الخياطة … مهنة بين حدا المقص
رشا فائق
لابد أن يكون زوار مسرح الحمراء قد مروا كثيراً من أمام عتبة محله… ربما لم يفكر معظمهم بالدخول إلا أنني أجزم أن واجهة محله قد استوقفت الكثيرين منهم ولو بدافع الفضول… فالقبعات الملونة التي تزين واجهة المحل الخشبية بأشكالها وأنواعها المختلفة تلفت انتباه العابر من مدخل المسرح الشهير باتجاه بوابة الصالحية باعتبارها الواجهة الوحيدة من نوعها في العاصمة التي تحتفي بقبعات تحلم برؤوس ُتزينها وإن لم تجدها!!!
“خورين دير بدروسيان”خياط سوري من أصول أرمنية يمارس عمله كخياط للألبسة الرجالية منذ ستينات القرن الماضي في محله الشهير في الصالحية مقابل مدخل مسرح الحمراء، يقول عن كيفية احترافه لهذه المهنة”كان والدي يعمل في صناعة وتجارة أمشاط الشعر في فلسطين، إلا أنه قدم لدمشق بعد النكبة ومعه 9 أطفال فكان لابد لي من مساعدته…بدأت العمل كبائع متجول للأمشاط التي يصنعها في سوق الحميدية، إلا أن الكثير من الأقارب لاموا أبي بسبب عملي هذا، فأخذني أبي للعمل عند خياط أرمني شهير متخصص بحياكة البنطلونات وبأجرة أسبوعية تصل لحدود الخمس ليرات سورية…”.أما عن ذكرياته حول أول قطعة ثياب قام بتفصيلها يقول السيدخورين”كان معلمي في إجازة، فقمت بإحضار قماش وتفصيل أول بنطال لي كنوع من التجربة، وعند عودته شاهد البنطال فطلب مني مغادرة المحل لأنني لم أعد بحاجة لأتعلم المزيد…”.
وبالفعل بدأ (خورين) عمله كخياط محترف في أواخر الخمسينات في مشغل صغير في سوق الحميدية فوق محل بوظة بكداش الشهير، لينتقل في منتصف الستينات إلى محله في بوابة الصالحية والذي مازال يقبع فيه حتى اليوم…وعن الفارق بين الأمس واليوم، يقول “خورين” وهو يتكئ على رف ماكينة الخياطة الحديدية متحسراً على أيام الماضي”في الثمانينات، كنت أقوم بتفصيل ما يقارب الثلاثين بنطلوناً في الشهر…أما اليوم، فماكينتي لم تدر عجلتها منذ أكثر من خمسة أشهر ولم أعد أتذكر أخر مرة فيها قمت بتفصيل بنطلون… اليوم أتسلى بحياكة القبعات……لأنو هي المصلحة خلص ماتت”..
الخياط…وحياكة الفرح:
لم تكن مهنة الخياطة بالمهنة العادية، بل كانت واحدة من أبرز المهن اليدوية التي لاغنى عنها قبل أقل من أربعين عاماً وخاصة في المناسبات، يقول (خورين)” كنا نعمل طوال العام إلا أن الأعياد كانت الموسم الحقيقي لهذه المهنة.. فحلاوة العيد تكمن في ثيابه الجديدة التي ينتظرها الكبير قبل الصغير”…
ولكن ماذا عن خطوط الموضة وأساليبها، وهل كانت معتمدة ومطبقة في ذلك الوقت؟؟؟ يجيب (خورين) “بالطبع كنا نجاري الموضة ونتابعها لنقدم كل جديد لزبائننا..الشارلستون، البنطال ذي الخصر المنخفض أو حتى المرتفع كلها قصات اعتدنا على تفصيلها وهاهي تعود اليوم ليس بفضل أنامل الخياطين ولكن بفضل ماكينات الكترونية قضت على مهنة التفصيل ودفعت الكير من الخياطين لترك مهنتهم “…
كلام(خورين) صحيح ويؤكده تراجع عدد الخياطين في سورية، فبعد أن كان عددهم حوالي الـ 500 في مدينة دمشق لوحدها، أصبح اليوم لا يزيد عن 50 خياط فقط والسبب يتخلص برواج الألبسة الجاهزة، إذ يستطيع الزبون شراء طقم بسعر أقل من أجور التفصيل. فالطقم الرجالي مثلاً تتراوح أجرة تفصيله بين (2500 ـ 5000) ليرة سورية وذلك حسب كل خياط ومكان محله، في الأحياء الشعبية أو الراقية بدمشق، وهذه الأجرة أكثر من سعر الطقم الجاهز الذي يباع حالياً بأسعار تبدأ من ألفي ليرة وتصل إلى 5000 ليرة للأنواع المقبولة. وهو ما يفسر اليوم سر تخلي الكثير من الخياطين عن مهنتهم التي لم تعد مربحة…
ولعل سوق الخياطين الواقع بجانب سوق البزورية الشهير في المدينة القديمة خير دليل على انحسار هذه المهنة، ففي الماضي كان هذا السوق الشهير يحفل بمحلات الخياطين وبائعي الأقمشة ومستلزمات التفصيل. في حين تحولت معظم محلاته اليوم إلى محلات لبيع أدوات التجميل النسائية أو محلات بيع التحف الشرقية في إشارة دامغة على تراجع شعبية مهنة التفصيل اليدوي.
يقول خورين”هناك فقط قلة قليلة من الرجال ما زالت تفصل أطقماً وهؤلاء غالباً من كبار السن الذين تعودوا على طقم التفصيل ولم يستسيغوا البدلات الجاهزة، وهؤلاء أيضاً إمكانياتهم المالية ممتازة لأن الطقم الجاهز مع ثمن القماش الفاخر يكلفهم كثيراً وتعادل قيمته ثمن ثلاثة أطقم جاهزة ومصنعة في معامل الخياطة بشكل آلي”…ويضيف خورين مترحماً على أيام رواج مهنة خياطة الطقم الرجالي والبنطلونات”كان زبائننا من الأغنياء والموظفين المقتدرين الذين تعودوا على لبس الطقم الأفرنجي. أما حالياً فننتظر الزبون ولا يأتي وعملنا كله مقتصر على تصليح الألبسة القديمة مثل تقصير بنطال أو تركيب سحاب له أو تضييقه أو توسيعه.. وأنا شخصياً لا أؤيد فكرة العمل في التصليح ولكن للضرورة أحكام!!! أحياناً يزورني بعض الشباب الصغار الذين يطلبون عملاً، إلا أنني أعتذر منهم …فكيف يمكن أن أعلمهم المصلحة وزبائنها قد ولوا من غير رجعة؟؟؟”.
أما عن سر امتلاء محله بالقبعات، فيقول (خورين) وهو ينظر باعتزاز لقبعاته المعلقة في كل مكان” اهتمامي بالقبعات ليس جديداً، فأنا أهوى تفصيلها وأتابع كل جديد في مجال صناعتها…وقد قمت في مطلع الثمانينات بحياكة قبعات للسيد الرئيس حافظ الأسد بعدما شاهد واحدة من قبعاتي على رأس أحد ضباط القصر الجمهوري فأعجب بها وسأل عن مصدرها ثم تشرفت بزيارته وقمت بحياكة عدة قبعات له بناء على طلبه كثيراً ما ارتدى منها في رحلاته الخارجية”..
ولكن هل حياكة القبعات اليوم رائجة ومربحة أكثر من حياكة البنطلونات؟؟؟؟ يتأسف (خورين) وهو يجيبني “القبعة جزء أساسي في أناقة الرجل ولكن مع الأسف الناس هنا لا يدركون قيمتها وكثيرون يخجلون من وضعها…في حين أنها مفيدة جداً سواء في الحر أو البرد فضلاً عن شكلها الأنيق…صحيح، أن الناس لا تستهويهم القبعات ولكن هنالك زبائن يطلبونها على قلتهم…واليوم مع قلة العمل أجد في حياكة القبعات نوعاً من التسلية التي لا تخلو من الابتكار والفن”…
يبدو واضحاً إذا من كلام العم خورين، تراجع شعبية مهنة التفصيل الرجالي واقتصارها في معظم الأحوال على إصلاح الملابس الجاهزة..فهل حال التفصيل النسائي بأفضل..أم أن عصر التفصيل اليدوي بنوعيه قد بدأ بالانحسار ؟؟؟
الخياطة.. مهنة المرأة أم الرجل؟؟
“بدون شك أن أصول الحياكة تعود للنساء اللواتي كن يخيطن كل شيء من ملابس البيت إلى ملابس العيد والعرس وأغطية الفرش…ولكن مع دخول المكنات، دخل الرجل للمهنة وأصبح أساساً في تطورها خاصة وأن أغلب الأمهات لم يعلمن مهنة الخياطة لبناتهن، ربما لأن البنت أصبحت موظفة ولا وقت عندها لتعلم هذا الفن. اليوم، معظم السيدات يمارسن المهنة على نطاق ضيق لإعانة أسرهن في حين يمتهن الرجل هذه المهنة ويحترفها كباب أساسي للرزق”..بهذه الكلمات ينسب العم أبو تيسر بدايات مهنة الخياطة للنساء، إلا أنه يصر وبعد أكثر من أربعين سنة على امتهانه الخياطة والتفصيل النسائي، أن النساء اليوم يفضلن خياطة الرجال أكثر. يقول”الرجل بطبعه يعرف ما يناسب المرأة ويتفنن في الموديل ويتقن التصميم ويضيف لمسات ذوقية بما تحلم به المرأة وتريده… صحيح أننا كخياطين نترك اختيار لون ونوع القماش للزبونة ولكننا نقدم رأينا بما يناسبها من تصاميم غالباً ما تعجبها لأنها في النهاية تبحث عن رأي الرجل لا المرأة فيما ترتديه”…
وعلى الرغم من أن موديلات المرأة خلال السنة دائماً في تغير وتطور على عكس موديلات الرجل التي تكاد تكون ثابتة وتقليدية، إلا أن هذا لا ينفي معاناة العاملين في هذه المهنة من قلة الزبائن وانحسار العمل…
“الملابس الصينية قادتني إلى الإفلاس” يقول أبو تيسر ويتابع “عندما انظر إلى ما تلبسه النساء اليوم أشعر بان “الصين” قد سلبتني الكثير من زبائني فحتى اللواتي كن يفضلن خياطة ملابسهن في المناسبات عندي..أصبحن يفضلن الملابس الجاهزة لسعرها المنخفض مقارنة بما يتطلبه التفصيل من أجور أقمشة وخياطة فضلاً عن سرعة الحصول على القطعة”، ويتحسر أبو تيسير على الماضي “شغل زمان غير وفيو بركة لأنه معمول بإتقان أكبر…يعتقد البعض أن الملابس الجاهزة أفضل من الملابس التي تتم خياطتها من قبل الخياطين لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الملابس القديمة التي ما زالت لدى أبنائنا خير دليل على جودة عملنا في حين تفقد الملابس الجديدة قيمتها بعد مدة قصيرة” .
إلا أن دخول الملابس الجاهزة ليس بالمشكلة الوحيدة التي تواجه العاملين بمهنة التفصيل والخياطة اليوم، فارتفاع أسعار الأقمشة ومستلزمات الإنتاج مشكلة تعيق الإنتاج وتدفع بالزبائن بعيداً ، فضلاً عن ارتفاع أسعار الرسوم المفروضة على محلات الخياطة لدرجة أجبرت الكثيرين على إغلاق محلاتهم والعمل في منازلهم…
يقول العم (خورين)” في قرارة نفسي، أشعر بالندم وأقول لو بقيت بائعاً جوالاً للأمشاط الخشبية، لربما كان عندي اليوم محل في سوق الحميدية.. لم يكن والدي ليتصور أبداً أنه سيأتي اليوم الذي يجلس فيه الخياطون بلا عمل..وفوق كل هذا نواجه بإنذارات ورسوم سنوية كبيرة تفوق بقيمتها مجمل عملنا لعام بأكمله”… وعما إذ كان كلامه يعني أنه لن يعلم ولديه أصول المهنة، يقول (خورين) بعد تأمل ليس بقصير “سأعلمهما أصول الخياطة ليس بهدف مزاولتها ولكن بهدف تعليمهما حرفة قد يحتاجونها في يوم من الأيام..ففي النهاية، الصنعة سلاح في مواجهة تقلبات الدنيا”…
ولكن هل مازال تعلم الحرف اليدوية اليوم سلاحاً في مواجهة الزمن الذي يعج بالتقنيات الرقمية وتكنولوجيا المعلومات؟؟؟ سؤال يبقى بلا إجابة طالما بقي العم (خورين) منكباً على طاولته الخشبية ممسكاً بمقصه الحديدي الكبير ومسطرته الخشبية التي محا الزمن أرقامها ولكنها بقيت محفوظة في ذاكرته، وقد عقد العزم على حياكة قبعة جديدة يعلقها بجوانب أخواتها من القبعات الحالمات برؤوس تزيينها ..فمن يدري فقد ينقلب الزمان ؟؟!!!.