حمائم بيت القباني
صبحي حديدي
احتفاء باليوم العالمي للمسرح، الـ 27 من آذار (مارس)، شاء نفر من المثقفين السوريين السير بالشموع إلى بيت المسرحي والموسيقي السوري الرائد الشيخ أحمد أبي خليل القباني (1836 ـ 1904؟)، الواقع في منطقة المزّة ـ كيوان، أعلى ذروة جبلية تطلّ على العاصمة السورية دمشق. وفي سنة 2007 كانت وزارة السياحة، بالتعاون مع وزارة الثقافة و’جمعية أصدقاء دمشق’، قد عهدت إلى الجهة التي سترمم البيت باستثماره سياحياً، وهو المشروع الذي لا يلوح أنّ الخطوة الأولى في تنفيذه قد بدأت. وبهذا المعنى، ولأنّ سلسلة معجزات كانت هي وحدها التي حفظت بقاء البيت ـ وإنْ في هيئة أقرب إلى الأطلال الدارسة ـ بعيداً عن جشع تجّار العقارات واحتمالات الهدم أو الإستيلاء العشوائي، فإنّ مسيرة الشموع تلك كانت ذات طابع احتجاجي بيّن، صامت بالطبع، ولكنه ناطق على النحو الوحيد المتاح في سورية الراهنة، حيث تنعدم الحدود الدنيا من حقوق التعبير والاعتراض والتظاهر.
ومن الفاضح أنّ الجهات الحكومية المختصة تأخرت كلّ هذه العقود في تكريم بيت الرائد الكبير، ليس في جانب الترميم فحسب، بل في ضرورة تحويله إلى متحف يضمّ إرث القباني ومفردات الحقبة التي عاش فيها وصنع الكثير من ذاكرتها الثقافية، مسرحاً وغناء وتلحيناً وإحياء تراث وتربية جمالية… ومن الفاضح أكثر أنّ تلك الجهات وقد وصلت متأخرة، وهذا خير من عدم وصولها البتة، تتلكأ في اتخاذ الإجراء الإداري الأوّل الذي سيطلق مشروع الترميم، بل هي تراوح في المكان، رامية الملفّ فوق واحد من رفوف الإهمال الكثيرة، عرضة لأتربة البيروقراطية وغبار النسيان.
وليس أفضل من قبّاني آخر كبير، راحل بدوره، في تصوير ريادة أبي خليل، ومحنته. كتب نزار قباني، الذي كان الشيخ عمّ والدته وشقيق جدّه لأبيه: ‘قليلون يعرفون أنه هزّ مملكة، وهزّ باب (الباب العالي)، وهزّ مفاصل الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر. أعجوبة كان هذا الرجل. تصوّروا إنساناً أراد أن يحوّل خانات دمشق التي كانت تزرب فيها الدواب إلى مسارح، ويجعل من دمشق المحافظة، التقية، الورعة، (برودواي) ثانية. وفي غياب العنصر النسائي اضطرّ الشيخ إلى إلباس الصبية ملابس النساء، وإسناد الأدوار النسائية إليهم، تماماً مثلما فعل شكسبير في العصر الفيكتوري (…) وطار صواب دمشق، وأصيب مشايخها ورجال الدين فيها بانهيار عصبي، فقاوموا بكل ما يملكون من وسائل، وسلطوا الرعاع عليه ليشتموه في غدوه ورواحه، وهجوه بأقذر الشعر، ولكنه ظلّ صامداً، وظلت مسرحياته تعرض في خانات دمشق، ويقبل عليها الجمهور الباحث عن الفنّ النظيف’.
ومن المفارقة أنّ والي دمشق مدحت باشا، طبقاً لرواية الباحث الموسيقي جبرائيل سعادة وآخرين، كان هو الذي شجّع القباني على متابعة أنشطته التمثيلية، وأوعز إلى البلدية لمنحه 900 ليرة عثمانية لإقامة مسرح خاصّ به (أنشأه، بالفعل، في حيّ باب توما)؛ وكان والي دمشق التالي، حمدي باشا، هو الذي أغلق مسرح القباني، ومنعه من التمثيل، وتغاضى عن عمليات التنكيل التي نظمها بعض المشايخ ضدّه. ذلك لأنّ مسرحيات القباني، وخاصة ‘أبو الحسن المغفل’، أخذت تزعج هؤلاء، فسافر الشيخ سعيد الغبرا إلى الأستانة، واختار موعد صلاة الجمعة ليهتف بالسلطان عبد الحميد الثاني: ‘أدركنا يا أمير المؤمنين، فإنّ الفسق والفجور قد تفشيا في الشام، فهُتكت الأعراض وماتت الفضيلة ووئد الشرف واختلطت النساء بالرجال’. ولم يكن عجيباً أن يأمر السلطان واليه في دمشق كي يقوم باللازم!
وهكذا أحرق الغلاة المسرح، وحاصروا منزل القباني، فغادر إلى مصر سنة 1884، ليس طلباً للنجاة، بل لكي يواصل مسرحه هناك، حيث بقي منفياً حتى سنة 1900. ولقد عمل في الإسكندرية أوّلاً، ثمّ في القاهرة، وجال في المنصورة والمنيا والفيوم وطنطا وبني سويف، وثمة مَن يحصي له 150 حفلة مسرحية، كما كانت جماهيرية عروضه قد دفعت عبده الحامولي ومحمد عثمان إلى تقديم بعض ألحانهما اثناء الإستراحة بين الفصول. ومن مصر سافر القباني إلى شيكاغو، في الولايات المتحدة، لتقديم ثلاث مسرحيات غنائية، ‘هارون الرشيد’ و’عنترة بن شداد’ و’عرس دمشقي’، فأكد مجدداً أنه أحد كبار روّاد المسرح الغنائي، الذي سيجتذب فيما بعد أمثال سلامة حجازي وسيد درويش. وفي مصر أيضاً، ورغم ما كانت تتمتع به من هامش تسامح في ميادين الفنون، تعرّض مسرح القباني لحريق مدبّر، عاد بعده الشيخ إلى دمشق، منكسراً ويائساً ومتعباً أكثر من أيّ وقت مضى.
ولعلّ البعض يجهل أننا، وإلى جانب اللحن الشهير ‘يا طيرة طيري يا حمامة’، ندين للقباني بتلحين عشرات الموشحات، مثل ‘وجنات الغيد’، ‘بزغت شمس الكمال’، ‘آه من جور الغوالي’، ‘بدر حسن لاح’، ‘صاح هات الراح’، ‘هات يا باهي السنا’، ‘اشطحْ وهمْ يا ابن عمّي’، ‘سباني مذ بدا باهي المحيا’، ‘شادن صاد قلوب الأمم’، و’يا غصن نقا مكللاً بالذهب’ التي يرجّح جبرائيل سعادة أنها أيضاً من تلحينه. ولعلّ المرء، بذلك كلّه، يعذر تلميذه محمد كامل الخلعي حين يصف الشيخ هكذا: ‘شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين بما له من بديع التلاحين الرقيقة لأناشيد الطرب الأنيقة ما يزري برنة الدينار ويذهب بصوت الناي والأوتار ويطوح بالهموم والأتراح ويغني بلذته عن الراح. فكم له من قطعة رافعة للقدر ومدحة شارحة للصدر ومرثية مبكية للعيون ومقطعات مختلفة الفنون’.
كأنّ بيته، في اليوم العالمي للمسرح، كان يطيّر الحمائم البرّية ويدندن: ‘يا طيرة طيري لوادينا/ واحكيلو علّي مبكّينا’!
خاص – صفحات سورية –