بيانات وتقاريرصفحات سورية

أوباما و النظام السوري ماذا وراء الأكمة؟

null
شكّل مجيء أوباما رداً يعبّر عن موقف الناخبين الأمريكيين من رئيسهم السابق، و ما جلبته سياساته لهم من كوارث، كما من المحافظين الجدد الذين جسّدوا الصورة العارية للرأسمالية الأمريكية، بكل ما فيها من نهم مجنون لنهب الأموال، ومن وحشية و استخفاف بالبشر، و كل ما أنجزته الثقافة عبر التاريخ من قيم و مفاهيم و مواثيق تنظم العلاقات بينهم.
كان جنون القوة العارية، و الطموح لاستعباد الشعوب، و الثقة بقدرة المال و الدجل الإعلامي على غسل أدمغة البشرية و إعادة تشكيلها وفق المصالح الإمبريالية، قد اصطدمت جميعها بإرادة تلك الشعوب و مقاوماتها المتنوعة، لاسيما في العراق و لبنان و غزة، و فشلت فشلاً فاضحاً، كما اصطدمت بممانعة النظام السوري للركوع المجاني للشروط الأمريكية، و بعجز الإدارة الأمريكية رغم المساعي الدؤوبة عبر سنوات، عن “كسر الجوزة القاسية” التي كان كسرها هدفاً معلناً لبوش. فما الجديد لدى أوباما في هذا الشأن؟ هل ثمة تغيير في الأهداف و تحول في السياسات؟ أم أن التغيير سيقتصر على الوسائل وحدها، بما في ذلك الأسلوب و التكنيكات المعتمدة لتحقيق الأهداف المنشودة؟ أم أنه سيشمل الأهداف و الوسائل معاً؟
رغم أن استقراء سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه النظام السوري مرتبط بمعرفة سياساتها تجاه العالم، و لاسيما تجاه المنطقة الإسلامية – العربية (التي تسميها الشرق الأوسط الكبير)، فسنحاول هنا حصر موضوعنا ضمن نطاق الوضع السوري بالذات، بتشابكاته الإقليمية التي يتعذر فصلها عنه، تاركين تحليل السياسة الأمريكية المستجدة خارج هذا الإطار لمناسبة أخرى.
لا تتغير الأهداف العليا للسياسة الأمريكية برحيل بوش، و لا بمجيء أوباما أو رحيله؛ فالمراكز و المصالح الإمبريالية هي نفسها، أياً كان موظفوها في البيت الأبيض أو في غيره. و السيطرة على منطقة احتياط النفط الأكبر في العالم، سيطرة مستقرة و راسخة، بأهميتها الجغرافية الإستراتيجية، تظل مصلحة عليا لأمريكا، للإمساك بخناق أوروبا و الصين و اليابان و الهند، و غيرها من القوى الصاعدة في العالم، فضلاً عن الأرباح الخيالية التي تجنيها من نهب هذه الثروة، و يظل الحفاظ على امتدادها العضوي في المنطقة “الكيان الصهيوني”؛ و ضمان أمنه و تفوقه، جزءاً عضوياً من هذه المصلحة، لإبقاء الشعوب العربية مفتتة و مستنزفة و خاضعة.
ما يتغير هو الأسلوب، و التكتيك، و أدوات السياسة الموظفة لتحقيق هذه الأهداف المنشودة، و لأن تكتيك إدارة بوش في الإخضاع القسري بلا مقابل، بأسلوب العدوان العسكري، و الحصار و العزل، قد فشل فشلاً ذريعاً فيما يخص النظام (و إيران و لبنان – القوى الوطنية، و فلسطين – غزة و حماس و الجهاد و قوى المقاومة)، صار من المحتم البحث عن وسائل و تكتيكات مختلفة، و هو ما لم تتأخر مؤشراته أياماً بعد استلام أوباما لمسؤولياته.
ما كان مدرجاً في الأجندة الأمريكية تجاه سوريا: الشعب و الكيان، و تجاه سوريا: النظام، ما زال هو ذاته: تطويع النظام، و تحويله من “قوة ممانعة” و عرقلة للمشروع الأمريكي في المنطقة، إلى قوة “بنّاءة”! و متعاونة مع هذا المشروع. و في الوقت نفسه: إبقاء الشعب السوري “مضبوطاً” و تحت السيطرة، و منعه من التحول إلى قوة سياسية فعالة و مبادرة تجاه ما يعتبره قضيته الوطنية المركزية “فلسطين”، التي كان و ما يزال يؤمن بضرورة حلها جذرياً، بتقويض المشروع الصهيوني، و ضمان الحقوق التاريخية الكاملة للشعب الفلسطيني الشقيق، و تشريع أبواب المستقبل لوضع عربي جديد تماماً بالمعنى التاريخي، تحتل فيه هذه الأمة المكانة التي تطمح إليها تحت الشمس.
يتكفل النظام بحكم الديكتاتورية، و بحكم مصالحه في إبقاء الشعب خاضعاً و تحت السيطرة، بهذه المهمة، ولقد حافظ على جبهة الجولان هادئة تماماً على امتداد أكثر من ثلث قرن، بل إن أي مواطن سوري أو عربي يحاول إطلاق ولو رصاصة واحدة على العدو الصهيوني عبر الجولان، سيسجن لعشر سنوات كاملة، بتهمة ابتكرتها أجهزة النظام المعنية: (محاولة إشعال الجبهة!) هذا دون أن نغفل منع كل عمل سياسي منظم و منطلق من إرادة شعبية مستقلة عن السلطة، خوفاً من تطوره إلى ما قد لا يكون مرغوباً، و ربما مرفوضاً تماماً من النظام! (و إذا لم يكن المنع مطلقاً، فلا بد من إبقاء الحركة تحت سقف معين، و قابلة للإخضاع أو التحطيم… حين يلزم!). لهذا ترددت في الكيان الصهيوني آراءٌ “تعارض” محاولة بوش تغيير النظام، “فممانعته” أقل خطورة من “مقاومة الشعب”، أو على الأقل، من فتح أبواب التطورات على احتمالات مجهولة، قد يكون بروز القوى الشعبية – الوطنية الجذرية، من بينها!
ولهذا كثر في الإعلام اللبناني من يغمز من قناة أنصار المقاومة في لبنان، في حين يغلق حليفهم (النظام) جبهة الجولان هذا الإغلاق المحكم، ( وهو كلام حق يراد به باطل، إذ لا غاية لمن أثار تلك الغمزات سوى إغلاق الحدود اللبنانية في وجه المقاومة، و هو ما دعوا إليه صراحة، و ليس فتح جبهة الجولان!).
أما المهمة الأولى (تطويع النظام)، فتتطلب تفصيلاً: فك علاقته الإستراتيجية بإيران، عسكرياً و اقتصادياً و سياسياً، و قلب دوره تجاه حزب الله: من داعم إقليمي، و معبر للسلاح و مزوّد به، إلى قوة ضغط و حصار، لإضعافه و إلغاء دوره في مواجهة “إسرائيل”. ومثل ذلك تماماً تجاه حماس و الجهاد و فصائل المقاومة الأخرى، الرافضة للانسياق في وهم أوسلو، و ما هو أسوأ منه من “تسويات” يلوح بها الأمريكان و حلفاؤهم، و يتطلب الأمر أيضاً و على طول الخط: إبقاء الشعب السوري تحت السيطرة، و إبقاء نزعاته و قناعاته الوطنية و القومية الجذرية، مخنوقة و ملجومة، و ممنوعة من التحول إلى قوى و حركات فعالة و مبادرة على أرض الواقع.
و بالمحصلة: تحويل سوريا الشعب أساساً، و سوريا النظام في السياق، عن الدور التاريخي الذي لعبته، (و تطمح إلى ما هو أكثر منه بكثير، تجاه القضية الفلسطينية).. إلى دور يماثل دور النظام المصري بعد كامب ديفيد تجاه هذه القضية، و هو دور لا يحتاج لأي توصيف، لاسيما بعد الحرب على غزة.
لقد انطوت إذاً مرحلة محاولات التركيع المجاني، بما فيها من تهديدات عسكرية وصلت حد العدوان المباشر (إبان غزو العراق، و لاحقاً في الغارة على البوكمال، و بصلة لا تخفى بهذا المناخ: الغارة الإسرائيلية على موقع الخبر قرب دير الزور)، و من حصار سياسي و اقتصادي، و مقاطعة، و تصنيفات في “محور شر”، و حملات إعلامية لا تنقطع، و بدأت مرحلة جديدة ستكون لها أساليبها و أدواتها المختلفة، و لأن الأمر هكذا، رأينا وفوداً متعاقبة من الكونغرس، بحزبيه، تتقاطر إلى دمشق بنشاط، في مسعى لاكتشاف الأجواء بدقة، أعقبتها زيارة لفيلتمان، كما رأينا خطاباً جديداً ستتبلور ملامحه تباعاً، لتوفير مناخ مناسب للعلاقات المنشودة، وهو مناخ ستنفتح فيه حكماً أبواب المساومات و المفاوضات و الصفقات، على مصاريعها، و لا شك بأن “إغراءاتٍ” كثيرة سيتم التلويح بها للنظام، سياسية إلى حد ما، و لكن اقتصادية بصورة رئيسية، و سيتم طلب المقابل لكل منها على طاولة المساومات، و لن يجري هذا بداهة، دون الكثير من المناورات، و محاولات الابتزاز، و استخدام وسائل الضغط و التخويف، ولكن دون أن تصل إلى السقف العالي “وغير الواقعي” الذي اعتمده بوش في سياساته الفاشلة.
من جهة، فإن النظام ليس غافلاً عن أي بند مما سبق، و هو يدرك المواقع القوية التي يستطيع الاستناد إليها، داخلياً و في المنطقة ككل، وهو إذ يعتبر أنه من ضمن المحور الذي ربح عدة جولات في المنطقة خلال السنوات الماضية، يدرك في الوقت نفسه حساسية و أهمية علاقاته الإقليمية بكافة قوى هذا المحور، و هو لن يقدم بالتالي على أي خطوة تضعف هذه العلاقات أو تمسها، دون أن يكون قد استوثق تماماً من إمكانية فوزه “بالجائز الكبيرة” التي يتطلع إلى الأمريكيين كلاعب رئيسي في عملية الحصول عليها، وهي استعادة الجولان في إطار التسوية المنشودة التي يسعى إليها، و دون أن يبذل كل ما بوسعه للحفاظ على تلك العلاقات (الإقليمية)، و إقناع أطرافها باستمرار المصالح المشتركة معه، و استمرار إخلاصه للمحور المشترك، بل و ربما محاولة تحقيق ربط لقضاياها و مصالحها مع خطواته المحتملة مع الأمريكان، حين يحين وقتها.
تشكل قضية “التسوية” و “السلام” في المنطقة، عقدة العقد بالنسبة للنظام، والامتحان الأصعب لقواه و إمكاناته في كل مجال، حيث تتشابك فيها خيوط الوضع السوري الداخلي، بكل أبعاده، مع خيوط الوضع الإقليمي و الدولي. و سيؤدي نجاحه فيها (وفق معاييره و تصوراته للنجاح) إلى إكسابه “شرعية جديدة” عربية و دولية، تدشن طريقاً جديداً تماماً لأولوياته الداخلية و الإقليمية و الدولية في آن معاً. إلا أن هذا نفسه يمكن أن يقحمه في تناقضات و أزمات عويصة مع حلفائه اليوم، و الأهم: مع الشعب السوري بوطنيته الجذرية المعروفة. و سيعمل النظام على تلمس طريقه بحذر شديد في المرحلة المقبلة، تجنباً للانزلاق في وضع يجد نفسه فيه و قد انشرخت علاقته بإيران و حزب الله و المقاومة الفلسطينية، و فقد قدرته على استثمارها، دون أن يكون قد ضمن “موقعه الجديد المنشود” في إطار تسوية تبقي الكلمة الأخيرة للكيان الصهيوني و سادته الأمريكان.
ولا شك أن تحقيق شرخ كهذا بين النظام وحلفائه الإقليميين، يشكل هدفاً أساسياً للطرف الأمريكي – الصهيوني، على طريق إضعاف كافة الأطراف الإقليمية، الممانعة و المقاومة، وصولاً إلى تركيعها، عبر الطرق الالتفافية، بعد فشل الطرق المباشرة.
يبقى أن العقدة الأصعب إطلاقاً بالنسبة لأوباما، إذا صدقت عزيمته على (حل الدولتين)، و تسوية الوضع في الجولان، تكمن في الكيان الصهيوني نفسه. فهو يعيش منذ ثلاثة عقود تقريباً، انزياحاً مستمراً، إيديولوجياً و سياسياً، نحو فاشية عنصرية صريحة، تبدو و كأنها رد فعل غريزي للجمهور الصهيوني و نخبه السياسية، على انسداد آفاق (حلمه التاريخي) الجنوني في (إسرائيل الكبرى) بل و في (إسرائيل أرض الميعاد) أيضاً، بفضل الثبات و البطولة التاريخية الهائلة التي أظهرها و يظهرها الشعب الفلسطيني في تمسكه بأرضه و هويته و حقوقه التاريخية، رغم العنف الوحشي المروع المستخدم ضده، و كثرة الأصوات الداعية للاستسلام تحت شتى الحجج و الذرائع.
فماذا يملك أوباما تجاه هذه العقدة؟
هل يستطيع إلزام هذا الكيان العنصري الذي يزداد تأزماً، بحل (الدولتين) كما يقول، في حين أن الوقائع كلها تسير في اتجاه معاكس لا يترك للفلسطينيين أي أرض يقفون عليها، ناهيك عن إقامة (دولة قابلة للحياة) فيها؟ و هل يستطيع ذلك في ظل الارتفاع المتفاقم لنبرة دعاة (الدولة اليهودية النقية) بما تعنيه من ترحيل نحو مليون و نصف فلسطيني من أراضي 1948؟
أم أنه (سيختار) تحت ضغط اللوبي الصهيوني و طبيعة القوى الإمبريالية العدوانية نفسها، أن يوجه ضغوطه نحو الطرف الأضعف، كما هي العادة، لإبقاء الأبواب مفتوحة أمام (مشروع الدولة اليهودية النقية) بما ينطوي عليه من جرائم و كوارث جديدة، و يركز جهوده على إنجاز تسوية في الجولان، بمعزل عن سائر الأطراف، و على حساب حقوق الشعوب العربية الأخرى، كما سبق لنظام كامب ديفيد أن فعل؟
و هل سيخضع النظام السوري لمشروع كهذا، و يشرع أبواب المنطقة لأعاصير جديدة لا تعرف بدايتها و لا نهايتها؟
هنا العقدة الأصعب، و التحدي الأكبر، لأوباما، و للنظام، و للشعوب العربية و قواها الوطنية و الديمقراطية كافة، كل من موقعه. و ستبدي الأيام ما لا يزال حتى اليوم رجماً بالغيب.
كل الدعم للشعب الفلسطيني البطل لاسترجاع كامل حقوقه التاريخية.
كل الدعم للشعب اللبناني وقواه الوطنية المكافحة.
نعم لوحدة الإرادة ووحدة المصالح العربية في مواجهة الصهيونية الغاصبة.
نشرة الآن، العدد 58 أذار 2009
حزب العمل الشيوعي في سورية
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى