة، أنه لم يعدها بشيء، وقلت له إنني أعرف صدقه مع المرأة، لكن هذا يعتبر غشاً في ظل علاقات تملّكية أوهم الرجال بها النساء أنهم يريدون تملكهن لذواتهن، وأنهم بهذا ملك لهن. قلت له إن هذا مؤلم في ظل علاقات لم تتطور بعد إلى درجة انتهاء التملك.. أوجعني أن أرى المرارة في عيني لطيفة وهي ترى من تحب يسلّمها لآخر، يا أيها الحب، يا من يسمونه الحب.. لقد قررتُ التوقف عن خوض تعاساتك فلست قادراً على احتمال جروحاتك…
زاد عجزي عن مواجهة عقدة تأقلمي، أحسست أنني آدم بمشاعر أول خطوة له على الأرض، وهاأنذا في باريس.. بشري آخر من بين آلاف الذين حملوا أحلامهم الخاصة في وعاء الحظ ووقفوا ليلقوا به في حضنها المجهول الهائل الاتساع، الجذاب كما زهرة أوركيديا نشرت تويجاتها حتى الغياب. هذا هو أنا. آدم الضياع وهذا هو حضن باريس. هاوية ابتلاع الأحلام. أتون انصهاراتها، تكسراتها. والتئاماتها. حضن باريس الذي ألقى عليّ بأحجية أوديب الخاصة بي على بابه، وأدخلني في حرير فولاذ تعرجاته لأحلّها فيه. حضن باريس الذي لا أستطيع أن أفكر إلا بأنه الجنة التي دخلت كي أختبر آدميتي تحت ظل سيف الطرد بيد الملاك.
أحتسي جرعة مرة من كأسي، ويصمت هدير الطائرة…
تحت ظلال قدر لا أعرف كيف يكامل صدفه ليصل إلى نقطة تحول يمد لك فيها لسانه، بلغت خطاي مشارف هاويتي. لم يكن ينقصني سوى دخول صدام حسين إلى الكويت لكي أزيد مرارة عدم تأقلمي بمرارة فقد مورد رزقي. لقد تسارعت دول الخليج لشراء أجهزة الإعلام ورفضتُ أنا بعناد مشاركة هذه الأجهزة حربها الأمريكية على العراق، ولم يكن هذا كافياً أيضاً.. لقد تعقدت أكثر علاقتي السياسية برفاقي مع غموض وتنوع المواقف السياسية في الخارج. شكوت حالي لمحمود الذي سارع إلى نجدتي. قال لي: “نعم، لقد خلق الكون وترتبت علاقات البشر قبل أن نوجد ودون أن يكون لنا يد في هذا الترتيب، ولكن هل كنا لنرتب ذلك بالشكل الذي نريد، أم أن الأمر سيجري كما جرى. إن البشر يا صديقي يعيشون في صراع، ولن يرتب أحد أمر الكون وفقاً لرغباته إلا في الأحلام، وعلينا أن نقبل ذلك، أن نتفاعل معه، وأن نحاول تحقيق مخططنا لهذا الترتيب، وأن لا نيأس إن لم يتحقق. سوف يكفينا شرف المحاولة الذي هو بحد ذاته ممتع، وعليك أن تتصور أن “سيزيف” كان سعيداً بمصيره، وأن تسعد بصراع صديقك كمال مع عمر وقيادة الداخل التي هربت منها”.. قال لي محمود وهو يختم رأيه برأي “كامو” ضاحكاً وخالطاً الجد بالهزل كعادته هذا الكلام عندما اصطدمتُ محبطاً بواقع منظمة الخارج، حيث أحسست أن كل رفيق رتب واقعه وفقاً لما اصطدم به من واقع، ولم يعد ممكناً إعادة تشكيل المنظمة وفقاً لأية رغبات.
ـ لقد تمترس كل رفيق هنا بدرع أصبح من الصعب اختراقه، وأصبح واقع عيشي في باريس يخيفني إذ يفرض علي التمترس بشكل لا يلبي رغبات ما نعمل لأجله.
ـ تلك حقيقة لكنها ليست كاملة.. قال لي محمود رداً على خوفي من هذا الواقع.. فرفاقنا مثلك ومثلي يحملون بداخلهم ذكرياتٍ عن رفاقهم، ومازالوا يريدون الأفضل لبلادهم، ويمكنك اعتبار الأمر وجهات نظر مختلفة علينا محاولة تقريبها لإعادة قوة المنظمة. امرح، سوف تستمتع بما تسمع من واقع الفضائح، لكن عليك أن لا تصاب بالإحباط.. قال لي محمود ذلك ونحن نمشي كعادتنا في الطريق الترابي الضيق الجميل المؤدي إلى تمثال الحرية على نهر السين، وما لبث أن انكشف أمامي عالم فضائح المعارضة السورية المحبط.. أموال يقبضها معظم ممثلي المعارضة من النظام العراقي ومن يقبض يتهم الآخرين بالعمالة للنظام العراقي. شريط سجله أحد رفاقنا لأحد حلفائنا من الاشتراكيين العرب في التجمع الوطني الديمقراطي بعد أن جعله يسكر، يتهم فيه رئيس منظمته بالعمالة للمخابرات السورية. تورط أحد رفاقنا بعلاقة مع امرأة أخرى تعرضه للطرد خارج البيت من قبل زوجته. ضياع غريب من أيدي أحد رفاقنا لمائة ألف فرنك مرسلة معه لأسر رفاقنا المعتقلين في مطار دمشق. اختلاسات أموال على جميع أصعدة المعارضة، واتهامات لأحد رفاقنا بالبورجوازية لأنه يلبس جوارب بيير كاردان.
نظرت إلى كنزة لاكوست الفخمة التي أرتديها ضاحكاً ومحبطاً عندما روى لي محمود اتهام أحد حلفائنا في التجمع لرفيقنا أبو أحمد بعدم تخليه عن أصوله البورجوازية، وفكر محمود بما أعاني.
ـ هل تريد جرعة إنعاش للروح. هيا بنا نجول في جسد هذه التافهة باريس.
أخذني محمود خلال أيام لا تحصى ولا تنتهي بجولات في أرجاء باريس: “هنا في هذا المقهى يمكنك أن تسلّم حقيقة على صموئيل بيكيت حيث يجلس على الطاولة المخصصة له، ويمكننا أن نجلس لننتظر غودو معه إلى ما شاء الله ولكني لا أنصحك بذلك الآن فوراءنا مشوار طويل. هنا في هذا المقهى كان يجلس ابن عمنا لينين ليكتب ما يحلو لك أن تستشهد به دائماً، ولا أعرف إن كان قال ذلك أم اخترعته أنت من أن الديمقراطية هي أوسع بوابة نحو الاشتراكية. وهناك في ذلك الفندق، دعنا نقترب منه أكثر. هنا كتب معشوقك غابرييل غارسيا ماركيز روايته الحائزة على جائزة نوبل في خمس سنين من العزلة والفقر وتهديد زوجته مرسيدس بتركه إن لم ينجزها في المدة المقررة. وهنا في عراء باريس يقف ابن عمنا الآخر دانتون وحاله حالنا في ضرورة استمرار الثورة واستمرار جريدتنا “الطريق” مهما أرعدت قيادة الداخل وأزبدت من خرق منظمة الخارج للنظام الداخلي. وهناك في المقابل في ذلك المقهى كان يجلس جان بول سارتر، ولست أظنه كان ينتقل كما سنفعل إلى ذلك البار بجانبه لحضور موسيقى أبناء عمنا من الأميريكان لاتين على كأس نبيذ يشعل الروح. هل زرت هذه الكنيسة. إنها نوتردام حيث تتنقل غجريتك ازمرالدا راقصة بأقدام عارية لتصنع أسطورة فيكتور هيجو، وهنا دعنا نجلس لنحتسي فنجاناً من القهوة “…
أخذني محمود بجولات لا تحصى في “التافهة باريس” وكان لسان حاله يقول لي دون أن ينبس بكلمة: “قلتَ لي إنك التقيت بعضو لجنتنا المركزية الرفيق مالك!. نعم. ولم تلحظ عليه أي جنون كما أخبرك كمال. فقط مسحة الحزن التي تخمن أنها تأتي من طرد زوجته له لا من مغادرة عشيقته لباريس. وأنك التقيت بزوجته وبناتها، وحزنت لمعاناة أسرة كانت قدوة في الحب للرفاق. واكتشفت أن زوجته امرأة عظيمة مكافحة، وأنه رجل أتعس نفسه بيده كما يفعل أبطال التراجيديات، وأنه مشوش التفكير حول الموقف من دخول العراق إلى الكويت والحرب على العراق، إذ يغشه موقف رابطة العمل بالوقوف ضد صدّام وأميركا معاً. وأنه يحمل مرارة من قطع رفيقنا أبو أحمد، عضو اللجنة المركزية المسؤول عن الأموال لراتب المساعدة الذي يتقاضاه من الحزب طالباً منه ممارسة عمله، وأنه يعاني نفسياً من عدم القدرة على العمل ويغرق نفسه بلعب الشطرنج، ويتوافق مع قيادة الداخل التي قررت الوقوف معه ضد رفيقنا كمال مسؤول منظمة الخارج… قلت لي أنك أحبطت من رؤيته على هذه الصورة. قلت لي إنك رأيت الرفيق باسم الذي ساعدك حتى النهاية في الذهاب معك إلى الجامعة لتدبير استمرار دراستك لعلم الاجتماع، وأن باسم ينسق مع قيادة الداخل ضد منظمة الخارج أو ضد رئاسة كمال لمنظمة الخارج لأن كمال خذله بعدم مساعدته، ولضغطه عليه في أن يدفع اشتراكاته المالية الحزبية عندما كان عاطلاً عن العمل بدلاً من مساعدته كما أخبرك في إيجاد عمل. قلت لي إنك التقيت برفيقنا رضوان الذي بدأ يكتّل الرفاق بالتنسيق مع قيادة الداخل، لإزاحة كمال عن منظمة الخارج، والدعوة لمؤتمر دون العودة إلى منظمة الخارج وإلى كمال بالذات الذي يحمل شرعية هذه الدعوة، وأنك أحبطت وكأن أيام تكتل “البكداشيين” تعود إلى الحزب. قلت لي إنك مستاء من اتهامات حلفائنا في التجمع الوطني الديمقراطي لكمال أنه يأخذ اتجاه النظام العراقي، واتهام كمال لأكثرية هؤلاء بأنهم مخابرات للنظام السوري. قلت لي إنك محبط من مهاترات قوى المعارضة السورية التي يبدو وكأن النظام فتتها إلى قطع شطرنج يلعب بها. قلت لي أنك محبط.. ها “؟!.. كان لسان حال محمود يقول لي بصمت ويتابع.. “ماذا تقول عن مساعدة رفيقنا مالك لك على تدبير أمورك رغم أزمته، ماذا تقول عن مساعدة كمال لك بطرد أقربائه من البيت لإسكانك فيه. ماذا تقول عن المجازفة الكبيرة في قراري أنا وكمال بضرورة استمرار “جريدة الطريق” رغم قرار قيادة الداخل بإغلاقها تحت ذريعة أنها تشوش موقف الحزب، وأنت تعلم جيداً أننا نخاطر بالطرد من الحزب من خلال جعلنا “الطريق” صوت شرعية قرارات مؤتمرنا لكي لا يلعب أحد على هذه القرارات في ظل غياب قيادة الحزب بالسجن، وماذا تقول عن رفيقك رشيد الذي فرّغ نفسه تقريباً لمساعدتك في متابعة أمر لجوئك السياسي تاركاً عمله وعائلته لأنك احتجت إلى هذه المساعدة. ماذا تقول عن جميع هؤلاء الرفاق الذين يساعدونك رغم خلافك معهم بالرأي حول الانتخابات في البلد أو الموقف القومي من العراق. قلت لي أنك محبط، ها.. وكأنك لم تمرّ بعشرات المعارك المشابهة في البلد، وكأنك لا تعرف أننا بشر نخطئ ونختلف بوجهات نظرنا ونضحك ونبكي ونعشق ونجن ونموت. قلت لي أنك محبط وكأنما لم يمر عليك اعتقال رفاقنا وتعذيبهم وسفك دمائهم في أبشع ما لا يمكن تصوره من عمليات التعذيب داخل أقبية التحقيق والسجون”.. كان لسان حال محمود الصامت يقول لي حين طلب مني سؤال الشرطي عن موقع شارع جان ميرموز، وتقدمت من الشرطي الذي فاجأني بتحية عسكرية لي مشيراً أنه في خدمتي قبل أن يجيبني عن سؤالي.. وضحك محمود قائلاً: “أنت في باريس التافهة
يا عزيزي”.. كان حال محمود يقول لي هذا لأعرف أنني لا أملك حق الإحباط طالما كنت قد قررت السير بهذا الطريق، ولأعرف أنني في الجنة التي لا تشبه الوطن الذي حوّلوه إلى سجن أو مطهر أو جحيم أو إلى ما لا يشبه سجون المخابرات السورية بحال، كي أكفّ عن الدلال، ولكن كيف تسرب كل هذا الإحباط إلى صفحة قلبي.
أخذني محمود للخروج بمظاهرة تضامن مع الفلسطينيين احتجاجاً على مجزرة الأقصى وسألني أن أختار الجهة التي أسير معها، واحترت بين أن أختار حماس التي كانت تلهب المظاهرة بحماس مثير للإعجاب، وبين الشيوعيين الذين يسيرون بهدوء يشبه تحركهم البطيء، وبين التروتسكيين الذين أعجبني هتافهم الواضح باعتبار رابين وميتران جزاران وشريكان في المجزرة، واخترت السير وراء أعلامهم الحمراء التي أعادتني إلى تظاهرات بدايات القرن، وجعلتني أعيش الحدث كما لو كان فيلماً سينمائياً لإيزنشتاين أو رواية لجون ريد، ودفعتني للتساؤل إن لم أكن تروتسكياً بالفطرة، وهل كنت سأكون لو أنني ولدت وترعرعت في هذا البلد.. فهؤلاء رفاق يوقظون شرارة الروح.
جرني محمود من يدي ونحن نغادر مكتبه في المجلة بشارع جان ميرموز بعد أن أحبطني كمال برفضه التعامل مع جميع الرفاق الذين قرر أنهم مخالفون للنظام الداخلي إلى وسط مظاهرات الطلاب في باريس لنعلق وسط معركة حامية قرب ساحة الكونكورد تتطاير فيها الحجارة من أيدي الطلاب، والقنابل المسيلة للدموع من أيدي الشرطة كي تدفعنا للجوء إلى حماية الشرطة التي عرضت مساعدتنا على الخروج من هذا الفخ. وضحكنا كيف يساعدنا من نقف ضدهم بالسليقة على تجاوز المأزق.
سلّمني محمود لهباً كي أقود روحي على هدي ناره، وتركني لتحمّل مسؤوليات قراراتي: “هذه هي التافهة باريس”. قال لي.. “ولديك إذا أردت شحن جسدك السان دوني، بيغال، بولونيا وسينمات الجنس وما شئت من سائحات السان ميشيل، أنت أعزب في النهاية رغم علاقات أوهامك وليس لدي اعتراض على حياتك لكن هنا اسمح لي أن لا أشاركك في هذا العالم، فلدي ما يشغلني فعلاً هاني”… قال لي محمود دون أن يفصح لي عن همومه الثقيلة بانتظار عائلته، وقلقه الكبير من محاولات تهريبها من عيون مخابرات النظام في البلد إلى شمس باريس بعد أن حولوا زوجته وأطفاله إلى رهائن لعذاب المضايقة اليومية.
تفهمت صديقي محمود، واعتبرت إشارته مفتاحاً لقيدي الذي سرعان ما فككته لأشرد منه باحثاً عن نفسي في ممارسة ضياعي.
أسمع صوت هدير محركات الطائرة وأنا أفتح عيني. أطلب من المضيفة كأس ويسكي آخر. أرتشف كأس مرارتي بهدوء، وأعود إلى تلاشي روحي. أغمض عيني وأغرق شيئاً فشيئاً في سحابات السواد…
في جنتها التافهة باريس أراد قدري بقوة بصيرته العمياء، أن يكمل اختباراته على انقسام الإنسان فجعلني أحلم بسكين أبيض يشق صدري، ويدٍ رقيقة تنزع ضلعاً منه ليستقيم امرأة أذهلني أن تكون حلمي مجسداً أمامي، ويا أيها البشري تفضل، أرنا ماذا تفعل!؟. تلك هي من طلبتَ في شتاءات عزلتك الطويلة وأنت تراها مع انسياب ماء المطر على كل نافذة تراها. وتلك هي من تمنيت أن تشاركك قهوتك ما نزلت قهوة على طاولة. تلك هي من تجلّت لك ضاحكة في كل جرس يشكّله المطر على الأرصفة النظيفة وتدعو أن يستمر كاملاً وأنت تتابعه، وتحتار أي جرس تتابع عندما تكثر الأجراس التي تحمل صورتها وهي تضحك. تلك هي صور الفراشات التي اخترعتَ لتوزعها على أزهار حديقة الورد زهرة زهرة فراشة فراشة ثم أسراباً من الفراش تتراقص لترسم صورتها وهي تضحك. تلك هي بجانبك على البار تسامرك وتغيب لتظهر في الزجاجات المرصوفة أمامك صورتها وهي تضحك. تلك هي من تخيلتها وهي تنطوي في تموج كل جسد طواه ذراعك، وتشهق في كل نفس سمعته يشهق في جنون اندفاعاتك داخل النساء الغريبات. تلك هي حوّاء سكونك فتفضل، أرنا ماذا تفعل!؟.
كانت مفاجأة حياتي وخوفي من أمنياتي التي تتحقق بأشكالها الأكثر جنوناً حين رأيت نورا لدى أختها في باريس وعرفت أنها جاءت لتطيل الإقامة وربما لتعمل وتستقر. بدت سعادتي صارخة لكنها كانت مشوبة بالخوف، ولاحظتْ نورا ارتباكي.
ـ هل تجده وضعاً طبيعياً أن تأتي نورا مع ابنها لتعمل تاركة زوجها في الكويت!؟ سألني محمود مستفسراً ونحن نخرج من زيارتها في بيت أختها، وأجبته ضاحكاً..
ـ أنا لم أستخدم قوة دماغي في التخاطر. لكن من يعرف نورا يعلم أن هذا هو الوضع الطبيعي مع نورا. لست أعرف إن كانت قد ملّت الكويت أو أن أمراً ما قد حدث لكنني أعرف أن يوسف لن يستطيع رد رغبتها إذا أرادت.
ـ ماذا ستفعل الآن!؟ هاهي ذي المرأة التي قلت لي أنك أحببتها من غلافها لتكتشف أنها فردوسك المفقود. أعرف أنك متهور، لكنك تعلم طبعاً أنها متزوجة وأن لديها ولد. قال لي محمود محذراً إياي بتهذيبه الذكي، وضحكتُ مطمئناً إياه في أنني لن أجرؤ حتى على التفكير بما يمكن أن يؤذيها، ثم إن زوجها يوسف رجل تصعب إزاحته.
ـ هل يعني هذا أنك لن تخوض التحدي!؟. قال محمود متسائلاً بسخرية ومحاولاً قطع الطريق على أي منفذ يتسرب من كلامي.
حاولت أن أرى نورا، ورأيتها مراراً وتكراراً إلى درجة ضيق وخشية أختها من ذلك. أردت رؤيتها على انفراد واعتذرت مبررة ذلك بضيق وقتها وبابنها طارق. لقد كانت تهرب مني. حيرني تهربها، تساءلت أين أيام تقاربنا الطبيعية في دمشق، أين اهتمامها العلني الصارخ بي، ولكن.. لم لا يكون هذا الهرب هو خشية من نفسها ومقاومة لحبها لي، “يا أيها الحب، يا من يسمونه الحب”!؟.
حاولت أن أدمجها بأجواء عملنا السياسي، وجرّها إلى موقفنا الذي تتماشى معه بعيداً عن موقف زوج أختها التي استضافتها لديها.. وساءها أن يلجأ كمال إلى اتهام زوج أختها بعلاقة مشكوك فيها مع رجل مخابرات في السفارة السورية رغم ضحكها من لجوء كمال إلى أسلوب تسجيل اعترافات أحد رفاق خالد دون أن يدري للحصول على هذه المعلومات.
لم أستطع منع نفسي من التلميح لها بأنني سعيد بوجودها دون أن أشعرها أنني كنت بحاجة لهذا الوجود. حاولت التقدم خطوة بسؤالها حين أحسست أنها لا تتحدث عن زوجها إطلاقاً إن كانت الأمور تجري بخير مع يوسف. وأجابتني قاطعة علي التساؤل أنها على أحسن ما يرام، ولم أعد أجرؤ على سؤالها مرة أخرى بانتظار مناسبة أعرف منها أكثر ما يحدث.
قطعني حلمي بنورا عن زيارات السان دوني ووجدت طريقة للجم تمرّدات جسدي في تصعيد ما تحس به الروح، لكن جسدي ظلّ متوثباً مثل حصان ملجم أسلم قياده لفارسه بقهر منتظراً فرصة أن يكف الفارس عن سطوة فروسيته لكي يجمح.
شدتني رغبة عارمة للانفراد بنورا وخالط رغبتي الخوف من هذا الانفراد. خفت من الانفراد بنورا، وأحسستُ بخوفها من ذلك. شعرت وربما شعرت نورا كذلك أننا نعيد أسطورة “سيف لهب نيرودا” لكن بصياغة جديدة تناسب ما بعد الجنة.. فها نحن ذا الكائنان الوحيدان المرميان على الأرض في غابة باريس، يشدّنا شوق ممضّ إلى اللقاء لكننا نخشى من ضراوة هذا اللقاء، نخشى أن يحرق الغابة بأجمعها هذا اللقاء. بقينا نراقب أنفسنا من بعيد ومن قريب. نسأل عن بعضنا إذا طال الغياب، ونطرد بعضنا إن أحسسنا بحميمية الحضور. كان هذا مدعاة لسعادتي ومدعاة كذلك لشقائي.
لم تضمّني أو تقبلني نورا ولو كأخ أو كرفيق عندما التقيتها أول مرة. أحسست بفرحها الكبير من لقائي، ولاحظتُ الدمعة التي ترقرقت وأخفتها بإدارة وجهها عندما أحستْ باستغراب عيني من لقائها لي على هذه الصورة. كان هناك جدارٌ يتشكل بيننا ولم أعرف هل هو جدار الخوف من الحرية، أم هو جدار الخوف من الحب، أم جدار خشية إيذاء الآخرين أم أي جدار!؟.
عشت لعبة التخمينات والتبريرات كعاشق مراهق يعرف المرأة لأول مرة. انشغلت برصد انفعالاتها، ردودها، إشاراتها، حركة يديها، ابتسامات عينيها.. انشغلت بها إلى درجة الهوس ومنعني من الاقتراب خوفي عليها.. يا لتعاستك أيها الحب. “يا من يسمونه الحب”.. ما الذي يدفعني إلى سلوك هذا الطريق الغريب عن طبعي، ولماذا لا أعود إلى قوسي ورمحي في غابة باريس المكشوفة لآثامي!؟.
أتعبتني نورا. قلت لها مستغلاً انشغال أختها بالشراء لطارق إنني كنت أريد رؤيتها لوحدها ولو لمرة كي أفهم منها ما يطمئنني عليها، واعتذرتْ محدقة بحنان في عيني اللتين تقاومان دمعي. أحستْ نورا بتعاستي، ولم أشأ أن أكشف لها أكثر عما بي.. يا أيها الحب.. اعتذرتُ لها في أنني سأغادر، وتركتها. مضيت لأطفئ مرارة حياتي. فكرت بأن علي أن أكف عن محاولتي لاستمالة نورا، وشعرت أنني بحاجة إلى العون، بحاجة إلى أن أرى محمود، اتصلت به. عرفت أنه مشغول بفرش بيت العائلة بعد أن قدمت هاربة إلى باريس، ولم أشأ أن أزيدها عليه. قال لي إنه سيمر علي في المساء. شعرت بنهش الوحدة لروحي. أخذتني همومي كعادتها إلى إسلام روحي للتدمير. قادتني قدماي دون أفكر إلى بيغال. دخلت أحد أندية التعري. كانت الساعة تقارب الخامسة. الوقت مبكر، لكن لا بأس بكأس، ولا بأس بهذا الهدوء حيث لا أجد غيري في الصالة. طلبت كأس ويسكي. وبدأ المسرح يتحرك على إيقاع جسد نحيل ممشوق يتعرى بهدوء في البداية ثم يشتد توتره وينتهي بكشف الفتاة عن الزهرة التي تطيح دائماً بروحي… شربت كأسي بسرعة مقرراً أن أغادر، ولكن لا مفر، لقد استقرت الفتاة على طاولتي. حيتني بأدب. أجبتها بالإنكليزية وتمنيت أن ينقطع الحديث بيننا حيث لا تواصل لكنها كلمتني بالإنكليزية سائلة إن كنت سائحاً في باريس. أجبتها بأنني طالب. وحاولت الاعتذار متحركاً للمغادرة، ولكن لا مفر. دعتني الفتاة إلى كأس على حسابها.
“على حسابك!؟”.. قلت ضاحكاً وحضر الكأس قبل أن أتمم جملتي. ياللهول، لقد وقعت في أيديهم. “حسناً لكنني لا أحمل نقوداً للاستمرار”.
“ومن سألك عن النقود. هل ترغب برؤيتي أتعرى عن قرب”؟.. قالت وأخرسني التردد. قادتني من يدي ملتصقة بي إلى حجرة التلصص. طلبتْ مني أن أضع نقوداً في الشق لكي ينفتح الجدار، وقلت لها إنني آسف ليس لدي أية نقود. وتمادت هي بالالتصاق بي ولمسي. شعرت بانتهاك صارخ لإرادتي فصرخت بها أن تكف، وفوجئتْ بعنفي. توقفتْ واجمة أمامي وحضر حارسها الذي كان يراقب دون أن يراه أحد بسرعة. أحسست أنني علقت وعليّ التصرف. قلت لها بلطف وتركيز وحزم في عينيها دون أن أنظر إلى حارسها إنني آسف في عدم انسياقي، وأن عليها أن تتركني. ابتسمت الفتاة بهدوء وقالت للحارس أن يمضي. قالت لا بأس عليك، وقبلتني قبلة صغيرة على خدي وهي تبتسم بلطف. يمكنك أن تذهب. وخرجت.. يا إلهي ما الذي أحضرني إلى هذا المكان، ولماذا أمارس على نفسي هذا التدمير، كم أكره أن أكون مقسماً وضعيفاً على هذه الصورة.
تمشيت دون أن أحدد جهة في أرجاء بيغال ومن ثم قررت العودة إلى البيت، ورأيتها..
كان المترو مزدحماً بعودة الموظفين ورأيت كارول، قطعة جنة محشورة في الزحام.. رأيت وجه البراءة بصورته الفرنسية الأكثر نعومة. أعجبني شعرها الأصهب المثير بلطف، وأثارني قوامها النحيف الممشوق الملتف بتايور رمادي مزخرف بأناقة ورفعة.. جذبتني الفتاة، وأحسست بحاجة غريبة للحديث معها. أزحت لها مكاناً بجانبي لتجلس. قلت لها بالإنكليزية أن جاكيتها بالغ الأناقة وفرحتْ. ردّت علي بالإنكليزية أنها تدرس تصميم الأزياء في باريس.
ـ هل أنت غريبة؟
ـ لا. أنا فرنسية من تولوز.
ـ سمعت كثيراً عن جمال تولوز، ولكنني للأسف لم أزرها.
ـ هل أنت سائح؟
ـ لا. أنا طالب وأسكن على بعد محطتين من هنا في شارع أميل زولا.
ـ واو. أنا متجهة إلى هناك لرؤية أبي وأمي.
ـ هل يسكنان هناك؟
ـ لا. سوف أراهما في التاسعة بالمسرح لتوديعهما قبل أن يغادرا إلى تولوز.
ـ لديك ساعتين. ماذا ستفعلين خلال ذلك؟
ـ لا أعرف. ربما سآخذ فنجاناً من القهوة في مقهى قريب.
ـ لست أريد التطفل على حياتك، لكن بيتي هنا في هذا البناء. دعيني أدعوك للقهوة عندي. قلت وبان عليها التردد. نظرت في عينيها بألفة وإلحاح.
ـ انظري. أنا صحفي إضافة لكوني طالباً وأهتم بالأزياء. سوف نتحدث فقط، ولن أؤخرك.
ـ حسناً.. قالت كارول موافقة وشعرت بالسعادة والتردد في الوقت نفسه، ماذا أفعل. لقد دعوت الفتاة ولم أعد أستطيع التراجع. لكن ألا أريد ذلك !؟ ماذا أريد أكثر من ذلك!؟ ها هي ذي قطعة جنة أليفة تشع بالحنان بين يدي. هاهو ذا عالم أحلام مختلط أحتاج إلى أن أسند رأسي عليه.
قدت كارول إلى عش النسر كما أسمي الستوديو الذي أسكنه في الطابق السادس، وأنا أشعر بالارتباك.
ـ عطرك ناعم وجميل.. قلت وأنا أفتح ساعدي لأدخلها في الممر الضيق، وبان عليها الارتياح. هذا هو منزلي، إنه صغير، لكن لدي نافذة جميلة تطل على برج إيفل.
ـ إنه جميل.. قالت وهي تجلس على الأريكة الوحيدة التي أحولها إلى سرير عندما أنام.
ـ شكراً. ماذا تفضلين، لدي بيرة، ويسكي، نبيذ، إضافة إلى القهوة.
ـ سأشرب البيرة.. قالت بارتياح، وتحركت إلى الثلاجة القريبة. وضعت كأس البيرة أمامها على الطاولة وجلست قريباً منها على الكرسي.
ـ نخب كل ما هو جميل ومزخرف مثل جاكيتك.. قلت وأنا أرفع كأسي، وضحكت بسعادة.
ـ أنت!؟.. سألتني كارول، وفهمت أنها تسأل عن جنسيتي.
ـ نعم. أنا سوري. هل التقيت بسوريين من قبل!؟.
ـ لا. لكن أختي متزوجة من مغربي، وأنا أحب العرب. عالمكم مثير.
“مثير”!.. نعم. رنت الكلمة في أذني، وشعرت بقليل من الإثارة. أخذتني الكلمة بعيداً إلى انجذاب الأوروبيات بعالم الشرق. ودرت بعيني في أرجاء الغرفة الصغيرة الخالية من إيحاءات الشرق.. ليتني هيأت غرفتي بالزخارف الشرقية والشموع والبخور لبعث جو من السحر في هذا اللقاء. لعنت ضيق ذات يدي، لكن لا بأس.
ـ لدي مجلة، تضم تحقيقاً جميلاً عن استخدام تصميمات الأزياء الحديثة لتصميمات وزخارف ألوان الشرق، هل تودين رؤية ذلك، قلت وأنا أفتح حديثاً عن عالم الشرق.
ـ نعم، لكن اسمح لي أولاً أن أذهب إلى التواليت. أين هو؟. قالت ووقفت لأقودها وأنا ألامس كتفها بحنان إلى الحمام.
ـ هذا هو الحمام. إنه ضيق لكنه المتوفر لدي.. قلت وتركتها لتدخل. بحثتُ عن المجلة في المكتبة القريبة من باب الحمام في الممر. هاهي المجلة. نظرت إلى باب الحمام، شعرت بالإثارة. ماذا تفعل كارول. حاولت أن أطرد شطحات خيالي. قلت لا يمكن للفتيات أن يتخلّين عن ماكياجهن في أية لحظة.. لكن خيالي عاد إلى الحركة بصورة مواربة.. إن كارول لم تقفل باب الحمام. هل فعلتْ ذلك لتحريضي على فتحه لعيش طقس فرنسي غريب!؟ أم أن المرض بدأ بالسريان إلى عقلي.. إن الفتاة تعاملني بتهذيب وثقة، وستكون قلة أدب مريعة مني لو فكرت بفتح الباب.
أحضرت زجاجتين أخريين من البيرة. ووضعتهما على الطاولة. أخرجت شرائح الجبنة، وبعضاً من الجزر، والبزورات كي أشغل نفسي أكثر.
جلست كارول على الأريكة. وأبدت شكرها على اهتمامي. فتحت المجلة وأنا أريها تحقيق الأزياء، وفكرت أن علي أن أقترب أكثر.
ـ هل تسمحين؟.. قمت وجلست قربها، مستعرضاً الصور وشارحاً لها استخدامات الأزياء.. تلك الأزياء من الريف السوري. إنها تشبه أزياء الريف في بلدي. انظري إلى الألوان الحديثة. إلى التصميم.. استفضت بالشرح لها. أحسست بثقتها وإعجابها، شعرت بالحاجة للقيام بخطوة متقدمة، لكنني استفضت بالشرح أكثر.
ـ هل ترغبين بكأس أيضاً؟.. قمت إلى الثلاجة وأحضرت البيرة. جلست على الكرسي مقابلها. فتحت حديثاً عن نجاح المصممين المميزين في استلهام روح الحضارات القديمة، الأفريقية، الهندية.. أحضرت كتاباً مصوراً عن الفن الفرعوني. بدأت الحديث عن الرموز. أريتها حمامة تشبه حمامة بيكاسو. أريتها الرموز الفرعونية، وكيف أنها تشكل نوعاً من لغة يمكن استخدامها بنجاح في الأزياء لأنها تمس روح الإنسان.. استفضت بالشرح وأحستْ كارول أنني أهرب من المبادرة.. اعتذرتْ بأدب قائلة أن موعدها قد حان، ونهضتُ لأودعها محرجاً.
ـ ألا تريدين البقاء أيضاً؟.. قلت. ونظرتْ كارول إليّ بابتسامة أشعرتني بأنها تدرك ترددي.
ـ أشكرك. دعني أذهب الآن. لا أريد أن أتأخر عن والديّ. قالت وشعرتُ بالإحراج.
ماذا جرى لي، كيف أعتذر لها عن بلاهتي “يا أيها الحب. يا من يسمونه الحب”.
تناولتُ من الخزانة كوفية فلسطينية مزخرفة الأطراف كنت قد اشتريتها من “مهرجان الهيوماناتيه”، ولففتها حول عنقها.
ـ إنها جميلة عليك، أرجو أن تتقبليها مني.. قلت وغمرتها السعادة.
نزلت معها مودعاً إلى الطابق السفلي، ووقفتْ أمامي كي أودعها قبل أن أفتح الباب. سألتني وهي محرجة لماذا لم أقبّلها، لماذا لم أقم بمبادرة لمغازلتها.. شعرت بالخجل. نظرت في عينيها اللذيذتين الوديعتين. قلت لها أنني خشيت من جمالها. واحتضن كفي خدها بحنان.
ـ أرجو أن تسامحيني. أنا نفسي لا أعرف لماذا!؟ لكنني أكثر من معجب بجمالك. هل تعدينني بالزيارة. ربما نعمق صداقتنا.
ـ نعم. أعدك.. قالت وأمسكتُ بكتفيها مودعاً ليفتح الباب فجأة وتظهر نورا…
أسمع صوت هدير محركات الطائرة وأنا أفتح عيني. أعود لتلاشي روحي. أغمض عيني وأغرق شيئاً فشيئاً في سحابات السواد.. “يا أيها الحب. يا من يسمونه الحب”…
جمدتُ مذهولاً من الصدمة، ووقفت نورا مذهولة، وأحست كارول ببرق المفاجأة الذي أوقف العالم للحظة طويلة.
تراجعت نورا معتذرة بإحراج يعتصر روحها.
ـ أنا آسفة. مررت كي أسألك فقط. إنهم بانتظاري.
ـ انتظري نورا. أعرّفك على كارول. إنها صديقة.. و.. بادرتْ كارول بإنقاذ الموقف. مدّت يدها لنورا بسرعة وهي تغادر.
ـ سعيدة بمعرفتك. أرجو أن تعذريني. علي أن أقابل والديّ.. قالت وخرجت بسرعة.
دعوت نورا للصعود لكنها أصرت على المغادرة.
ـ إنهم بانتظاري. مررت لأطمئن عليك فقط. لقد غادرتَ بحالة لم تعجبني و.. قالت وهي تفتح الباب وتخرج. أوقفتها راجياً.
ـ نورا. أرجوك. اسمعيني. أنا الآن هو الرجل الأكثر تعاسة على الأرض. لقد انتظرت هذه اللحظة. صلّيت لإله لا أعرف إن كنت أؤمن به من أجل هذه اللحظة. أوقفت زمني على ساعة هذه اللحظة. وماذا حدث!؟. أرجوك لا تقتليني. اسمعيني فقط. لا تصعدي. دعيني أشرح لك حالي في ذاك المقهى. إنها خطوتان فقط، ولن أؤخرك. دعيني أدعوك إلى فنجان قهوة في ذلك المقهى.. قلت لنورا وأنا احتجزها بكل ما لدي من طاقة. قلت لها وأنا أنظر في عينيها. وضحكتْ متمالكة نفسها.
ـ ماذا جرى لك !؟
ـ سوف أقول لك ماذا جرى لي. فقط رافقيني إلى ذاك المقهى.
ـ حسناً. لكنني لن أتأخر.
دخلنا المقهى. جلسنا صامتين. كسرتْ نورا جليد الصمت.
ـ أنا سعيدة لأجلك. إنها جميلة ولطيفة، وخالتي نوّارة لن تعترض على زواجك منها. سوف أزكيها لك، وأنت تعرف مكانتي لديها.
نظرت بعيني نورا اللتين تطلبان مني أن أتكلم. أحضر الساقي القهوة. فتحت يدي متحدثاً..
ـ نورا. لقد عرفت الفتاة منذ ساعة فقط. كنت أحس أنني مدمّر ودعوتها للحديث على فنجان قهوة.. قلت وقاطعتني.
ـ إنها خطوة جيدة. الحياة تمنحنا السعادة هكذا وربما كانت الصدف هي أجمل ما تمنحنا الحياة، آن لك أن تسعد خالتي بإيقاف ضياعك هاني.. قالت نورا محاولة أن تريني أنها سعيدة لأجلي.
ـ نورا. دعينا من أمي الآن.. أنت تعرفين ما يسعدها فعلاً.. الحياة لم تمنحني الصدفة التي تتحدثين عنها.
ـ أنت تهرب فقط مما تمنحه لك الحياة. آن لك أن تتخلص من خوفك هاني وتقْدِم، إنها فتاة لا تجد مثلها كل يوم. قالت نورا مصرة على ربطي بالفتاة.
ـ اسمعيني نورا.. للحظة كما كنت تسمعينني في دمشق.. اسمعيني كصديقتي التي تعودتُ على رعايتها لي، أنت تهربين من سماعي.. قلت كي أهيئها للإصغاء إلي.
ـ أنا آسفة هاني لإحساسك أنني لا أسمع لك. لم أعد أستطيع الإصغاء منذ أن منعت نفسي من سماع تبرير يوسف. قالت نورا دون أن تدري بأنها تكشف لي ما بها لأول مرة، ونظرتُ مواسياً في عينيها اللتين بدأتا تتلألآن بفيض الدمع. وضعت يدي على يدها معتذراً منها.
ـ أنا الذي علي أن أعتذر نورا. لقد شغلني الاهتمام بنفسي عن إجبارك على الحديث، لكن أنت تعرفين عناد رأسك، لا يمكن لأحد إجبارك على ما لا تريدين. قلت مواسياً ومداعباً كي أخفف عنها، وأكملت. أنا أريد أن أسمعك نورا. أنا أتعذب لرؤيتي إياك تتعذبين. قلت وسحبتْ نورا يدها من يدي لتضغط بكفيها على وجهها وعينيها حابسة دمعها.
ـ لقد خانني يوسف هاني. لقد خانني يوسف. قالت نورا بهدوء مرّ، مزيحة صخرة الهم الثقيل التي تحبس روحها. وأمسكتُ بيدها ضاغطاً بمودة تشعرها أنني معها. واستمرت..
ـ رأيته في مقهى مع امرأة كويتية. لم يرني، وحين عاد إلى البيت سألته أين كان فقال لي أنه كان في المكتب. وتوقفت عن الإصغاء إليه. قلت له فقط أنني سأنفصل عنه. وغادرت دون أن أترك له مجالاً للشرح أو للتبرير. توقفتُ عن الإصغاء، واحترم هو هذا، لكنه لا يكف عن محاولة الحديث إلي من خلال ابننا طارق. أنا لا أتحدث معه الآن.. قالت نورا وأحسست بجبل المرارة الذي يجثم على روحها، ضغطت على يدها برفق مشجعاً.
ـ نورا. لا أريد مواساتك بمجاملات أعرف أنك لا تطيقينها، لكنني سوف أروي لك نكتة عن نجار دعته سيدة إلى بيتها المقابل لموقف باص باب توما، كي يرى ظاهرة غريبة حيث ينفتح باب خزانتها كلما مرّ الباص أمام البيت. واستغرب الرجل ذلك… لكي يحل المشكلة كان عليه أن ينتظر مرور الباص أمام الخزانة. وهكذا انتظر… خلال انتظاره قرع الباب، فخافت المرأة قائلة إنه زوجي، وطلبت من النجار أن يختبئ في الخزانة. اختبأ الرجل خائفاً ومراعياً عدم إحراجها، وأغلقت عليه باب الخزانة، ودخل الزوج إلى الغرفة… لسخرية القدر مرّ الباص أمام البيت فانفتح باب الخزانة أمام الزوج الذي دهش من وجود النجار فيها. فتح النجار يديه مستسلماً وقائلاً للرجل: يمكنك أن تفعل بي ما تشاء فمن سيصدق أنني واقف هنا أنتظر باص باب توما… قلت ذلك وضحكتْ نورا من قلبها. أرادت أن تكذّب نفسها كي ترتاح، أرادت أن ترتاح حتى لو كان ذلك وهماً. وقلت مشاركاً إياها ضحكها.
ـ لا أريد أن أجد مبررات ليوسف، ولو كان أمامي هنا الآن لضربته على إيذائك. لكن الحقيقة التي نعتقد أنها الحقيقة تغش أحياناً، وقد يكون ليوسف مبررات فعلته. أنا أعرف أن يوسف يحبك، وأنه سيموت إذا تخلّيت عنه. وأعرف دون أن يشرح لي أحد أنك تقتلينه بعقوبة عدم سماعك إليه.. ليني قليلاً نورا، من أجلك ومن أجل طارق.. قلت غير مصدق نفسي، لكن كان علي أن أحمي نورا من حزنها، أن أمسح عنها جرحها حتى لو كان هذا يجرحني.. قلت ذلك بحب أحسّت به نورا، وضغطت هي بكفّها على يدي مواسيةً إياي.
ـ أشكرك هاني. أعرف أنك تهتم بي مثلما أهتم بك. ربما يجب علي أن ألين قليلاً لأفهم رجلي أكثر.. لا تخف عليّ. مازلت الفتاة التي تستطيع أن تردّ وأن ترعى نفسها.. قالت نورا ونظرتُ في عينيها محباً دون أن أفكر بحبي.. فيا لتعاستك أيها الحب، يا من يسمونه الحب…
أحتسي رشفة قوية من كأسي، ويصمت هدير الطائرة. أرجع برأسي إلى الخلف. أزفر نفساً قوياً كي أريح وجع قلبي…
سرنا معاً، أنا ونورا، وحيدين معاً، في شوارع باريس الهادئة في المساء كما حلمت وتمنيت وسعيت إلى أن يكون في شتاءاتي الطويلة، غير أن ساعدي لم يكن يطوق كتفيها. يدي لم تكن تحتضن يدها.. يا أيها الحب، يا من يسمونه الحب.
سألتني نورا عن أحوالي مع الرفاق. قالت إنها سمعت من زوج أختها خالد بأننا مقبلون على انقسام، وإنني انضممت إلى كمال ومحمود ضد قيادة الداخل لنشكل عصبة الطريق. ضحكت من التسمية. قلت لها إنني لم أنضم إلى أحد.
ـ لا تنس أنني كنت رفيقة. فلا تخف عني شيئاً.
ـ أنت أكثر من رفيقة. لن أنسى إنقاذك لحياتي بمجازفتك في تهريبي من دمشق، وصدقيني نورا، أنا أحاول مع محمود ورشيد عقد مؤتمر منظمة الخارج لحل خلافاتنا، لكننا نعاني من صعوبة ذلك.
ـ كمال!؟ قالت نورا.
ـ كمال وقيادة الداخل. كلاهما يضعان شروطاً معجّزة للقاء.
ـ لكن خالد يقول أنك مع كمال.
ـ أنا مع كمال ضد الاتجاه الذي يمثله خالد ويحاول جر المعارضة إليه ولست ضد قيادة الداخل.
ـ قل لي هاني، بصدق، ألا يشوه كمال مواقف خالد. إنه يتهمه بالعمالة للمخابرات السورية، لقد زرع كمال قنبلة في بيت أختي. إنه يشككها بزوجها رغم ما يبدو من دعمها له. قالت نورا، وأصبح لزاماً عليّ أن أدخل أكثر في موضوع خالد الذي حاولت أن لا أخوض فيه معها. استجمعت أنفاس هدوئي.
ـ أنت تعلمين أنني أحترم خالد، وأفهم أن المرحلة حساسة إلى درجة التباس موقف الواحد منا مع نفسه. الاتحاد السوفييتي يتفكك، والإمبريالية الأمريكية التي ترعى الأنظمة الفاشية تعد الهجوم على نظام فاشي هو النظام العراقي، لكنه عربي ويملك القوة العربية الوحيدة التي تخيف إسرائيل. سماسرة السياسة والإعلام فتحوا المزاد لشراء ضمائر البشر من سياسيين وإعلاميين. هناك معركة حامية تجري، والجميع يشهر ما يستطيع من أسلحة. خالد يهاجم كمال على أنه متطرف بموقفه الذي حسم الأمر بالوقوف مع العراق لأن كمال يرأس منظمة فيها بشر وفيها مواقف، ويتهم كمال بأنه يقبض مساعدات من النظام العراقي، لأن المعركة جردت أوسخ ما فيها من أسلحة. وكمال يهاجم خالد على أنه مخابرات للنظام السوري لأن خالد يقف عملياً مع النظام السوري في موقف هذا النظام الداعم لأمريكا حين يقف ضد النظام العراقي، ويتشبث بهذا الاتهام لأن موقف خالد يجر المعارضة السورية إلى موقفين.. الأول خارجي يدعم حرب أمريكا على العراق بوقوفها ضد النظام العراقي رغم وقوف خالد ضد أمريكا أيضاً، والثاني داخلي خطير يعارض قرارات مؤتمرنا الخامس، وهو التفكير بالمصالحة مع النظام السوري وخوض انتخابات مجلس الشعب السوري، تحت الشروط نفسها التي تلغي الديمقراطية وتسجن وتقتل رفاقنا في سجون النظام. وهو الفخ الذي يحاول النظام جر المعارضة السورية إليه بعد أن جربنا مستنقع لعبته وخلصنا إلى عدم التعاون معه مالم يجرِ ردّ المظالم، وما لم تلغَ قوانين الطوارئ وبنود الحزب القائد الواحد في الدستور، ومالم تكن الانتخابات حرة ونزيهة تسمح بتداول السلطات.
ـ لكنك تعلم هاني أن خالد هو أكبر من تأذى من نظام المخابرات. لقد قتلت الوحدات الخاصة للنظام اثنين من إخوته أمامه على باب المنزل في أحداث حماة رغم عدم انتمائهما إلى أية جهة، وواحد منهما كان ملازماً مجنداً في الجيش أخذ إجازة من قطعته ليرى خالد عند نزوله من فرنسا. لقد رأى أخوه يقتل أمامه دون أي ذنب سوى أنه جاء ليرى أخاه.
ـ وهذا ما يحيّرني في خالد نورا. إنه يلقي باللوم على الإخوان المسلمين وحملهم للسلاح رغم يقينه الكامل بأن من رشّ أخويه هو النظام. ربما كان خالد على حق في موقفه من الإخوان المسلمين الذين تورطوا بحكم تركيبتهم الديكتاتورية التي تشبه تركيبة النظام بلعبة السلاح، لكننا نعتقد أن النظام جرّ الإخوان المسلمين إلى القتال بالسلاح لكي يضرب الحركة الوطنية الديمقراطية، وأنه أجهز على أي نفس معارض بعد مجزرة حماة. أنا أفهم أن يذهل المواطن السوري حتى الرعب مما حدث، وأن يضع عقله الباطن درعاً أمام رؤيته يجعله لا يصدق ما حدث كي يحمي نفسه من التأثير النفسي لما حدث، أن يكذب عينيه كي لا تقتله صدمة ما حدث من جزر لرقاب الناس أمام عينيه.. لكن خالد سياسي، وسياسي محنك لا تفوته معاني ما حدث.
ـ أنت تشكك بخالد أيضاً!.
ـ لا أشكك به نورا، ولست مع مغالاة كمال في حربه عليه، رغم ثقتي بأن كمال صادق في عواطفه وأنه صديقي الذي أثق به. لكن الأمر محير فعلاً.. إن رفاق خالد أنفسهم يتهمونه بأن موقفه في مقابلة رجل مخابرات سوري هو موقف يصب في مصلحة المخابرات السورية. وكمال لم يفعل شيئاً سوى نشر هذا الكلام.
ـ خالد يقول أنه قابل رجل المخابرات بمعرفتهم مسبقاً وبوجود بعضهم. كما يقول أن قيادته وقفت ضده لأنه وقف ضد سلبها لأموال الحزب.
ـ الصورة غائمة نورا ولا أحد يعرف.
ـ لكن أنت هاني…
ـ صدقيني نورا، أنا مثلك أحترم خالد، أثق أنه نظيف، ولا أصدق أن تاريخه يسمح له بذلك، لكنني خارج أي تأثير على ذلك لأن مواقفي تلتقي مع مواقف كمال.. قلت، وصمتت نورا. وصلنا إلى بيت أختها. أمسكت بيديها مودعاً.
ـ لقد هيأت نفسي لغير هذا الحديث.. قلت.
ـ أعرف ذلك هاني. قالت نورا ونظرت في عينيها المعشبتين اللتين تحتضنان عيني بدفء لمع فيه دفء عيني أمي، شبيهتها المفضلة لديها.
ـ قلتِ لي أن خالتك نوارة لن تمانع زواجي من فرنسية!.. قلتُ وهي تستدير للدخول إلى البيت، وضحكتْ. لقد كانت تعلم مثلي أنها الوحيدة المفضلة لدى خالتها لي.
لم تهدأ روحي، أحرقني فضول أن أعرف ما حدث بين نورا ويوسف لا من جهة الحدث ولكن من جهة داخل ما حدث. لم أحدد لماذا أريد أن أعرف، ولم أشغل نفسي بذلك كي لا أتراجع. كانت رغبتي أقوى من العناصر التي إن ناقشتها بيني وبين نفسي وضعتُ نفسي في رياح التردد، ولذا أقصيت السؤال هل أفعل ذلك لأجمع أوراقي أو أسلحتي لهزيمة يوسف في قلب نورا !؟.
سألت نورا ونحن نجلس لشرب القهوة في مقهى هادئ على الرصيف بعد جولة في مونمارتر عما حدث. قلت لها إنني أستغرب ذلك، فالجميع يعلم أنكما عشتما قصة حب أسطورية، وأنك حاربتِ المجتمع والعائلة التي وقفتْ ضد أن تتزوج ابنتهم المسلمة من مسيحي. وأكثر من ذلك أصرّيت أن لا يجبر على تغيير دينه.
ـ كان هذا في الظاهر، لكن بيني وبين نفسي كنت أريد أن يغير دينه من أجلي، بعيداً عن آراء وخوف أهلي. ليس من أجل الدين ولكن من أجلي، في الوقت الذي لم أكن أريده أن يرضخ لآرائهم.. قالت منساقة لذكريات حبها وهي تجرني بعيداً عن سؤالي.
ـ وهل كنت ستتزوجينه لو لعب اللعبة وأطاعك بعدم تغيير دينه؟!.
ـ لا أعرف فقد كانت تتناهبني مشاعر متناقضة. كنت أريده أن يطيعني وأن لا يطيعني في الوقت نفسه. وكنت محتارة أي رجل أحبه فيه، الذي سيطيعني أم الذي لن يطيعني.. لكنه حسم الموضوع برجولة حقيقية أعجبتني، أقنعني بعد جهد تظاهرت فيه بالرفض أن الغاية هي الزواج دون خلق مشاكل لأهلي، وأن الأمر أسهل من الذهاب إلى بيروت أو قبرص لذلك. وأنه سيتحمّل عبء لوم أهله له، فهو في النهاية علماني.. قالت نورا وجعلتني أفكر في مآزق الحب مع امرأة مثل نورا، لكن الرغبة في معرفة ما حدث أعادتني إلى ما أريد الوصول إليه من معرفة.
ـ أعتقد أن هذه تضحية تعبّر عن حب كبير ومعزة لك. فكيف حدث ما حدث، أعتقد أن الأمر أكثر قليلاً من رؤيتك له يجالس فتاة في مقهى. هل أزعجك إذا فكّرت معي بأنه لا بد أن تكون هناك خلفيات لما حدث. قلت محاولاً جرّها للحديث.
ـ لا أعرف هاني. وقد بقيت طويلاً أهرب من تحليل أن تكون هناك خلفيات، أو أن تبرر أية خلفيات له هذه الفعلة. لكنني أعرف أننا بدأنا نعاني من مشاكل عدم التفاهم بعد ولادتي لطارق بسنوات قليلة. وتحول حبنا الذي جابهنا به العالم إلى مجابهات مع بعضنا. عملي في التدريس من جهة، واهتمامي الشديد بطارق أبعداني عن الرسم وأصبحت أحس بالعجز والاكتئاب من عجزي. وضخم الأمور عندي أن يوسف بدأ عكسي بالازدهار، وأضاف إلى كونه طبيباً ناجحاً، مهنة كاتب ناجح، وبدأت علاقاته بالوسط الأدبي تزدهر، في الوقت الذي بدأت فيه بالانحسار. ولم يتفهم وضعي. أصبح يصرّ على آرائه، وبدأنا نختلف حول تفاصيل حياتنا. أين نبني البيت.. في بلدي أو بلده أو دمشق. وتفاصيل تافهة حول الذوق، وأحسست أنه بدأ يهرب من إصراري على آرائي التي لم يفهم أنها إصرار على مكانتي لديه، إلى أن اكتشفت أنه كذب علي. قالت وصمتت بحزن دلّني إلى أنها لا تريد التفكير في ما حدث بعد الآن. وأحسست من عدم رغبتها أنها لا تريدني أن أدخل أكثر في تفاصيل قصتها مع من أحبت، لكنني عرفت أيضاً أنها تركت لي منافذ للدخول في القصة على طريقتها في تعليقي، ويا أيها الحب.. يا من يسمونه الحب، ويا من أسميك شقائي.
أدير رأسي نحو الجهة المعتمة. أفتح عيني ويعود صوت هدير الطائرة، يعود وأسكن لحظة دون تفكير. أعود إلى إغماض عيني. يغرق رأسي في سحابات السواد. سواد سواد، ولا مخرج من حصارات السواد. سواد سواد وينبض في رأسي. يتفجر في رأسي لون البرتقال…
اكتملت جنتي. طرح قدري الذي يرتدي ثياب باريس علي سؤاله البسيط والمعقّد بآن، طلب مني أن أعطيه تعريفاً واحداً للإنسان!! ولأنه يعلم أنني لن أستطيع ذلك، أوقعني كي أعرف إجابة ذلك في حصارات الخيار…
هاهو ذا أنا محاصر بضرورة العمل، في مدينة متخمة بالعطالة بعد أن شارف رصيدي على النفاد، وأصبحت أخجل أن أطلب من والدي الذي ستقتله الديون من أجلي دون أن يشعرني بثقل ما يعانيه.. ساعدني سامح بنشر موضوع لي في مجلته، وبقصيدة في الجريدة الوحيدة التي لم تستطع شراءها أموال الخليج، ووافق كمال على نشر دراسة لي كل عدد في المجلة التي كما يبدو أصبح شريكاً فيها ورئيساً للتحرير.. لكنني لم أقبض أي ثمن من هذا النشر بسبب بيروقراطية الاستكتاب.. وهاهو ذا أنا محاصر بعدم استجابة الرفاق لدعوتي إلى مؤتمر منظمة الخارج لحل الخلافات، محاصر بحبي المستحيل المعلّق، محاصر بعجزي عن كتابة روايتي التي أردت فيها أن أبلور حبي وعجزي وأن أحرر داخلي من جثة صديقي معاذ الذي قتلوه، وأن أسيل الحجر الذي استقر في عيني منذ سمعت بخبر استشهاده إلى دموع…
هاهو ذا أنا الرجل الملعون المحاصر الذي فقد نعمة البكاء…
جلست مع محمود في مكتبه بمجلة “الصوت” ننتظر كمال الذي ذهب إلى موعد مع رسول قيادة الداخل إلينا من البلد.
ـ حسناً. لقد وافق كمال على حضور مؤتمر لمنظمة الخارج تتم دعوته كما اقترحت أنت على قيادة الداخل من قبل الرفيقين القياديين في الحزب وأنت، لكنه اشترط عدم حضور الرفاق المخالفين برأيه والذين يتصلون بقيادة الداخل خارج إطار منظمتهم. قال محمود وأخرج قائمة بالرفاق الذين يعترض كمال على حضورهم، والأسباب التي تدعوه لذلك…
قرأت القائمة والأسباب التي تناولت: باسم لأنه يدين للمنظمة بمبالغ يمتنع عن إيفائها. رجب لأنه متهم بالتحرش بزوجة رفيق معتقل. صفوان لأنه لم يتصل بمنظمة الخارج عند قدومه إلى باريس، ولأنه يكتل الرفاق بالتنسيق مع قيادة الداخل خارج الإطار الشرعي للمنظمة. وهاشم لأن عضويته لم يبت فيها بعد من منظمة الخارج وفقاً للنظام الداخلي، ولأنه محط شك بأن انضمامه للحزب ليس أكثر من بحث عن زعامة.. قرأت ملاحظات محمود، ورددت القائمة إليه.
ـ سوف أوافق على عدم حضور هاشم، لأني أعرف أنه كتب رسالة نقد وجهها إلينا بحق حزبه القديم ولام رفاقه مرتفعاً فوق الجميع، وهو سلوك فوقي مريض لا يعجبني شخصياً بصرف النظر إن كان محقاً أم لا، وأعرف أنه يريد أن يكون قيادياً لدينا لأنه كان قيادياً لديهم.. لكن رفاقنا الآخرين هم عماد قيادة الداخل، ولن تتخلى هذه القيادة عن حضورهم، كما أن أحداً لا يستطيع منعهم من الحضور. إن شرط كمال باستبعادهم يعني عملياً رفضه لحضور المؤتمر. هل هذا ما يريده كمال!؟. قلت مستنتجاً المأزق الذي يضعنا فيه كمال.
ـ لا أعتقد! لكن أنت تعرف تزمته. قال محمود مؤكداً على المأزق.
ـ ومن جهة أخرى هم أيضاً لهم شروطهم لحضور المؤتمر. إغلاق جريدة الطريق ومحاسبة كل من شارك باستمرارها أي محاسبتنا نحن الثلاثة أنا وأنت وكمال.
ـ لا يشكل هذا معضلة بالنسبة لي أو لك وإن كان يدفع كمال إلى المقاطعة، لقد أردنا باستمرارها منع أي انحراف عن خط الحزب، وهذا يوفره لنا النظام الداخلي. سوف نعرض أسبابنا، وجميع الرفاق في أوروبا مع استمرار إصدار الطريق.
ـ ما رأيك إذن بإقناع كمال بقبول المساومة. كل طرف يتخلّى عن شروطه، وليقرر المؤتمر خط وتوجهات وقيادة منظمة الخارج.. أقول ويضحك محمود بمرارة.
ـ أنا معجب بتفاؤلك. لم لا تطرح هذا بنفسك على كمال !؟.. يقول محمود ساخراً، ونصمت. يدخل كمال ضاحكاً.
ـ لقد وصل رد قيادة الداخل على اقتراحك بدعوة الرفاق لعقد مؤتمر منظمة الخارج من قبل الرفيقين القياديين وأنت.. يقول كمال موجهاً كلامه لي، ويسلمني نسخة من رسالة الرد. أقرأ الرسالة. إنها موجهة للعضوين القياديين في باريس، وتتضمن اجتماع اللجنة المركزية وقرارها بفصلي من اللجنة المركزية لأنني غادرت البلد إلى الخارج دون صدور قرار منها بذلك. قرأت الرسالة، وابيض لون دمي. تلك هي الطعنة التي لا أستطيع ردّها. تلك هي الطعنة التي تقتلني. تلك هي طعنة رفاقي لي.
داريت صدمتي أمام كمال كي لا يتشفى بي، ومع ذلك لم أسلم من سخريته.
ـ تريد توحيد المنظمة. تفضل. لقد جردوك من أي فعل، لكنهم وأشهد بالله على هذا كانوا كرماء إذ أبقوا على عضويتك. تستطيع حضور المؤتمر كعضو عادي. قال كمال ساخراً، وهبطتْ على نفسي سكينة المقاتل الذي بداخلي، ضحكت.
ـ وماذا في ذلك. دعنا نعقد المؤتمر وسنفوز. مازلنا الأكثرية.. قلت واثقاً من ذلك.
ـ بالشروط التي حددتها.
ـ دعنا نعقد تسوية عادلة معهم. كل طرف يتخلى عن شروطه وتناقش كل القضايا والخلافات في المؤتمر.
ـ لست مستعداً للتخلي عن أي شرط. وسأستمر بإصدار الطريق. قال كمال بلهجة تحدّ موجهة لي.
ـ كأنك أنت أيضاً لا تريد عقد المؤتمر.
ـ احسبها كما تشاء. وسأصر أيضاً على حضورك كعضو قيادي. قال هذا ساخراً بطريقة ينهي بها النقاش.. وصمتنا.
دخل موظف الكمبيوتر. سلمني السلخة المطبوعة من مادتي التي اتفقت على نشرها مع كمال لمراجعتها. نظرت إلى مقالي وغامت الدنيا في عيني. مادت الأرض من تحتي مرة أخرى، واستنجدت بروح المقاتل فيّ. نظرت إلى كمال، إلى ابتسامة السخرية التي طالما أحببتها فيه وعلي مواجهتها الآن. لكم أكره هذه المواجهة مع صديقي.
ـ هل أعجبك المقال!؟.. قال كمال محاولاً أن يثير أعصابي، وهبط سكون العالم مرة أخرى على نفسي.
ـ من حذف المقدمة!؟.. قلت.
ـ أنا.. قال كمال غير آبه.
ـ وبدّلتَ صياغة جملة بأسلوبك! وحذفت معالجة شخصية أم الخوش.
ـ نعم. هكذا أفضل. ألم تكن تفعل هذا مع المقالات التي تنشرها عندما كنت محرراً.
ـ لا. كنت أحترم نفسي قليلاً فأستشير الكاتب إذا فكرت بتعديل. ولم أكن أعطيها لمخرج المجلة الفني يلعب بها كي يحل عقدته في أن يكون محرراً. قلت مهاجماً إياه بشكل مباشر، وحافظ على هدوئه.
ـ أنا رئيس التحرير، وطلبت منك دراسة عن رواية “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف، وتغيرات المدن والبشر تحت ظل علاقات النفط، وأنت كتبت دراسة عن صدمة التلقي الأولى لوجود الأمريكان في الخليج بمكان واحد صغير هو وادي العيون. قال مبرراً فعله الذي أحسست أنه موجه لتبرير نفسه إلى محمود.
ـ يبدو أن علي أن أشرح لك ما فاتك. لقد كتبت دراسة عن ذاكرة المكان، حالة تدمير المكان، وتأثيرها على مجموعة بشرية أحسّتْ بمستقبل الخطر المتجلّي هذه الأيام بأكبر تواجد مسلّح يشهده التاريخ في الخليج، والأهم من ذلك لجوء الإنسان في ظل تدمير ذاته إلى حضن أمه/ الصحراء أو وضحة الحمد أو أم الخوش التي حذفتها أو أية أم على أمنا الأرض. وإذا لم تكتشف هذا بسبب سيطرة فكرة أخرى برأسك، أو بسبب حسابات النشر، فاكتب أنت مقالك، وضع عليه اسمك.
ـ لست بحاجة إلى أن أكتب. أنا أختار ما يعجبني، وأنت لديك الخيار.. قال كمال حاسماً مسألة نشري لمقالي.
ـ نعم. نحن الاثنان لدينا خياراتنا.. قلت بأسى ونظرت إلى محمود الذي يراقب بحزن ما يحدث. قلت ذلك وعرفنا نحن الثلاثة أنني وصلت مع رفيقي كمال إلى مفترق طرق لا مجال إلا لتفرقنا فيه.. نظرت حزيناً إلى محمود الذي تحرك لانتشالي. ذكرني بموعدٍ مصطنع مع سامح، مشيراً إلى ساعته، وقمت. نظرت إلى كمال مودعاً. مددت إليه يدي، وعرف أنها المصافحة الأخيرة بيننا.. مدّ إليّ يده متردداً، قرأت في عينيه أنه يريدني أن أبقى، لكن لم يعد هناك مجال للتراجع. ها نحن ذا وصلنا إلى نهاية الطريق الذي كنا مستعدين أن نموت فيه معاً…
أختنق بدمعي… أغمض عيني لأبعد مشهد وداعي الفجائي الغريب مع رفيقي الذي كنت مستعداً للموت معه في دمشق عندما كنا ملاحقين من أجهزة المخابرات. أحدّق في الهاوية المفتوحة السوداء من نافذة الطائرة، أحدق ملقياً بنفسي في الهاوية…
سرت صامتاً مع محمود. صامتاً بحيادية المطلق، في مدينة أصبحت غريبة عني بالمطلق.. ليست هذه هي التافهة باريس التي حلمت أنها أنثاي. ليس هذا شارع جان ميرموز الهادئ الذي يشبه شوارع دمشق الستينات. ليس هذا هو الشارع الذي قلت له فور مروري فيه مرحباً أيها الشارع الذي ستصبح شهيراً لأن رفاقي يصنعون الأحداث فيك. ليست هذه هي الشانزليزيه التي أذهلني استنبات القمح سنابل في شوارعها بعيد تموز. ليست هذه ممرات مترو باريس التي طالما كانت حضناً دافئاً يحتضن شراستي أو شرساً يحتضن دفئي بعروقه التي تنبض بموسيقى أميريكا اللاتينية أو طبول الأفارقة التي تحولها إلى غابة شرسة أليفة وحانية بآن. ليس هذا شارع أميل زولا الذي كان حدثاً مهماً لي أن أسكن فيه، وليس هذا مدخل بيتي. ليست هذه علبة صندوق البريد التي اختار لها محمود غير عابثٍ اسم ” مارا “.. لكن يد محمود الممتدة فيها لاستخراج الرسائل هي يد محمود، ومحمود الذي يسندني بصمته هو رفيقي محمود.
حلّق بنا المصعد إلى السماء السادسة الأخيرة بالنسبة إليه وتوقف لنصعد الدرجات إلى سمائنا السابعة. انفجرت بالضحك وأنا أفتح الباب. هذا هو عش النسر. قلت لمحمود الذي اتجه إلى الثلاجة الصغيرة في نهاية الممر الضيق، وأعدّ لي كأس الويسكي بالنعناع. ألقيت بحقيبة يدي فوق الطاولة. خطوت خطوتين لأفتح النافذة. نظرت إلى رأس برج إيفل الشامخ خلل سراب الرماد في سماء باريس. حييته، وجلست. تناولت الكأس من يد محمود. نظرت إلى صورة رفيقي معاذ التي احتلت صدر الجدار. رفعت كأسي. قلت نخبك أيها الرفيق.
ـ كان علي أن أكون مكانه. لست أدري إن كنت أحسده على قبره. قلت وأنا أغب غبة كبيرة من كأسي. نظر إلي محمود بحنان محاولاً مواساتي.
ـ انظر هاني. أنا أعلم كم يصعب عليك تحمل ما حدث بينك وبين كمال، لكني أريدك أن تعرف أن كمال يحبك. ربما كان مرضه يضغط عليه، ربما تعلق الأمر بوضع المجلة التي تفتقد الموارد. ربما كان خائفاً وبدأ يفقد الأمل.. قال محمود، ونظرت إليه متأملاً ما وصلنا إليه.
ـ يحزّ في نفسي يا محمود، ما وصلنا إليه. لقد كنا النار التي سارت على هديها القوى الوطنية الديمقراطية في البلد. وضعنا أول برنامج سياسي ديمقراطي. انتقلنا بالشيوعية ولأول مرة في تاريخ الأحزاب الشيوعية في منطقتنا من ديكتاتورية الستالينية السوفييتية إلى الديمقراطية.. لقد حملنا في أيدينا حلماً كبيراً يتسع العالم.. يحز في نفسي يا صديقي أنه كان يكفي النظام المخابراتي السوري أن يعتقل قيادتنا الأولى لكي يوصلنا إلى أن لا نستطيع عقد مؤتمر لمنظمة الخارج، أن يصل الاختلاف الذي شجعنا بعضنا عليه إلى ممارسة وسخ ما كان البكداشيون يمارسونه في الحزب.. قلت وقاطعني محمود قبل أن أغرق في كآبات الشكوى.
ـ هوّن عليك. إن هذا يحدث، إنها ليست المرة الأولى التي تعاني فيها من الفصل. لقد تحولت إلى سيرة في المشاكسة.. قال محمود ضاحكاً ومذكراً إياي بتاريخي الحافل بالخلافات مع الرفاق خلال مسيرتنا لصنع الديمقراطية في الحزب، وضحكت.
ـ أذكر المرة الأولى التي فصلت فيها من الحزب في مدينتنا الصغيرة دير الزور. كنت في السابعة عشرة فقط، وكنت متحمساً حتى التعصب لمسيرتنا. عند خروج الثلاثي وانضمامهم إلى الاتجاه الستاليني الذي يمثله ” خالد بكداش “، حاولوا تكتيل ما يستطيعون من رفاق لجرهم معهم، وكان بعض رفاقنا في اللجنة المنطقية يساعدونهم على ذلك، وأخفوا عنا رسالة اللجنة المركزية الموجهة إلى جميع الرفاق لعرض الخلاف. لم يكونوا يريدون عرض اللجنة المركزية للخلاف وقرارها بشأنه لأنهم يعرفون أن النتيجة ليست في صالحهم… سألني رفيق قريب من جامعة دمشق زار البلد عن رأيي بالرسالة، وأبديت له جهلنا بحدوث أي شيء فأعطاني نسخة منها… قرأت الرسالة واستغربت لماذا تخفي عنا اللجنة المنطقية هذه المعلومات. طلبت مقابلة صاحبك أبو حكيم، رئيس اللجنة المنطقية. قلت له بأني قرأت الرسالة من خلال أحد رفاقنا في دمشق، فطلب مني وكان متردداً أين يقف بأن لا أخبر أحداً من الرفاق عنها ريثما تقر اللجنة المنطقية ما يكون بشأنها. قلت له أن الرسالة موجهة إلى جميع الرفاق. وقال لي بحنكته التي تعرفها أنه يخشى أن تحدث الرسالة انقساماً في صفوف المنظمة، لذا علي أن أتريث.. أحسست أن من يريد إخفاء هذه الرسالة يريد كسب الوقت لضم ما يستطيع من رفاق فسارعت بالتصرف. درت على جميع الرفاق الذين أعرفهم وأطلعتهم على مضمون الرسالة. هددني أبو حكيم بالفصل من الحزب لأني أخرق النظام الداخلي، وزاد هذا في حماسي. لم أترك رفيقاً في المنظمة إلا وأطلعته عليها، وفصلني أبو حكيم من الحزب.. قلت وضحك محمود من تصرفات أبو حكيم.
ـ أنا أذكر ما حدث، وأذكر أن أبو حكيم قرر البقاء مع رفاقنا وأصبح من أشد المتحمسين لعرض الرسالة. لقد كان يقدس أميننا العام / ابن العم، ويعتبره بطله. ولقد شرح له ابن العم أبعاد الانتهازية في خروج الثلاثي من الحزب، فأكد له أبو حكيم أنه معه قائلاً: أنت تعلم يا رياض أنني جندي سنغالي لديك، فضحك رياض الترك، وقال له: نحن نحمل مشروعاً ديمقراطياً للحزب، وأنا أريد رفاقاً يفكرون ويختلفون لا جنوداً سنغاليين يطيعون… قال محمود وهو يضحك من طيبة أبي حكيم، وضحكت.
ـ لقد كانت أياماً حافلة تدفعنا للمضي قدماً في مشروعنا الديمقراطي.. لكني أحس هذه المرة أنني مطعون يا محمود. مطعون وأنزف. إنها المرة الأولى التي أحس فيها أنني عاجز. لم يصدف أن عانيت من العجز أكثر من هذه المرة. حتى عندما اعتقل الرفاق. حتى عندما ارتكب السفاحون المجازر. حتى عندما تلقيت نبأ استشهاد رفيقنا معاذ. أحس أنني عاجز، ومكبّل. أحس يا محمود أنني جثة. أنا أتحرك الآن وفي داخلي جثة. لقد منحني قدومي إلى باريس الأمل في البداية في أنني سأفعل شيئاً لرفاقنا المعتقلين. بعث فيّ قدومي إلى مدينة الديمقراطية الأمل في أنني سأستطيع كتابة روايتي. سأستطيع إخراج جثة رفيقي من داخلي بعمل روائي يمجّد تضحياته. أنني سأرتاح مما أحمل في داخلي غير أنني تحولت إلى جثة.. قلت منكسراً ومحبطاً وصمت محمود مفكّراً بوضعي. رفع كأسه متعاطفاً ومشيراً لي أن أشرب.
ـ لقد قررت قبول عرض قبرص. وسأغادر باريس بأقرب فرصة.. قلت مفاجئاً محمود بقراري.
ـ أعتقد أن عليك أن تهدأ الآن دون أن تقوم بأية خطوات. مبدئياً نستطيع تدبير النشر بصحف أخرى تدرّ عليك بعض المال.
ـ أحس أن مشكلتي هي أكثر من مشكلة تدبير النقود على أهمية ذلك، يبدو أن علي أن أغيّر حياتي.. قلت مصمماً، وحاول محمود تغيير استراتيجية تهدئتي.
ـ ألم تنس شيئاً في اتخاذك لهذا القرار؟.. قال محمود ملمّحاً، ولمعت في رأسي صورة نورا. صورة وجه المشمش إياه. وجه المشمش المنمش بتويجات بيضاء. كم أحتاجك نورا في هذا الموت. لمعت في رأسي صورة عينيها الخضراوين. صورة البحيرتين الواسعتين المحاطتين بغابات النخيل. لمعت صورة شفتيها المكتنزتين الهادئتين بسكينة، صورة شفتيها اللتين تدور حول سكون ثلجهما أبداً فراشة مجنونة. لمعت في رأسي صورة شجرة المشمش إياها التي رأيتها مزهرة لأول مرة في الربيع. لمعت في رأسي صورتها وأغرقني الصمت.
ـ نعم. لكن يبدو أنها أحد أهم أسباب رحيلي.. قلت هارباً من ضغط صورتها. أحس أنني أصبحت عبئاً على الجميع هنا، وخصوصاً نورا. أحس أنني أضعها في خيار لا تريد هي أن تكون فيه. كما أحس أنها مازالت تحب زوجها وتحرص على عدم إيذاء ابنها من خلال ترددها. أعتقد أنني أشكل ضغطاً عليها، ويجب على هذا أن يزول، يجب على هذا أن يزول.. قلت غير مدرك ما أقول، ونبهني محمود.
ـ أنا أقدّر صعوبة خياراتك والطريق الذي حشرت فيه، لكن علي أن أنبهك هاني إلى نقطتين: الأولى هي أن الفرنسيين لن يسمحوا لك بالعودة إذا قطعت إجراءات حصولك على اللجوء السياسي، والثانية هي أنني معك. يمكنني تبنيك، ولن يكون هناك فرق كبير بين ولدين وثلاثة. قال مازحاً للتخفيف عني ومبلغاً إياي وقوفه إلى جانبي إن تضايقت، ونظرت إليه باسماً.
ـ سوف أجرّب حظي في مكان آخر. ربما كان هذا أفضل للجميع…
أغرق في بحيرة دمعي. يقطع نشيجي صوت المضيفة التي تراني هكذا وتتردد بسؤالي. أسألها أن تحضر لي كأس ويسكي، وأتناوله من يدها شاكراً. أنظر إلى يميني. سواد سواد ولا شيء يلمع في هذا السواد…
في عشائي الأخير مع عائلة محمود التي دعتني لتوديعي، أحسست حقيقة بعظم ما فقدت من دفء العائلة. كانت مودة عائلته لي وتماسكها الجميل مع بعضها يشكلان معادل خلل توازني العائلي الذي فقدته مبكراً ويوازنان وجودي. لقد كانت عائلة محمود هي سندي الحقيقي في هاوية هذه التافهة باريس، كانت عائلة محمود هي عائلتي وباريس الحقيقية بالنسبة لي، متاحف باريس الفنية، متاحفها العلمية، حدائقها، أسواقها التي شهدتها مع أطفال محمود، ودفء البيت المتوازن الذي يشع بالجمال…
تقدم مني بشار ابن محمود الصغير، مودعاً إياي بطريقته الذكية. قدّم لي سكّينه العزيز عليه قائلاً أن غلاوته زادت عليه منذ تعبنا أنا ووالده في العثور عليه عندما ضاع.. ” لقد كانت رحلة بحث مليئة بالمعاني “.. قلت وأنا أنظر في عيني الولد الذي كنت أرى فيه امتداد رفيقي معاذ الذي قتلوه، الولد الذي كنت أرى فيه بوجه غير ذي حق تعويضنا لما نفقد من رفاق أعزاء نمد بهم حياة بلادنا… طلب مني بشار أن أروي لعمّه رشيد الذي حضر لوداعي مع امرأته الفرنسية اللطيفة كيف عثرنا على سكينه الأبنوسي المطهم، في غابة خطوط باصات باريس… قلت لرشيد وأنا أضحك أن شاعرنا نديم المغرم بالسكاكين والبلطات أحضر لبشار هدية مميزة من قبرص هي هذا السكين الأفريقي الخشبي المشغول بحرفية مذهلة. وقد نزل بشار وأمه دون السكين من الباص الذي مضى. لقد نسي بشار هديته الرائعة في الباص، وأدركنا أنا وأبوه أي فقد عزيز تشكله هدية نديم، فاستنفرنا.. تتبعنا الباص الذي مضى من شارع إلى شارع ومن محطة إلى محطة ونحن نسأل كل من له علاقة بخطوط الباص عنه. والمشكلة كانت أننا لم نكن نعرف رقمه ولا أين يتجه، ووصلنا أخيراً إلى نهاية خطوط الباصات. لم يبق علينا إلا أن نوصي مدير المحطة بالاتصال بنا إذا ما أوصلها أحد أولاد الحلال إلى الأمانات، وأعطيناه مواصفات السكين بدقة مفرطة جعلته يشكك بعقولنا لكن أدبه طمأننا خيراً.
كنا محبطين ويائسين، ولم يبق لي كما أفعل عادة إلا أن أركّز مخي وأطلب من صديقي الله أن يساعد صديقي الطفل. قلت له يا ألله، يا صديقي الله.. من أجل هذا الولد الهائل الذي تعرفه. هذه المرة يا ألله. وصعدنا إلى الباص المتوقف كي نعود أدراجنا. جلسنا على المقعد وكانت السكين بيننا على المقعد نفسه.
ضحك رشيد من جنوني الذي يتكرر وقال لامرأته الفرنسية وهو يضحك: نعم إن لدى هاني معجزات شهدتُ واحدة منها في عيد الهيومانيتيه. فقد أحستْ ابنة رفيقنا ونحن نصعد الباص للعودة مع هاني أنها فقدت بطاقة هويتها الفرنسية الجديدة، وقلبت شنطتها رأساً على عقب بحثاً عنها، وانفجرت بالبكاء.. طلب منها هاني أن تهدأ ولا تفكر بشيء. ركز مخه وطلب منها أن تفتح محفظتها وأن تفتش بهدوء بين محتوياتها. فتحت البنت المحفظة وكانت الهوية بين المحتويات. قال رشيد وضحكت زوجته اللطيفة ابنة العلم غير مصدقة ما يرويه الشرقيون من جنون.
تقدمت ابنة محمود الصغيرة أليسار مني. سلّمتني قصيدة وطلبت مني أن لا أفتحها إلا داخل الطائرة. قالت وهي تشكرني ” تلك قصيدة مني رداً على القصيدة التي كتبتها لي في عيد ميلادي “…
يصمت هدير الطائرة وأمد يدي إلى جيبي. أخرج قصيدة طفلة صديقي أليسار، أقرأ قصيدتها لي: ” سيف أبيض حلّ بيننا، لكنه مضى مثل البرق، وبقي السؤال. إنه عمو هانيبال… ” أقرأ قصيدة طفلة صديقي وأشرق بدمعي. أؤكد لنفسي وعداً أقطعه على نفسي أمام قصيدة طفلة صديقي. سوف يبقى السيف سيفاً يا طفلتي. سوف يبقى السيف سيفاً…
يصمت هدير الطائرة وأشرق بفيض الدمع. أرى وجه نورا. يفاجئني وجودها أمامي في المطار.
ـ إلى أين تهرب.. تقول لي ضاحكة، وأتسمّر في مكاني. ها هي ذي المرأة الوحيدة التي تسمّرني في مكاني أتت لتراني. غلبني التأثر وتمالكت نفسي من الركض إليها واحتضانها. نظرت إلى محمود وابنها طارق. ركض إليّ طارق. ضرب كفه بكفي كما تعودنا حين نلتقي ووقف بهيئة عراك الكاراتيه لمجابهتي. ضحكت ورفعت يدي مستسلماً. ركض إليّ واحتضنته رافعاً إياه إلى أعلى… انفردت بمحمود حين أخذت نورا ابنها طارق لتشتري له الذرة. سألني محمود ضاحكاً مع ساعة مغادرتي التي تقترب ولم يعد من مجال لبقائي.
ـ ماذا كرهت في هذه التافهة باريس!؟.
ـ كرهت أنها لم تفتح لي نافذة واحدة على طفولتي.
ـ تلك طبيعتها، لكنك لم تصبر كفاية عليها.
ـ نعم. ربما تسرّعت قليلاً، لكنني سأمضي.. قلت حزيناً وحضرت نورا. أخذ محمود طارق وأبعده قليلاً محدثاً إياه كي يتيح لنا الانفراد. نظرتُ إلى نورا. نظرت إلى بحيرة الحنان الساكن في عينيها، تلك هي اللحظة التي أستطيع فيها أن أقول ما أخفيت في صدري. تلك هي لحظتي.
ـ كنت أتمنى أن نبقى معاً ونتزوج.. قلت وفوجئتْ نورا. احتقن وجهها ولمع الدمع في عينيها.. نظرتُ إليها مكابراً دمعي، وحملتُ شنطة يدي واستدرت للمضي إلى البوابة. وصلتُ إلى البوابة وسمعت صوتها. سمعت صوتها ولا أعرف إن كان هذا حقيقة أو حلماً، وما الفرق.. استدرتُ لأقف لحظة، ولتركض هي إلي. توقفتْ أمامي دامعة وعانقتني.
ـ أنا أيضاً هاني. أنا أيضاً هاني. قالت وضممتها، ضممتها لأول مرة في حياتي، ضممتها وكأنها جزئي الذي لا ينفصل عني، جزئي الذي سينفصل عني بعد لحظات تحت تهديد سيف الطرد من جنتي بيد الملاك.
خاص – صفحات سورية –
بأذن من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com