صفحات ثقافية

مجلات الشعر الخاصة بين الصعود والهبوط: قلة حيلة أم قلة تمويل..؟!

null
محمود قرني
القاهرة ـ ‘القدس العربي’ ليس لدي تفسير جازم للحال التي أصابت الشعر في العقود الثلاثة الماضية، ربما كان غيري يملك أجوبة أكثر إقناعا من تلك الأسباب التي تتناثر هنا وهناك حول مقولات شاعت حتى فقدت صدقها وبريقها، مثل مقولة ‘زمن الرواية’، ‘زمن السرد’، ‘عصر الصورة’ وما شاكل ذلك من قراءات وتفسيرات، أقرب إلى أحاديث العمات والجدات في ليالي السمر، ولا أتصور صدور المجلات المكرسة للشعر في العقود الماضية ببعيد عن محاولة وضع إجابات اكثر نجاعة لمثل هذه الأسئلة التي يزداد التباسها يوما بعد يوم، بعكس ما كان متوقعا، والصورة الغائمة التي تتناقلها أدبيات النقد الشعري بين القول بالأزمة وبين نفيها، ما هي إلا نتاج طبيعي لذلك التشوش الذي بدا محصولا طبيعيا لتناقضات مشروع الحداثة في بعديه السياسي والثقافي، في مجتمعات ريعية وأنظمة أبوية بدأت ثورية وانتهت الى نموذج ‘ما قبل الدولة’.
والمجلة، سواء كانت مكرسة للشعر أو لغيره، في صيغتها ‘الأهلية’، ما هي إلا بيان يسعى لتجديد الرؤى واستقصاء النظرية، أو هكذا تحاول البيانات التأسيسية التي صادفتنا في السنوات الماضية، هكذا فعلت مجلة ‘شعر’ البيروتية، صاحبة البيان الأكثر راديكالية من الزاوية الجمالية، كذلك وعدتنا بيانات ‘الكتابة السوداء’، و’إضاءة 77’ ثم ‘الكتابة الأخرى’، و’الجراد’ و’تكوين 2000’، و’إيقاعات’ و’خماسين’ ومجلة ‘شعر’، وإن لم تكن كل هذه المجلات مكرسة للشعر، إلا أنها لعبت أدوارا مؤثرة بحق وبأكثر من معنى، مثل مجلة الكتابة الأخرى التي قدمت حياة زخمة بالشعر الجديد بكل تياراته بداية من جيل السبعينيات وحتى آخر الشعراء الذين كتبوا حتى توقف المجلة عن الصدور قبل عدة أعوام.
وفي مصر، على نحو خاص، كانت المجلات الأدبية في فترات صعودها، ردا استثنائيا على تآكل دور المؤسسة الرسمية، وتلاشيه بأشكال مختلفة، فقد تنامت ظاهرة مجلات الماستر في حقبة السبعينيات ردا على تخلي المؤسسة الرسمية عن تبني خطاب ثقافي يؤازر روح جيل حزيران (يونيو) المهزوم، وبدا انتقال دفة السلطة من أقصى اليسار الى اقصى اليمين سمة تميز الحقبة الساداتية وما تلاها، حيث تعاملت مع الثقافة كنمط من أنماط الاستهلاك.
وقد كان إغلاق مجلات وزارة الثقافة واستبدالها بعدة مجلات هزيلة مثل الثقافة ‘عبدالعزيز الدسوقي’ و’الجديد’ ‘رشاد رشدي’ إيذاناً بشيوع ظاهرة ‘الماستر’ في إطار ما يمكن تسميته بنهوض الأشكال المستقلة في العمل العام، الذي كان يتحلى بأخلاق الحقبة السياسية الموروثة في التخندق والديماغوجية والتخوين وإضفاء قيمة ثورية طاغية على عمل أدبي هو في جوهره لم يتجاوز النطاقات الإقليمية التي ولد في رحمها، فقد خلق الحصار السياسي والأمني أوهاما شتى لدى المثقفين والنخب التي تتحرك في الفلك نفسه، طيلة حقبة المد الثوري الذي ظل زخمه حاضرا حتى نهاية حقبة السبعينيات ومطالع حقبة الثمانينيات.
ففي السياق العام الذي أذكى الصراعات الاجتماعية ذات البعد الطبقي انهارت الطبقة المنتجة للثقافة انهيارا أوشك على الاكتمال، وقد أشار محمود أمين العالم ذات مرة الى أن كارثة انهيار تلك الطبقة لا تعني فقط سقوط سلطة البروليتاريا بطبيعة الحال، ولكنه يعني سقوط الثقافة كلية، فهذه الطبقة هي منتجتها وهي في الوقت نفسه المستهلكة، وقد ثبت إحصائيا أن استهلاك طبقات الاثرياء لا يتعدى خمسة بالمئة، وتظل طبقة الفلاحين وغالبية الحرفيين أبعد عن هذه الفضاءات بحكم أوضاعهم التعليمية والاقتصادية على مستوى آخر فإن انتاج الثقافة في أوساط الأثرياء لا يعني شيئا لأن هذه الطبقة تتحقق عبر وسائط أكثر وجاهة يميزها رغد العيش وصدارة المشهد الاجتماعي وجلسات الصالونات.
وحسب هذه القراءة فإن الشعر يكون قد فقد جمهوره العام مرتين: الأولى في الرهان على مستوى النموذج الشعري الشعبي الذي كان يخاطب ما أسمته ثورة تموز/يوليو ‘قوى الشعب العامل’، والثانية في الرهان على القارئ الصفوي والنخبوي الذي تمثله الطليعة الجامعية وقطاع كبير من المتعلمين والمهنيين وخاصة القراء النوعيين ومنتجي الشعر أنفسهم.
ولا أتصور التعسف الشكلاني الذي عايشته الشعرية العربية في حقبها القريبة وإسقاطها قيمة الفعل القرائي ومن ثم سلطة القارئ، سوى تأكيد على تمام القطيعة بين طرفي المعادلة.
في هذه الأجواء كانت المجلات التي نذرت دورها للشعر، منذورة هي الأخرى لقدر صعب على مستويات عدة:
فهي على مستوى توزيعها تعاني أشد المعاناة من الوصول لقارئها الذي سحقته الأنظمة السياسية والاجتماعية القاسية، وهي وإن كانت تملك حرية الصدور دون رقابة وحرية التوزيع أيضا، إلا أن التربة التي كانت مقدرة لكي تتلقى هذه البذرة فسدت بالفعل، وعلى مستويات الوعي الذاتي بالدور الجمالي، وهو الدور الأهم، لا يمكن الإشارة بجدية سوى لعدد قليل من تلك المجلات التي كانت تطمح لتأسيس خطوة فارقة في السياق الإبداعي.
من هنا أقول إن مجلتين هنا يمكن الإشارة اليهما بتقدير وافر أولاهما ـ كما سبقت الإشارة ـ مجلة ‘الكتابة الأخرى’ التي أنجزها الشاعر هشام قشطة مع بعض أصدقاء جيله وبعض كبار مثقفي جيل السبعينيات، مثل الفنان عادل السيول، والمترجم والكاتب أحمد حسان والشاعر والمترجم بشير السباعي، والشاعر عبدالمنعم رمضان، وقشطة نفسه كثيرا ما ذكر دور هؤلاء بالكثير من التقدير.
وأعتقد أن نجاح ‘الكتابة الأخرى’ جاء من موقفها الجمالي المنحاز كلية للشعرية الجديدة التي تشكلت لدى جيلي الثمانينيات والتسعينيات ومن تلاهما، فلم يفتر هذا الانحياز على مدار ثلاثة وعشرين عددا هي أعداد المجلة حتى توقفها، وعلى مستوى آخر نجحت المجلة في ترسيخ مناخ واسع من التنوع أمام تطوحات مختلفة داخل إطار الشعرية الجديدة التي مثلتها قصيدة النثر، التي شهدت مفاهيمها تفاوتا واسعا بين الأجيال المختلفة.
أما المجلة الثانية فهي مجلة ‘الجراد’ التي كانت مكرسة كلية للشعر وهي المجلة التي أسسها الشاعر أحمد طه ولم تصدر سوى عددين اثنين ولا اذكر إذا كان العدد الثالث منها قد صدر أم لا.
كان امتياز مجلة ‘الجراد’ هو ذاته امتياز الكتابة الأخرى، أي انحيازها الكامل للشعرية الجديدة، ورغم الصراع الذي كان يدفع به أحمد طه إلى أقصى مداه مع الكتابة الأخرى إلا أن ‘الجراد’ و’الكتابة الأخرى’ كلتيهما نهضتا بتقديم الشعرية الجديدة في إطار اجتهادات نقدية قليلة وشاحبة، وربما لم تتبلور تلك الاجتهادات حتى الآن، وهو أمر لا يمكن مساءلتهما عليه.
وأتصور أن ما كان أحمد طه يتصوره صراعا بين المجلتين أنتج حالة من الثراء في المشهد الشعري، فقد كان طه ينطلق من أن الكتابة الأخرى يقف خلفها شعراء جيل الثمانينيات وأن مجلته تكرس لجيل آخر هو جيل التسعينيات، وأظن أن التجربة اثبتت أن الفروق التي صنعت الصراع لم تسفر عن خلافات جوهرية، وإن أشارت إلى شعريات مختلفة متجاورة خلفت وراءها بعض الشعراء الفاعلين من كلا الفريقين، هؤلاء الذين استمروا في مراكمة مشروعهم الشعري، وفي الإجمال تشكل المشهد من شعراء يمثلون مختلف الأجيال الشعرية.
والتساؤل الجوهري الذي يتبعنا هو لماذا كانت ‘الجراد’ و’الكتابة الأخرى’ الأكثر تأثيرا؟!.
ليس ثمة إجابات قاطعة، لكن المؤكد أن تصورا جذريا للفن كان يحكم التوجه العام للمجلتين، هذا التصور لا أراه ينفصل عن الموقف الأيديولوجي في جانبيه السياسي والاجتماعي، ولا أقول ذلك من واقع المرجعية السياسية اليسارية التي أتى منها كل من قشطة وطه، وإن كان ذلك سببا جوهريا، بل لأن الموقف السياسي نفسه بما ينطوي عليه من راديكالية يبدو مؤثرا أبلغ التأثير في الإنشاء الجمالي الذي حكم تصورهما للفن، فقناعتهما بثورية الفن وانقلابيته ورفضه المطلق للتكيف، وتتبع الألم الإنساني والسخرية المرة منه، والدفع باتجاه مجاوزة القار والمستتب، كلها قناعات لا يمكن فصلها عن الوعي السياسي لطه وقشطة ومن آزر فكرتيهما، من هنا لا يمكن ربط مصير مثل هذه المشاريع بســـوء التــــوزيع أو قلة الموارد المالية أو عداءات الواقع السافرة لفكرة التجديد ذاتها.
ورغم نبل الأشخاص والأفكار الذين وقفوا خلف مجلات أخرى مثيلة إلا أن سوء حظها جعلها أقل تأثيرا، وربما أقول سوء الحظ من باب التأدب الذي يمنعني من تداول أفكار تبدو ناقصة لديَّ عن مجلات مثل ‘شعر’ التي أصدرها الشاعر كريم عبدالسلام لعددين متصلين، و’تكوين 2000′ التي أصدرها الشاعر سامي الغباشي، و’خماسين’ التي أصدرها ستة من أدباء وشعراء الإسكندرية هم محمد عبدالرحيم، محمد المدني، ايهاب عبدالحميد، حمدي زيدان، أحمد عبدالجبار، وماهر شريف، و’الجنوبي’ التي أصدرها الدكتور عبدالحميد إبراهيم، و’إيقاعات’ التي أصدرها الشاعر عبدالله السمطي.
وبالطبع لا يمكننا نسيان مجلة ‘الأربعائيون’ التي كان يصدرها الشاعر الراحل عبدالعظيم ناجي وبعض شعراء الإسكندرية ناصر فرغلي، ومهاب نصر، وعلاء خالد، ويبدو أن المشكلة الوحيدة لتلك المجلة المهمة أنها ولدت خارج المركزية البغيضة للعاصمة، لكنها ستظل ذات تأثير مهم إلى جوار ‘الكتابة الأخرى’ و’الجراد’.
وأخيرا يظل السؤال عصيا بالنسبة لمجلة أحدث هي ‘مقدمة’ التي أتشرف بإصدارها مع الشعراء عاطف عبدالعزيز، غادة نبيل، سامر أبو هواش، ومحمد فؤاد، بينما لم يصدر سوى عددها الأول حتى الآن.
فما تبادر إلى ذهن بعض المتابعين هو ماهية الدور الذي يمكن أن تلعبه مجلة تقول إنها ‘تعنى بقصيدة النثر العربية’ في لحظة يبدو فيها المشهد الشعري العربي، قد تشكل على نحو شبه نهائي.
ومن ناحية لا أتصور هذا الاعتقاد سوى على أنه يسعى لتكريس نجوم جدد يسعون لتكريس نجوم جدد يسعون بدورهم لوراثة الكراسي الفضفاضة للشاعر القومي صاحب الصوت المجلجل، وهو تصور ناتج عن قناعة بأسبقية ترتيب المشهد قبل صدور المجلة، وهي في الإجمال ملاحظة أراها شكلية ولا تتمحور حول المعنى الدقيق والجنيني لقصيدة النثر.
فمن ناحية موضوعية لا أحد يستطيع الجزم بان تلك القصيدة دخلت فضاء الاستهلاك العام، أو أنها باتت جزءا من الذائقة العامة. كذلك فإن القصيدة نفسها لا زالت تنطوي على الكثير من المواصفات الشائعة وتخضع خضوعا شبه كامل لتأثيراتها، كذلك ثمة تجاهل للتمايزات التي تطرحها التجارب المتماسكة داخل إطارها، وربما لم يهتد النقد الى ملامح عامة يمكن من خلالها ولو نسبيا تحديد الإطار الذي يمكن من خلاله تمييز الشعر عن غيره وسط ضجيج من الانفلات غير المحسوب.
لذلك فقد راعت المجلة في بيانها التأسيسي رصد بعض أوجه التنوع الذي يصل حدود التناقض، ورصدت في هذا السياق تبلور عدد من الملامح أولها: عدم ارتباط الشعرية الجديدة، في أكثر من وجه ولدى أكثر من شاعر مؤثر، بالثقافة الأوروأمريكية، ومن ثم لا يمكن تصنيف الكثير من هؤلاء الشعراء ضمن تيارات الشعراء الليبراليين الذين ارتبطـــوا باليمين الأوروأمريكي، بعكس تلك الصورة التي ترسخــــت في الذهنية العربية منذ مجلة ‘حوار’ وارتباط رعيل كبير من شعراء الريادة في قصيدة النثر بالحزب القومي السوري وثانيـــها:خروج النص الجديد على الوعي الرسولي ولغتـــه المتفجــــعة، التي تبدت في النصوص الريادية الأولى، وصار الحس الدراماتيكي والهزلي في إطار مفهوم الراهنية من أهم تلك التمايزات التي أقصت فكرة القداسة، بما فيها روشتة سوزان برنار وما انبنى عليها من بيانات، وثالثها: عودة النص الجديد الى مفهوم أكثر مرونة وتواضعا للوظيفة الشعرية بإعادة الاعتبار لدور التلقي، ورابعا وأخيرا التأكيد على أن الحلم بالتحالف بين الشاعر والسلطة ذهب بلا رجعة لأن ذلك يعني تخلي الشعر عن حلمه الإنساني المطلق بالحرية.
وفي الإجمالي، ومن واقع الوعي المحدود الذي تشكل لديَّ بخبرة سنوات ليست عريضة أقول: إن المجلة ستظل لسان حال السياسي المجهض داخل الشاعر، فهي عمل أيديولوجي وشعاري شئنا ذلك أم أبيناه، لذلك يظل دور المجلة مرتبطا بتصورها الثوري والطليعي الجذري ضد المستقر من ثوابت، أعني وعيها في اختيار خصومها، وأدواتها في حروبها النبيلة، واستشرافها دورا في الحراك العام، هذا هو ما يصنع من المجلة بطلا من أبطال الظل، لذلك لا أستمع عادة لمن يقول إن المجلة، أي مجلة، توقفت لنضوب مواردها، مواردنا دائما ناضبة.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى