بطالة المثقف العربي!
خيري منصور
لا نحتاج الى اعادة تعريف البطالة كي تستقيم دلالتها مع هذا السياق، فهي رغم الاحتكار الاقتصادي تاريخية بعدة امتيازات، ولها تجليات ثقافية يقدم الواقع العربي الراهن نموذجا لها، وقد يظن البعض ان مهمة المثقف تنتهي عند انجاز نصوصه او منتجه المعرفي ثم يعود الى قاعدته سالما، والمثقف الذي تكرس الندوات الموسمية لتحديد دوره، نادرا ما يفطن هؤلاء الى ان دوره مسروق منذ الولادةِ، كمواطن اولا وكمثقف ثانيا، لأن هناك من يتصورون بأنهم ينوبون عنه في التفكير والحلم، ولا ينوب عنهم الا بالألم والنفي وأخيرا الموت .
والواقع العربي اليوم سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في حالة من الاستنقاع والخمول رغم وجود كل العوامل الموضوعية المحرّضة على الحراك الفاعل، وهو واقع يشهد تحالفا غاشما بين التسلّط المحلي والاحتلال والارتهان وشلل الارادة، مما يلزم النّخب بأدوار استثنائية ومضاعفة، لكن المفارقة هي في هذا الطلاق بين الثقافة ومجمل مفاعيلها، فما يراد لها وللمشتغلين بها هو الاكتفاء بالكتابة المعقّمة الصالحة للنشر، تماما كذلك الرسم الكاريكاتوري الذي صوّر مواطنا مثاليا وقد تدلت ملاقط الغسيل من عينيه وأنفه وأذنيه وفمه، بحيث اصبح بالفعل صالحا للنشر تحت الشمس وعلى اسطح المنازل على مرآى من الملأ . ان هناك ارتباطا عضويا بين بطالة المثقف والحالات المزمنة التي يحظر فيها تداول السلطة، في مجتمعات باترياركية، تحول منطق الوصاية الى ايديولوجيا مقدسة وترى في بلوغ الفطام والرشد عصيانا وعقوقا، وقبل اكثر من ثلاثة عقود لم يكن المثقف العربي عاطلا عن دوره التاريخي، لهذا سجن وعوقب ونفي، وكانت المنابر الثقافية على ندرتها وبدائية التقنية الطباعية التي تصدر بها أرشق من هذه الفضائيات وهي تنشر النبأ، لأن الفعل هو مجال الرّغبة، وليس فقط وليد التطور التكنولوجي، خصوصا في مجتمعات كرست التكنولوجيا لأغراض رعوية وثبت من خلالها الخرافة وثقافة النميمة والاستعداء، ولم يكن العالم العربي قبل أربعة عقود يتمتع بهذا العدد من الجامعيين والاكاديميات والفضائيات ووسائل الاتصال السريع، لكن الانتلجنسيا العربية على تفاوت مستوياتها وحيثياتها بين بلد وآخر كانت لا تزال تؤمن بأن لها دورا في صياغة الرأي العام وبالتالي المستقبل الذي يعول عليها كاعتذار قادم عن راهن موبوء !
وما نشر من روايات ودراسات في الستينات من القرن الماضي يحظر نشر بعضه الان، ويهدر دم مؤلفين اقترفوا جريمة التفكير والاجتهاد . وحين عوملت قضية د. صادق العظم بعد صدور كتابه ‘نقد الفكر الديني’ كأمثولة، سرعان ما تحولت الى مجرد مثال متكرر، لأن التقدم العلمي استخدم كالعادة على نحو معكوس، وتبعا لدينامية عربية تستحق براءة اختراع تتلخص في تحويل النعمة الى نقمة، ورغم ان الواقع العربي ازداد استنقاعا وفسد فيه حتى الملح، الا ان الثقافة ارتدت طاقية الاخفاء، وثمة مثقفون نافسوا الجنرالات ووزراء الداخلية في لعب دور العسس والتلصص على نصوص تهمتها انها غير داجنة وغير لاحمة وملغومة بما يقبل التقويل اكثر من التأويل، وأصبح هاجس المثقف هو تحقيق اكبر قدر من حرية التنقل بين العواصم والمهرجانات، وهذا يتطلب منه احد أمرين أو كليهما… الأول هو ان يكون مجرد قطعة غيار مصنعة لكي تحل مكان سابقتها، والثاني ان يكون فاقد الطعم واللون لكن بخلاف الماء لأن لهذا المثقف رائحة تفضحه وتسبقه واحيانا تدل عليه ! وما بدأ على استحياء من حذف السياسة والتعالي عن المواقف انتهى الى زهو وإفراط في التصريح العلني، وثمة شعراء عرب يفخرون بأنهم لا يتابعون الأخبار السياسية ولا يعبأون بما يجري تحت اقدامهم وفوق رؤوسهم لأنهم مخلصون للابداع فقط، لكن فلسفة النعامة هذه غالبا ما انتهت الى ان تنغرز السهام كلها في مؤخرتها التي تحولت الى هدف فوق الرمل !
وينسى هؤلاء المستقيلون من دورهم ان للسياسة دورا في عدد السعرات الحرارية اللازمة لهم ولأطفالهم، ولعدد غرامات البروتين التي تحدد نشاط دورتهم الدموية، لأن فهمهم للسياسة قاصر ويتجاوزه فهم السخاوي وابن خلدون وسائر الاسلاف الذين كانوا اقل ادعاءً للمعرفة لكنهم اكثر انتاجا لها ! ويغيب ايضا عن هؤلاء ان السوريالي والدادائي والداندي والعدمي اضافوا البنادق الى اقلامهم عندما تعرضت بلدانهم للاحتلال كما حدث في فرنسا اثناء الاحتلال النازي، وقد يكون من حق المثقف ان يعرف البطالة بأنها مجرد الاقلاع عن الكتابة، لكنها ابعد من ذلك بكثير، فالمثقفون المهمشون الذين لا دور لهم في الحياة العامة يتحولون بمرور الوقت الى حمولة من الاسفنج، لكن الاسفنج عندما يغرق في الدم يصبح أثقل حتى من الملح والحجارةِ، وتلك حكاية عرفناها في صبانا لكن من علّمونا الحكايات نزعوا منها الفتيل وجعلوها مجرد تنويمات للبالغين !!
بطالة المثقف العربي الان ليست سياسية فقط، فهي اجتماعية ايضا، لأنه يعيش على هامش الحراك الاجتماعي، ويتوهم بأنه خارج المدار الطبقي، رغم انه فريسة هذا المدار وبقدر ما تكون راديكاليته صاخبة نظريا تكون ذرائعيته الصامتة اشد صخبا لكن في مواقف غير معلنة وغير مرصودة، وقد يبدو هذا التوصيف قاسيا لأنه يتعلق بشريحة قال الاسلاف ان مهنة الكتابة ادركتها وقطعت عليها السبل، لكن ما فعله المثقفون بأنفسهم قد يكون أضعاف ما فعله بهم الآخرون سواء كانوا من السلطة السياسية او من السلطة الاجتماعية التي تحول اعرافها الى نواميس وأحيانا تستمرىء الضحية ما يلحق بها، وتتأقلم مع الأمر الواقع، وتخلد الى الراحة، لكنها عندئذ تكون قد حرمت نفسها من آخر حق طبيعي لها وهو الأنين، والتعبير عن رفض الواقع، ولا يعدم الراصد شيئا من هذه الماسوشية لدى مثقفين لا يكفون عن الشكوى بسبب الفقر او الحصار لكنهم لا يذهبون الى ما هو أبعد من ذلك، رغم ان معرفتهم للسبب ستبطل حتما العجب واشاراته العديدة في كل ما يصدر عنهم !
اعرف ان التعميم قدر تعلقه بالمثقفين لا بد ان يكون حائرا، فأبسط البدهيات تبعا لغرامشي على الأقل هي انهم فئات وبالتالي ألسنة تعبّر عن طبقات ومصالح، لكن الواقع العربي بما آل اليه من فوضى وحالة عمى خلط الحابل بالنابل، والممتلىء جدا بالفارغ جدا حيث لا يصدر صوت عن الإثنين، الاول بسبب امتلائه واكتفائه، والثاني بسبب خوائه، ولأن المثقف العربي لاسباب موضوعية ذات صلة بالعزوف عن القراءة يفتقر الى قاعدة تقوى على حمله وتدافع عنه، اصابه الاحباط وربما الزهد السّلبي فانسحب، فإن هناك من شغلوا الحيّز او الفراغ على الفور، وهذا قانون تاريخي ووجودي وسياسي بقدر ما هو فيزيائي لأن الطبيعة لا تطيق الفراغ وكذلك التاريخ .
بدائل المثقف الان مرئيون بالعين المجردة، وأصواتهم عالية كالطبول لهذا يحتجب صوت الناي ويوشك البقر كله ان يصبح أسود في هذا الليل الحالك المديد ! ولم يحدث من قبل ان تزامن الانحسار والتقهقر بين ايديولوجيتين متعارضتين كما حدث في هذا الوقت الرمادي، فالماركسية والقومية اللتان افترقتا طويلا، كان القاسم المشترك الوحيد بينهما في أيامنا هذه هو الفراغ والتفكيك السريع، ونزع الفاعلية مما أتاح للفكر السلفي ان يتقدم ليملأ الفراغ !
ان سلبية المثقف العربي الآن تأتي نتيجة احساسه بالهلع، فهو محاصر بين طاغيتين أحدهما رسمي يحتكر شرعية العقاب والآخر شعبي يلوذ بالمطلقات والمجردات ويغلق الابواب والنوافذ أمام الريح كي يستريح وفق الموعظة الموروثة !
لقد كتب مثقف فرنسي في ستينات القرن الماضي ان واحدا من أهم اهداف الثورة هو الدفاع عن حق الانسان في الكسل، وسخر منه آخر فأضاف كي يجد الوقت الكافي لقراءة ‘الاخوة كروموزوف’ و’الحرب والسلام’ و’البحث عن الزمن الضائع’ !
وهذه ليست عودة الى جمهورية افلاطون وحق الفلاسفة في الفراغ كي يواصلوا التأمل، بل هي وقفة للتساؤل عما تحقق من شعارات المتوالية الثورية او الانقلابية بمعنى أدق، والسؤال لا بد ان يندفع الى أقصى المساءلة، ونحن نحصي خسائر الانسان في العقود الأربعة الماضية، وما تعرض له من انتهاك وتسليع فهو معروض في مزادات سرية وأخرى علنية، ومن حلموا بالمدن الفاضلة وجدوا انفسهم منفيين كالشاعر اوفيد في مدينة راذلة، تذكرنا بالثور النحاسي الذي تخيله فالاريس عندما تصور ان هناك طاغية يتلذذ بصراخ الشعراء المسجونين في جوف ثور نحاسي عملاق تحت شمس حارقة ….
ان من لم يدقوا الخزان او ثور فالاريس سواء في رواية الشهيد كنفاني او رمزية فالاريس هم اكثر عددا باضعاف من شخوص الرواية لهذا فقد المثقف هيبته، ورسب في اختبار السلطة، سواء كانت سياسية او اجتماعية من خلال منظومة الاعراف المسلحة، والاستثناءات منهم من اعتذر ومنهم من مضغ لسانه وصمت، لهذا اصبحت ثقافة برمتها ورميمها وقضّها وقضيضها تنهمك في سجالات تأويلية لمواقف اخلاقية، وبدلا من ان تهتدي الضحية الى مصدر ألمها وجلادها أصبحت تعضّ توأمها، اما القلاع المتبقية الآن فهي لمؤسسات اعلامية أقرب الى الاعلانية وعلى من يعلن العصيان ان يحتمل العقاب، بحيث يتحول الى عنزة سوداء في القطيع الأبيض او الى بعير أجرب !
هذه القطيعة المتعاظمة، والمتفاقمة بين المثقف وسياقه الاجتماعي سوف تفرز المزيد من البطالة، وعدوى الباترياركية السياسية انتقلت بلا مصدات او أمصال ولقاحات الى الثقافة، وعدم تداول السلطة سياسيا يعادله الان عدم تداول السلطة الثقافية ايضا، انها عودة خائبة الى فلسفة التوثين، وأدبيات الرّعاية بمعناها الاشتقاقي الجذري .
ولا أظن ان هناك مثقفا اصيلا واحدا في عالمنا العربي لا تؤرقه هذه البطالة، فهو يستشعرها عندما يصغي لنشرة أخبار او يقرأ مانشيتات الصحف الداجنة، لأنه يدرك بأن غيابه الفعلي لن يعوّضه حضوره الرمزي، ذلك لأن التعامل السلطوي والأبوي مع الثقافة يفرغها من شحنتها ويسعى الى ترميزها، بحيث تصبح صورة شخص ميت معلّقة على جدار !
شاعر وكاتب من الاردن
القدس العربي