صفحات مختارة

عن الثقافة / المثقف العضوي

null


إذا نظرنا في هذا العصر الإمبريالي الرأسمالي، بأفق واسع؛ بأفق كوني، نرى أن العالم المعاصر قد فقد سمته العنصرية منذ أن اكتشف مفهوم الحقل في الثقالة والكهرباء /المغناطيسية والحقل النووي وحقل الأفعال الضعيفة المتبادلة بداية القرن العشرين، و منذ أن تكرّست مفاهيم مقاربة خاصة على يد فرنر هايزنبرغ في قوله عن علاقات الارتياب وعن استحالة الجمع بين تعيين مكان الإلكترون وسرعته في نفس الوقت عنصرياً . ونستخدم العنصر هنا والعنصرية كاستعارة من علمي الكيمياء والفيزياء النووية كمقابل مفهومي للعلاقة والعلائقية في فهم العالم المعاصر، من الفيزياء النووية حتى ديالكتيك “الميتافيزياء” الإمبريالية الرأسمالية.

يتوجب إذاً توسيع الأفق والاهتمام بمفهوم العلاقة بما يخص الإمبريالية الرأسمالية الراهنة . ففهم بلد إمبريالي رأسمالي كالولايات المتحدة وهمٌ إذا ما أخذ عنصرياً؛ الديمقراطية في القطر الأمريكي ، الرفاه، الحقوق المدنية، الخ.. بالتالي ، لا بد من الخروج من هذا التجريد العنصري لأمريكا خارج العلاقة الإمبريالية الرأسمالية الكونية. كم هو مفارق ومتعسف الحديث عن القرية الكونية عند مديح ما يدعى بـ “العولمة” الرأسمالية، في الوقت الذي نتحدث فيه عنصرياً وقطرياً عند الحديث عن الديمقراطية القطرية والرفاه القطري في الولايات المتحدة الأميركيّة.

يسمح لنا تجاوز العنصرية في الفهم ، تجاوز الفهم التجريدي لمفاهيم مثل “الغرب” ، و “الشرق”، في الوقت الذي بات واجباً على المثقفين أن يقرؤوا هذا “الشرق” بعين العلاقة الإمبريالية الراكبة في الأقطار الطرفية الرأسمالية ومنها الأقطار العربية على طبقات بورجوازية رثة غير وطنية وملحقة، هي صورة عن العلاقة الإمبريالية الراكبة عليها ركوب الرياح على السحاب. تتجلى هذه العلاقة الإمبريالية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الموجهة توجيهاً معادياً لشعوب هذه البلدان.

إن فهم العلاقة الإمبريالية في صورها الطرفية الرأسمالية هو فهم شمولي للإمبريالية الرأسمالية بما هي علاقة كونية متجاوزة للعلاقات العنصرية ما قبل الرأسمالية، ولا يمكن الحكم على السلوك الإمبريالي والطبيعة الإمبريالية الرأسمالية خارج فهم كهذا الفهم.

إن الثقافة المنتشرة في العالم والسلفيات بكل أنواعها وأشكالها، واستعارة الأسلحة الثقافية الدينية العتيقة واحتلال بلدان بكاملها من قبل الولايات المتحدة، وتراكم نصف ثروة الأرض في هذا البلد والتنافس بين حزبين محتكرين للسلطة والثروة وتصدير ثقافة العنف والموت ، وثقافة الدعارة والاتجار بأجساد الأطفال والنساء والرجال، ومحاربة كل ما هو شعبي في سياسات الدول؛ كل هذه الصور والهيئات هي صور وهيئات إمبريالية؛ هو تجسيد للعلاقة الإمبريالية الرأسمالية وقائدة حاميتها الولايات المتحدة الأميركية. نحن ضد الثقافة العنصرية ، ومع ثقافة تقوم على الفهم العلائقيّ مع عناصر مهيمنة أو مع عنصر مهيمن ضمن هذه الشبكة.

إن المطالبة بدور للمثقف في المجتمع يعني أن له رسالة وهذه الرسالة مرتبطة أساساً بموقعه بالنسبة لطبقة هامشية متظلمة ذات موقع أساسي في التنظيم الاقتصادي للمجتمع. بهذا المعنى : المثقف العضوي هو مثقف يساري بالضرورة ؛ مثقف يدفعه فعله النقدي لوصل الثقافة بأيديولوجيا الطبقة التي ارتبط بها من حيث الموقع ، وهذا الوصل يحتاج إلى توسط العلم التاريخي الاجتماعي؛ أي تحويل الثقافة إلى حالة وعي علمي تاريخي بالمجتمع وإلى إيمان بقدرة هذا الوعي التاريخي/ الاجتماعي على تغيير الوضع القائم ، أي تغيير العلاقة الإمبريالية في الأقطار العربية على سبيل المثال نحو علاقة ذات توجه شعبي و ديمقراطي.

يجد المثقف العضوي نفسه في بلد من بلدان الأطراف الرأسمالية (قطر عربي مثلاً) في مواجهة مهام ثقافية وإيديولوجية مركّبة؛ فهو مدفوع بقوة تظلُّم الطبقة التي تحمله وبقوة لياقته الأخلاقية- التاريخية إلى فهم حقيقة العصر الإمبريالي الرأسمالي القائم، وإلى رسم ملامح أفق لبدائل هذا النظام الإمبريالي الكوني، أي إلى التأسيس لبناء علاقة مضادة للعلاقة الإمبريالية . وهذا الأمر لا يسير بخط مستقيم وبكل يسر، فالمسائل أعقد من ذلك بكثير. حيث يترتب على المثقف العضوي في الأقطار العربية أن يلتفت نقدياً إلى التراث القومي ، فحماة التراث ومكرّسّوه كما هو بالضبط ، يقدمون الثقافة التراثية وما تفرضه أو تقتضيه من علاقات ما قبل رأسمالية ومن علاقات اثنية وعرقية وطائفية كبديل للعلاقة الإمبريالية، متوهمين بهذا النبش للقبور أنهم يرجعون لأصولهم “الحضارية” ، بالتالي يحافظون على هويتهم الأبدية وأصلهم الصافي. لكن من حسن حظنا أننا تحدثنا في بداية هذه الافتتاحية عن الفهم العلائقي الذي يبين لنا أن هذه الردّة الثقافية والسياسية السلفية للشعوب في البلدان المتخلفة (الأطراف الرأسمالية ) إن هي إلا صورة من صور العلاقة الإمبريالية الرأسمالية كما تظهر في أطراف النظام الرأسمالي الكوني.

إن نقد الثقافة القومية في ذاتها وفي صورتها الإمبريالية ، وإنتاج العلم التاريخي بالمجتمع من قبل المثقف العضوي يحوّل الثقافة من ثقافة خانعة مطمئنة وغابطة إلى قوة مقلقة ومحرضة وداعية تغيير . “يتحتم على المثقفين العضويين أن يكونوا أولئك الذين يحتجون على التعصب القومي في الوطنية، وعلى الشعور بالامتياز الطبقي والعرقي أو الجنسي.. وتبني القيم الأشمل في سبيل تجاوز اليقينيات السهلة التي توفرها لنا خلفيتنا الثقافية – القومية

المثقف العضوي في هذا العصر مثقف علماني وديموقراطي وشمولي الوعي ، غير عنصري بالضرورة، لأن أضداد هذه الصفات هي صفات المثقف الإمبريالي في مركز النظام وفي أطرافه.

إن الذين يغتبطون لغياب المثقف العضوي في المجتمع ولدوره في مواجهة العلاقة الإمبريالية وصورها والتحضير للبديل كثر : هذا الغياب “غياب يجب الاحتفال به ” حسب عبارة ارنست غلنر. هذا الاحتفال بمثل هذا الغياب يعني الاحتفال ببقاء العلاقة الإمبريالية بكل ويلاتها على شعوب العالم كافة خاصة المتخلفة منها. ويعني من جهة أخرى امتداح المثقف الاعتباطي الليبرالي الجديد في سعيه لتكريس عالم ظالم محتضر وعنيف.

لابد للمثقف العضوي من ترك مسافة تجاه المؤسسة ، وتجاه الأدوات التي يصنعها ويبنيها بيديه ، والنقد المتواصل هو أداته في ترك تلك المسافة سواء كانت المؤسسة دولة جديدة أم حزباً ثورياً .

قد يظن القارئ أن المثقف يستطيع انجاز مهامه المعقدة تلك كهرقل. لا، المسألة مرتهنة بحركة التاريخ وما تقدمه من إمكانات التحرك الكتلي للطبقات الهامشية والجماعات المحرومة قومية كانت أم غير قومية.

يبدو لنا أن أكثر الأخطاء شيوعاً – كما يقول غرامشي في كراسات السجن – هو البحث عن معيار التمييز(تمييز المثقف) ، في الطبيعة الجوهرية لأنشطة المثقفين (في النشاط الفكري)، بدلاً من البحث عنه في مجمل نسق العلاقات الذي تجري فيه هذه الأنشطة، أي في داخل المركّب العام للعلاقات الاجتماعية” . ويضيف غرامشي: “يمكننا إذن أن نقول أن كل الناس مثقفون ، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع ” .. ففي أي عمل عضلي حتى أكثر الأعمال تدنياً وآلية لا بد أن يتوفر فيه حد أدنى من المؤهل الفني ؛ أي الحد الأدنى للنشاط الفكري الخلاق. وكما سبق أن لاحظنا ، لا بد أن يتمتع المثقف سواء أكان منظماً في الصناعة أم عضواً مرموقاً أو متدنياً في حزب ثوري ؛ أي بحكم موقعه ذاته ، بقدر معين من المؤهلات ذات الطبيعة الفكرية ، وإن كان دوره في المجتمع لا يتوقف عليها ، بل تحدده العلاقات الاجتماعية العامة التي تحدد على الأخص موقعه فيها كمنظم. إذاً لا يتوقف تعريف المثقف في المجتمع على الطبيعة الجوهرانية لمؤهلاته الفكرية ، بل يحدد هذا التعريف وظيفته التنظيمية في هذا المجتمع سواء أكان تنظيماً تقنياً لصالح الطبقة السائدة أم تنظيماً سياسياً معارضاً أو ثورياً لصالح الطبقات الهامشية والجماعات المحرومة.

هيئة التحرير
تجمع اليسار الماركسي في سوريا


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى