المعارضة السورية: هل من أفق للتوافق ؟
نشرة الموقف الديمقراطي
كان إعلان دمشق ثمرة لجهود تراكمية منذ العام 2000 على صعيد المعارضة السورية، وهو بلا شك خطوة نوعية تتجاوز المبادرات والمشاريع التي سبقته، من حيث المنظور، ومن حيث التطور الحاصل في علاقات القوى السياسية ببعضها، وفي التقنيات الحوارية الجديدة القائمة على التوافق والتشارك، وهي التقنيات الضرورية للممارسة الصائبة للسياسة.
لقد جرى التأكيد على مجموعة من الأفكار والمضامين الأساسية في المرحلة الأولية للإعلان، لعل بعضها:
1ـ ضرورة تغيير الصورة السائدة، سواء عند النظام أو في الخارج، والتي تقول أنه لا يوجد معارضة في سوريا، إنما يوجد معارضون، وهي الصورة التي لا تقيم وزناَ لوجود معارضة متماسكة داخل سوريا.
2- ضرورة تغيير مسار خطاب المعارضة السورية من خطاب يعول على النظام ويناشده القيام بالإصلاحات المطلوبة وانتظار مبادرته تجاه المعارضة والمجتمع، إلى خطاب يضع تصوراَ للتغيير الديمقراطي بمعزل عن النظام، خاصة بعدما ظهر أن النظام قد أدار ظهره لكل دعوات المعارضة بالإصلاح والتغيير.
3- توجيه خطاب المعارضة إلى كل المجتمع السوري في الداخل والخارج، ولفت انتباهه إلى أن مساراَ جديداَ للتغيير قد ولد، وهذا المسار لا يلتقي مع سياسات النظام، ولا يتوافق مع أساليب الخارج في آن معاَ، لذا من الضروري عدم استثناء أي جهة أو فئة أو فرد إلا أولئك المندرجين في سياسات القمع والفساد، والذين يقيمون تحالفاَ صريحاَ مع الخارج وموجهاَ ضد سوريا الدولة والمجتمع.
4- ضرورة أن تكون صيغة الإعلان ذات طابع سياسي توافقي، وهو الأمر الذي اقتضى التخفيف من الأيديولوجيا قدر الإمكان، والاقتراب أكثر فأكثر من الحقائق الواقعية.
هذه التأكيدات كانت من أجل ألا يكون الإعلان مجرد فقاعة أو بيان يتلى وينسى ولا يتمخض عنه شيء، خاصة في ظل كثرة البيانات والمبادرات التي خرجت إلى العلن في الفترة الماضية، وانتهت بمجرد إعلانها، لكن لا يعني ذلك أن مسيرة ائتلاف إعلان دمشق كانت سهلة، فقد تعرض لعدد من الهزات، مصدرها الضغوط الأمنية أحيانا، وذاتي أحيانا أخرى يتعلق بأخطاء المعارضة نفسها، لعل منها محاولات تمييع القضية الرئيسية التي قام من أجلها الإعلان، وهي التغيير الوطني الديمقراطي، بطرح قضايا عديدة، يمكن أن تكون موضوعات لحزب سياسي ما، لكن غير متناسبة مع إقامة ائتلاف سياسي عريض، وقيام طرف وازن في الإعلان “الإخوان المسلمون” بعقد تحالف آخر تحت اسم “جبهة الخلاص”، وهو ما وضع قوى الإعلان في الداخل في موقف حرج، وزاد من حدة تعامل السلطة معها، ونقل الخلافات القائمة المشخصنة إلى داخل ساحة الإعلان، وبدء تشكل استقطابات معيقة داخله.
التطورات السلبية الأخيرة في المعارضة
منذ البداية، كان واضحا، رغم الجهد المبذول في الإعلان، والنوايا الطيبة لموقعي الإعلان، أن استمرار الائتلاف أو التحالف محفوف بالمخاطر والمطبات، لعل أولها طبيعة اللحظة السياسية التي تجعل التوصل إلى خطاب سياسي ناضج تجاه الأحداث السياسية أمراَ ليس سهلاَ، خاصة في ظل حالة الاستقطاب الجارية في المنطقة. وثانيها أن استمرار الائتلاف في الظرف السياسي الراهن يتطلب الكثير من المسؤولية من جهة، والكثير من السياسة على حساب الأيديولوجيا والبرامج الخاصة، وثالثها أن التوصل إلى آليات عملية واضحة أو نظام داخلي يحدد الحقوق والواجبات ونسب التمثيل والهيئات واللجان الضرورية، جميعها أمور أساسية لانطلاق مسيرة الإعلان في الواقع السوري، وكي يتحول تدريجياَ إلى واقع عملي، لكنها تحتاج إلى خبرات حرمت منها المعارضة بفعل الاستبداد أربعة عقود من الزمن. و رابعها لن ينجح الإعلان وقواه ما لم يتوجه إلى القوى السياسية الأخرى والشعب السوري بجميع انتماءاته بهدف زيادة مساحة التوافق الوطني.
لكن واقعيا رأينا عددا من المسائل التي شكلت مقدمات وأسبابا لما حدث فيما بعد، منها كثرة القضايا الخلافية المعلقة في ساحة المعارضة، أي وجود رؤى ومواقف مختلفة، بل ومتعاكسة إزاء القضايا السياسية الراهنة. بالطبع الخلاف أمر طبيعي وصحي، لكن الحادث هو غياب أي حوار حول هذه القضايا، وبالتالي تعليقها وتأجيلها، وهو الأمر الذي يؤدي بشكل طبيعي للسير في طريق الافتراق وليس الإلتقاء.
غياب أي حوار، جعل الرؤى والتصورات تتحدد خلال الفترات الماضية بطريقة سريعة وسلبية، وتعالت الأصوات والاتهامات، داخل المعارضة وخارجها، وهو ما سمح بتشكل استقطابات غير منتجة ووهمية، تقوم على الكلمات العامة المجردة، فعندما يغيب الحوار تحضر عملية رسم الحدود بين الجميع لتفعل فعلها.
إن انتصار التجارب أو اندثارها لا تقرره كلمات أو شعارات. بل هو يكمن أولاً وأخيراً في المضامين والدلالات التي تستند إليها تلك التفاهمات. ومن الملفت أن التفاهمات التي تقوم على هذه الأرضية غير الصلبة، سرعان ما تحتاج لسلسلة لا نهاية لها من التوضيحات.. والتفاهمات الجديدة، مما يؤكد أن أكثر ما تحتاجه المعارضة هو وضع أرضية صلبة وواضحة، أي ليس حفنة توافقات وقرارات وقتية. لكن إعلان دمشق أحدث قفزته المعروفة، أي انعقاد المجلس الوطني، قبل إنجاز هذه الأرضية، وكان هذا أفضى لانفجار القضايا الخلافية المعلقة دفعة واحدة على رأس المعارضة.
التطورات السلبية الأخيرة إذا على صعيد المعارضة تقع مسؤوليتها على عاتق جميع المساهمين في التحضيرات الأولية للمجلس الوطني لإعلان دمشق، الذين لم يوفروا الشروط الضرورية لنجاح هذه التجربة، أي الحوار الجدي حول المسائل المعلقة، وطريقة التحضير للمجلس الوطني وتشكيل هيئاته وانتخاباته.
بالمقابل، لا يجوز تحويل ذلك، كما يفعل البعض، إلى مناسبة للتشكيك بنوايا الأطراف أو للنزاع والدعوة للانقسام. وليس من الصعب كذلك على قوى المعارضة تجاوز تلك السلبيات إذا تنبه الجميع لحجم الرهانات المرتبطة بالمحافظة على التكتل الذي يمثله الإعلان، بصرف النظر عن أخطائه ونقاط ضعفه العديدة. وليس واضحا أن التضحية بهذا التكتل الذي تطلب انشاؤه واستمراره حتى الآن جهودا مضنية من الجميع، سوف يفتح الباب أمام نشوء تكتل آخر. وعلى الأرجح سيكون البديل عنه تمزق الحركة السياسية. بمعنى آخر، يشكل الحفاظ على إعلان دمشق مصلحة وطنية بقدر ما سيكون انقسام الإعلان أو إضعافه برهانا على عجز القوى السياسية القائمة عن التآلف والتجمع. لذلك مهما كان حجم الاختلاف في وجهات النظر الفكرية والسياسية من الممكن حلها داخل الإعلان. وهذا هو الطريق الطبيعي لبلورة حركة سياسية حقيقية، فتراكم الخبرة عبر الصراع الفكري والسياسي داخل الإطار الواحد هو ما ينضج هذا الإطار، وبالتالي من حق الجميع وواجبهم خوض معركة داخل الإعلان في سبيل إنضاج تصوراته بشكل تفصيلي وتحسين عمله ونظامه.
الأرضية الصلبة التي كان المجلس الوطني يحتاجها قبل انعقاده، تطاول أيضا المستوى التنظيمي للإعداد، إذ كيف يمكن أن تلتقي آلية التوافق في المستوى السياسي مع آلية الانتخاب على المستوى التنظيمي، فالتوافق يلتقي مع التمثيل، والانتخاب يلتقي مع مفاهيم الأكثرية والأقلية. كما يرتبط هذا الأمر أيضا بعدم وجود تصور واضح وواقي لدور كل من القوى السياسية والمستقلين في الائتلاف.
إعلان دمشق تبلور بجهود مشتركة لطرفين أساسيين، هما القوى السياسية المعروفة من جهة (قومية ويسارية وإسلامية) والمثقفون والنشطاء المستقلون من جهة ثانية. ولم يكن من السهولة خلال الفترة الماضية تحقيق التفاهم والانسجام بينهما بسبب اختلاف أنماط التفكير والعمل والخبرة الماضية لكليهما. لكن لا يمكن للإعلان أن يستمر ويتطور ما لم يتم التفاهم بشكل واضح بين هذين الطرفين، بحيث لا تكون هناك وصاية للأحزاب على الحركة الديمقراطية أو مصادرة لها من جهة، واقتناع المثقفين والمستقلين أنه يستحيل بناء تحالف عريض ومؤثر دون الأحزاب، وهذا يحتاج لآليات عمل واضحة وليست اعتباطية.
غياب الأرضية الصلبة، التي تبنى بالحوار الهادئ والمستمر والتفصيلي والعميق قبل الوصول للحظات الحاسمة، ساهم أيضا، إلى جانب الضغوط الأمنية التي تتعرض لها المعارضة، إضافة للشعور بفراغ الصبر من الأوضاع المتردية، في تبني البعض لخيارات وتصورات سريعة وانفعالية وغير ناضجة، لكن هذه الرؤى والتصورات تخص أفرادها في الغالب الأعم، ولا تعبر بالضرورة عن آراء القوى التي ينتمون إليها، كما ساهم في إساءة فهم البعض لطروحات وآراء البعض الآخر وتحميلها أكثر مما تحتمل. هنا من الضروري أن نتفهم أن الاختلاف الحاصل بين القوى السياسية الحزبية، لم يكن حول المبادىء أو الأهداف المنشودة، فهذه القوى تعرف بعضها زمنا طويلا، وإنما في الأمور الإجرائية والتكتيك ورسم الأولويات، وهذا يمكن معالجته عبر الحوار الموسع والصبور. وإذا أضفنا إلى كل ذلك الإقرار بأن حركة المعارضة في الواقع تجري في غياب أي حراك مجتمعي أو شعبي، عندها ندرك حجم الجهد المطلوب للقيام بخطوة عقد مجلس وطني، وحجم التواضع الذي ينبغي على القوى والأفراد في المعارضة التحلي به.
بقي أن نقول أن هذه العيوب لا تخص اتجاهاً دون آخر، بل تخص الجميع. واستنكارها أو تفسيرها بفروع أخرى لا يحل المشكلة، بل يضللنا عن أصلها وأسبابها التي يخص وزرها الجميع.. ويتطلب بالأحرى إطلاق حالة حوارية مبرمجة غير مسبوقة يشارك فيها الجميع أيضاً!
معنى التوافق والاختلاف
ثمة صفات عديدة تميز العمل الائتلافي، فهو يقوم على مبدأ التوافق وليس التطابق، ويحترم الاختلاف في الرؤى والتصورات، لذا فإن نجاح أي ائتلاف غير ممكن دون روح التفاوض والتسوية والحلول الوسط والتوافق، فهذه الروح هي جوهر ممارسة السياسة، وهي التي تسمح بالعمل من خلال القواسم المشتركة والإقرار بوجود اختلافات في آن معا.
القوى السياسية الحقة هي التي لا ترى نفسها إلا في حالة تشاركية توافقية، يمكن من خلالها اختبار مفاهيمها ورؤيتها ليصار إلى تجديدها وتطويرها وتصويبها، فالعمل الائتلافي يدفع جميع القوى المشاركة فيه لتصحّح من نظرتها لنفسها وللآخرين، ولتعرف حجمها وقدرتها على التأثير في هذا الواقع المعقد والمركّب، فهو يخفف من حدة الادعاءات الذاتية، لأنه لا يعطي أي حزب أو تيار أو فرد حق الادعاء بدور استثنائي، أو الحق في نبذ الآخر وسلبه حق الوجود والمشاركة.
إن الإندراج في تحالف عريض لا يلغي الحق بالتعبير الصريح عن الاختلاف في وجهات النظر أو في النقد، وإلا سنكون شبيهين بالنظام الاستبدادي الذي نريد تغيير آلياته، والذي يطلب على الدوام وقف أي تفكير داخلي باسم الضغوط الخارجية، وينظر للحريات بوصفها تهديداً للوحدة الوطنية وباباً للاختلاف والتنازع. إذا أردنا أن تعيش المعارضة وتتطور، ينبغي عليها أن تنجح في اختبار الحفاظ على الجدل الفكري من دون انقسام، فديناميكية المعارضة وتطورها لا يحصلان من دون منهج النقد والتصحيح الدائم، لكن دون تحويل النقد إلى خصام وفرقة.
إن إغناء الحركة الديمقراطية لا يكون إلا بالنقاش الداخلي المشروع والمثمر. ولا ينبغي أن نسمح للاستبداد أن يشجعنا على التغطية على اختلافنا، ويمنعنا من التفكير فيه، وبالتالي الخروج من النقاش بحلول مقبولة للجميع والتوصل إلى أرضية صلبة تضمن استمرارنا وتماسك صفوفنا.
علينا أن ننظر إلى أي اختلاف، مهما كانت النوايا الكامنة وراءه، على أنه تعبير عن قراءة مغايرة للأحداث، وعن وجهة نظر مختلفة في التحليل، تستند ربما على معطيات ناقصة أو غير مكتملة، لكن لا تستبطن موقفا معاديا، وتبقى بالتالي وجهة نظر مشروعة، تستحق المناقشة والاحترام، ولا يمنع شيء من تجاوز الخلاف الذي تجسده عن طريق الحوار والنقاش. من دون ذلك ليس هناك ما يضمن أن لا يتحول الاختلاف الفكري والسياسي إلى إدانة أخلاقية أو سياسية للغير المختلف، ويصبح هو بدوره حاضنة لنزاعات متجددة ومولدا لانقسامات لا تنفذ.
المعارضة السورية مطالبة اليوم بما هو أكثر من ذلك، أي السعي التدريجي لإحراز تقدم في مفهوم العمل الإئتلافي المشترك لصالح بناء حركة تتجاوز الأحزاب، تفتح المجال لمشاركة مفتوحة وواسعة عبر جذب الطاقات العديدة الموجودة خارج الأحزاب، وهذا ممكن في حال إصرار الأحزاب على تقديم مثل أعلى في القدرة على التوافق والعمل المشترك، رغم التباين، لمن هم خارجها.
مفهوم المعارضة والتغيير الوطني الديمقراطي
تعاني المعارضة السياسية في سورية من إشكالات غير قليلة على صعيد الرؤية والخطاب وآليات العمل، فضلاً عن البنى التنظيمية الضعيفة والمترهلة. رغم ذلك، كانت المعارضة السورية، بقواها ومثقفيها، ناضجة في فهمها لذاتها ولوظائفها، إذ رأت في المعارضة مسؤولية وطنية وليست فعلا تآمريا أو صراعا على السلطة أو فعلا إقصائيا للآخر، وفي سياق هذه الرؤية يأتي رفضها المبدئي للعنف والعنف المضاد وكافة التعبيرات والآليات المرتبطة بذلك، كالأساليب الأمنية والبوليسية والمؤامراتية، تلك التي أضرت وتضر بالجوهر الديمقراطي للعمل السياسي.بالتالي لا يعني التغيير الوطني الديمقراطي أو يعادل فعلا إنقلابيا، بل يعني أساسا تغيير نمط الحكم القائم وآلياته وممارساته.
القضية والمهمة الحارة أمام وطننا هي إعادة البناء الداخلي على أسس الديمقراطية، فالقضايا السياسية الأخرى المطروحة، على أهميتها، لا يمكن خدمتها في هذه المرحلة دون وضع أقدامنا على سكة الديمقراطية. القضايا الأخرى هامة و أساسية بالتأكيد، فنحن لا نعيش لوحدنا، ومصيرنا مرتبط بمصائر العرب عموما، خاصة أن الخارج لن يترك وسيلة للهيمنة على المنطقة الحيوية لاقتصاده، فالدفاع عن فلسطين، ورد محاولات الاعتداء الإسرائيلية على المنطقة، والعمل القومي، ومواجهة الإمبريالية وسياسات الهيمنة، والاحتلال الأمريكي للعراق، وغيرها من القضايا المؤثرة والمتمفصلة بالتأكيد مع وجودنا ذاته، لا يمكن بناء وعي حقيقي بها، كما لا يمكن التقدم خطوة واحدة باتجاهها دون البشر وتحولهم إلى رقم أساسي في المعادلة السياسية، وهذا غير ممكن دون المدخل الديمقراطي.
الديمقراطية اليوم عامل وقائي لسلامة الدولة والمجتمع، فهي مدخل أساسي لاستئصال شأفة العنف، الظاهر منه والكامن أيضا، ولإزالة حالة الاحتقان السلبي الرابضة في ثنايا المجتمع، ولقطع الطريق أمام اللحظات الانفجارية التي قد يأتي بها الجزء الصامت والمغيب لفترات طويلة في المجتمع.
لكل مجتمع طريقه الخاص في تجسيد الانتقال الديمقراطي ، إلا أن هذا الطريق هو حصيلة التفاعل بين المبادئ والقيم العامة للديمقراطية، وبين الشروط الخاصة بكل مجتمع، و هذا يعني ضرورة التوصل، عبر حوار جدي، إلى برنامج عمل ديمقراطي متناسب مع الظروف الخاصة بمجتمعنا واختيار الوسائل والآليات المناسبة لتحقيق هذا البرنامـــــج.
من هنا تأتي ضرورة بلورة خطاب سياسي يقوم على المزاوجة بين الفهم العميق والخلاق للمتغيرات الدولية، والتمسك بالمقابل بالمصالح الوطنية العليا، لذلك تسعى القوى والتعبيرات المتوافقة ليصب عملها على الدوام في خدمة القضايا الوطنية، وتنأى بنفسها عن تحول عملها ليخدم أعداء الوطن في أية لحظة من اللحظات، وفي المقابل تعتبر نفسها بعيدة عن الخضوع لأي ابتزاز تمارسه أية جهة سياسية تحت شعارات الوطنية المترافقة مع الاستبداد، التي تهدف على الدوام لتأجيل الاستحقاق الديمقراطي أو التي تستخدم كأداة لقمع الحريات.
إشكالية الداخل والخارج
لقد قاد العدوان الأمريكي على العراق والاستبداد المعشش في المنطقة العربية إلى بلبلة فكرية عميقة، لنصبح أمام خليط قابل للتفجر من المعرفة التقنية والتعصب الديني والخلط الفكري والتمزق السياسي في آن معا، بما يهدد المنطقة بأخطار داهمة حقيقية، وترافق ذلك مع استقطابات فكرية سياسية غير صحية ومعيقة لانطلاقة مشروع تغيير وطني ديمقراطي حقيقي، منها ذلك الانقسام الخطير والاستقطاب الحاد في معالجة إشكالية الداخل والخارج التي طرحت بحدة لا سابق لها في الآونة الأخيرة.
في ظل هذا الواقع المتردي والتشوه الثقافي الملازم له، من الضروري أن يحدث تبدل في السياسات والأولويات، وتغيير اتجاهات الحوار والنقاش، والخروج من هذا الاستقطاب غير الصحي والمعيق لنهضة المنطقة وانطلاقتها، من خلال بناء مشروع ديمقراطي واضح المعالم والآليات والوسائل.
إن البقاء في حالة الاستقطاب تلك، من شأنه، كما هو حاصل، أن يساهم في تغييب الحوار المثمر، وجعل حواراتنا هامشية وسطحية، ترتكز إلى الشعارات والكلمات والتصنيفات، ولا تدخل في العميق من القضايا والمسائل الشائكة والمعقدة.
السؤال المركزي المطروح على المعارضة هنا هو: كيف يمكن إعادة توحيد الحقل السياسي والمجتمعي والخروج من حالة التشظي والتمزيق الحادث بسبب هذا الحضور المكثف والواقعي للخارج في مجتمعاتنا ؟ شريطة أن يكون هذا التوحيد صحياَ، لا بالاستناد إلى دوافع مرضية بفعل الشعور بالخطر الذي يمثله الخارج، وأن ينطلق هذا التوحيد من الإيمان بوحدة التنوع كحالة صحية ؟.
الإجابة تتطلب جهوداَ وحوارات ضخمة وعميقة حول الفكر العربي والثقافة العربية، وهذه جميعها تحتاج إلى بيئة سياسية صحية ومناخ ديمقراطي من جهة، وتحتاج إلى وقت طويل من جهة ثانية. لكن ينبغي التأكيد على أن حل هذا الإشكال الفكري السياسي، في هذه اللحظة السياسية، لا بد أن يكون بأدوات السياسة وآلياتها بالدرجة الأولى، وليس من خلال الأيديولوجية التي لن يكون بإمكانها تقديم أي فائدة واقعية أو منتجة في خلق الحلول المناسبة.
هنا ينبغي على القوى السياسية المتباينة أن تتوافق على برنامج سياسي يستجيب للحظة الراهنة، و بما يحد أو يخفف من أثر الخارج وتأثيره في صياغة مستقبل أوطاننا على هواه، دون التخوف من حدوث تقاطع أو توافق بين هذا البرنامج مع ما يعلن عنه الخارج لأسباب تتعلق بمصالحه. أي لا بد من التوصل إلى برنامج حقيقي للتغيير الديمقراطي تتقاطع عنده أوسع القوى على اختلاف انتماءاتها الأيديولوجية، ووضع استراتيجيات عملية تفصيلية للسير في التغيير الديمقراطي، أي تحويل البرنامج المتفق عليه إلى خطوات سياسية تدريجية واضحة.
وفي سياق الخروج من حالة الاستقطاب المعيق، يصبح من الضروري بناء علاقة صحية مع الآخر، أي الخارج، خالية من عقد الخوف والنقص والإهانة والانجراح الحضاري، بالاستناد إلى أسس واضحة، أولها الثقة بالذات التي تستلزم التعامل الندي مع الآخر، وثانيها عدم الخضوع للابتزاز الذي تقوم به الأنظمة الاستبدادية في هذا الإطار، فالقوى الوطنية غير معنية بحل أزمات الأنظمة السياسية التي ذهبت إليها لوحدها دون مشاركة شعوبها والقوى السياسية في مجتمعاتها، وثالثها وضع أساس لتلك العلاقة هو المصالح الوطنية لدول المنطقة، ورابعها أن المعارضة غير معنية لا بالترحيب، ولا بالإدانة للضغوط الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية التي يقوم بها الخارج ضد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة والعناصر الفاسدة فيها، فما يحدث من توافق أو تنافر بين هذه الأنظمة لم يكن لشعوب المنطقة والقوى السياسية أي دور فيها، وخامسها الرفض الصريح لمبدأ التدخل العسكري لفرض أي تغيير من أي نوع، وسادسها التأكيد على أن أي حوار مع الخارج يعني أساسا التأثير في هذا الخارج من منطلق مصالحنا الوطنية، وسابعها الإقرار بأن الشعارات السياسية المنطلقة من العداء المطلق للخارج هي شعارات فاشلة، فالخارج دول ومؤسسات وهيئات دولية ومنظمات مجتمع مدني، فهذا الخطاب لا يطمئن النظام العالمي إزاء القوى السياسية الموجودة داخل دول المنطقة، وسيظل ينظر إليها بعين الشك والريبة. وثامنها لا بد لخطابنا السياسي أن يتسم بإتقانه لمنطق العصر والعالم، وأن يتوافق مع بديهياته الفكرية والسياسية والاقتصادية. وهذا يعني بالدرجة الأولى مخاطبته بلغة العصر، والتخلي عن الخطاب الذاتي الذي لا يفهمه إلا أصحابه، ولا يؤثر في الثقافات والسياسات العالمية أي تأثير، كما يعني فيما يعني الرفض الواضح للإرهاب والفعل الإجرامي أيا كان مصدره ومبرراته وأهدافه، وتاسعها التأكيد على الوقوف ضد عناصر الهيمنة بكافة مستوياتها العسكرية (الاحتلال) والاقتصادية، وغيرها، وعاشرها التأكيد على أهمية توسيع دائرة المجتمع المدني العالمي المندمج أو المرتبط بشبكات تتجاوز الدول والحدود، وأهمية مساهمة هذا المجتمع بقواه المحلية والعالمية على القيام بمقاومة سلمية ديمقراطية ضد عناصر الهيمنة والاستغلال والاستبداد في العالم أياَ كان مصدرها ومستواها.
أزمة هوية في بيئة غير صحية
عند كل أزمة أو عند الوصول إلى مفترق طرق، يعاد عادة طرح سؤال الهوية، وهو السؤال الذي يحكم وعي الجميع أفراداَ وقوى سياسية ومجتمعية. هل سوريا دولة قائمة بذاتها، أم إنها جزء من “الأمة العربية” أو “الأمة الإسلامية” ؟ هل نحن عرب ؟ هل نحن أكراد ؟ هل نحن مسيحيون ؟ ؟ ؟ ؟
البعض، من القوى سياسية والأفراد، قد يكون لديهم إجابات يقينية لسؤال الهوية، وقد تكون مشروعة وحقيقية، لكن على العموم سؤال الهوية هذا، لم يتح له للآن التواجد في بيئة صحية، وإجاباته مستقاة وحسب من الماضي والتاريخ والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل، إذ ينظر للهوية على الدوام على أساس أنها تكونت وانتهت، وبالتالي ليس من دور للقوى السياسية سوى النضال لتثبيت هذه الهويات وضمان حقوق أفرادها وجماعاتها، دون أن تطرح على نفسها إمكانية تطويرها وإغنائها.
هذه الآلية في التعاطي مع موضوع الهوية من جهة ذات طابع أيديولوجي، ومن جهة ثانية ترتكز في الغالب الأعم إلى هواجس الخوف وعدم الأمان، ومن البديهي القول أن هذه الآلية لا تنتج فهماَ سوياَ للهوية، وتؤدي في المستوى السياسي لنمو ذهنية “المحاصصة” المعيقة لبلورة ما هو عام وتوافقي ومشترك.
معظم الخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى السياسية في سوريا، بل ولجميع فئات الشعب السوري، قد نمت وتكونت في ظل بيئة استبدادية، ولم يتح لهذه الخيارات بعد التكون في بيئة صحية. لذا من الهام أن تتعامل القوى السياسية مع سؤال الهوية في هذه اللحظة السياسية بشيء من المرونة، وأن تترك فرصة للمستقبل لإعادة تكونها في ظل شروط وبيئة ديمقراطية. ما يحتاجه السوريون جميعاَ هو فسحة من الأمل والديمقراطية لإعادة تكوين قناعاتهم ورؤاهم، وإعادة بناء هوياتهم، التي هشمها وشوهها الاستبداد، من منطلق الدفاع عن حاضرهم ومستقبلهم وحاجاتهم الملموسة.
نحو إعادة توحيد المعارضة
من الجدير الاعتراف بأننا نمر اليوم في مرحلة حرجة قد يتوقف عليها مستقبل المعارضة السورية، خاصة في ظل أزمة الثقة الحاصلة، ونظنها تحتاج منا إلى إدراك وتفهم سريعين، يتبعهما تصرف حكيم و مدروس، مثلما تحتاج إلى نقد أنفسنا، على الأخص ما ظهر من قصورنا وطرائق عملنا البائسة خلال العام الأخير.
ثمة أزمة سياسية شاملة اليوم في سوريا. هذا الأمر لا يختلف عليه أحد في المعارضة. تحليل هذه الأزمة أيضاَ متفق عليه في العموم، وتوجد بعض الجزئيات المختلف عليها، لكن الأمر الذي يستدعي النقاش حقاَ اليوم هو أزمة المعارضة.
العامل الأساسي في أزمة المعارضة يكمن في غياب مركز أو ناظم للحركة السياسية المعارضة، وهذا يفسر إلى حد ما الإرباكات الحاصلة في مجمل الحركة السياسية والمدنية والحقوقية في سوريا. كان الأمل معقودا على تحول إعلان دمشق إلى مركز لثقل المعارضة أو الطيف المعارض، مع ذلك فما زال هذا الائتلاف هو المرشح الأكبر لهذا الأمر بحكم جملة أسباب وعوامل.
لعل أعظم وسيلة في الدفاع عن تاريخ المعارضة السورية وجهودها وتضحياتها ومعتقليها، تكمن في الحفاظ على المكاسب التي تجسدها وحدة المعارضة الديمقراطية، واحتواء الأزمة التي تعرضت لها، وتجاوزها للوقوف صفا واحدا أمام آلة القمع والاعتقال. وكما لا نكف نحن أنفسنا عن تذكير النظام بأن أساس الوحدة الوطنية احترام الاختلاف، تشكل كفالة حق الاختلاف والتعبير عن الرأي المخالف داخل المعارضة الضمان الرئيسي للحفاظ على وحدتها.
من الضروري اليوم، بالنسبة للقوى التي تعترض على الائتلاف أن تطرح على نفسها السؤال التالي: أيهما أجدى سياسياَ ووطنيا، الخروج من الائتلاف والذهاب نحو إطلاق مبادرات جديدة، على أهميتها، وبناء حركة جديدة من الصفر، أم الدفاع عن الائتلاف القائم ونجاحاته بالرغم من الاعتقالات المستمرة والضغوط، والسعي نحو إجراء التعديلات الممكنة بالتوافق مع القوى الأخرى، خاصة أنها، ساهمت هي بشكل أساسي في إطلاقه وبنائه ؟.
هذا الأمر يحتاج إلى إعمال العقل السياسي من جهة، ويحتاج إلى التأمل ملياَ في اللحظة السياسية الراهنة وتحديد أين تكمن المصلحة الوطنية بإنجاز التغيير الديمقراطي، وهذا باعتقادنا أهم من إصدار إعلانات أو توافقات موازية تثير من البلبلة أكثر مما تقدم من الفائدة.
فكرة تجميد العضوية، وإن كانت تعبر عن حق مشروع في الاحتجاج، إلا إنها غير سياسية، وتعني في المآل أن أصحاب التجميد يعتبرون أنفسهم ضيوفا على ائتلاف إعلان دمشق، وكأنهم لم يكونوا من صناع الإعلان وراسمي خطواته ونقلاته. إن الدفاع عن استمرار الائتلاف هو دفاع عن كل أطرافه المشاركين، أفرادا وقوى سياسية، كما أن الدفاع عن قوى الائتلاف هو دفاع عن الائتلاف ذاته.
إن توحيد المعارضة الوطنية على أسس ديمقراطية يفترض ضرورة تطوير آليات العمل، من خلال إطار سياسي واسع ومرن، وابتكار الصيغ التنظيمية الملائمة لطبيعة المرحلة، والكفيلة بغرس المعارضة في الواقع و تحولها لإحدى القوى المؤثرة فيه. هنا تأتي أهمية الدفع باتجاه عقد لقاءات حوارية تحضيرية نقوم فيها معا بإعادة قراءة مسيرة الإعلان ولحظاته، والنتائج مفتوحة على احتمالات عديدة، لكن المهم أن نفكر معا ونعمل معا.
إن المرحلة صعبة ودقيقة وما ننجزه خلال هذه الفترة الحرجة عبر الحوار الهادئ والصبور، سوف يثبت ويستقر على الأرض، ويصبح إحدى معطيات الواقع السياسي في سورية، فالوقت لا يعمل إلا لصالح من يستغلونه بشكل إيجابي وفعال، وإلا فإن جهود المعارضة وتراكماتها في العمل السياسي عرضة للضياع.
نشرة الموقف الديمقراطي الصادرة عن ( تود) سوريا ـ العدد 108 نيسان 2008