‘بتندم وحياة عيوني’
عناية جابر
توفّيت منذ ما يقرب الشهر، المطربة وداد (بهية)، سورية الأصل، حلبية، تزوّجت زيجات ثلاث، آخرها من الموسيقاراللبناني وقائد الأوركسترا المُلهم توفيق الباشا الذي أنجبت منه وحيدها عبد الرحمن الباشا، عازف بيانو ومؤلّف موسيقي عالمي يعيش في باريس.
عشق والدي صوتها، وامتدّ عشقه حتى طال حضورها الشخصي في مواظبته على زيارتها في بيتها، أيام كانت زوجة للشاعر وكاتب الأغنية الشهير عبد الجليل وهبي وكان صديقاً لوالدي حينها. من شدّة ثقتي بذائقة أبي السماعية، وتعلّقي به، واظبت بدوري على سماعها حتى انتهيت مثله الى عشق صوتها.
كنّا أطفالاً في ذلك الحين، مُرغمين نتحلّق حول جهاز التلفزيون، تاركين لأبي حظوة الإستئثار بسماع وداد ومشاهدتها، مُتململين مع ذلك، غاضبين ومتأففين، ذلك أن حياة أخرى تدور على قناة الأطفال، فيها يُمارس سوبرمان بهلوانياته، وغراندايزر عضلاته، وتوم اند جيري مكائدهما، وتان تان وميلو اكتشافاتهما البوليسية. قناة مستحيلة علينا ما بقيت وداد تُغنّي وأبي يصغي ويهز راسه طرباً، وعلينا بالتالي التحلّي بالصبر حتى تنتهي من غنائها.
مع ذلك، كنت أُعجبُ بالسواد المائي في حدقتيها، وبالتعبير المشبوب بالعاطفة في وجهها المُعذّب العفيّ، قبل أن أنتبه الى صوتها المُهدهد وأغانيها الصغيرة ذات الذوق القديم وتدور بمجملها حول: الحب، الألم، الإخلاص، الغدر، الهجران. . الخ
كانت لا تملّ تردد اغنية بعينها: ‘بتندم’.
بتندم، وحياة عيوني بتندم
بدّك تقهرني؟ طيّب
غبلك شي غيبة وجرّب
لمّا بترجع يا حبيّب
ياخويّن شو بدّك تندم
بتندم! تروح وداد ترددها كلازمة للأغنية، قاصدة حبيبها الخائن، أو الذي يُضمرُ خيانة ما أو (عامللو شي عملة)، لم يكن عقلي الطفولي يستوعبها حينذاك، فأجهد الى فرش مئات السيناريوهات المحتملة عن ‘عملته’ التي استوجبت من وداد تهديدها: بتندم. ما حيثيات الوعيد الذي تُطلقه هذه المرأة ؟ كيف ستجعله يندم؟ هل ستقتله مثلاً؟ وكيف يتأتى له الندم ان أردته قتيلاً؟ القتيل أو الميت لا يعود يشعر بشيء لا بالندم ولا بسواه. هي تعرف ذلك ولن تقتله بل سترى الى ندمه وهو حيّ يُرزق! أم تراها تُبادله خيانته بالمثل، حتى إذا خانته تاب إليها نادماً مُتألماً؟
سألت أبي: ‘شو بتندم، شو راح تعمللو يعني؟’. أطلق أبي إحدى ضحكاته المُجلجلة من دون ان يجيبني، فيما رمقته أمي بريبة ولؤم. أحكمت إطباق شفتيّ في نُذر خناقة لاحت بينهما، وما عدت الى سؤاله ثانية.
تقف وداد طويلة ومهجورة تماماً، وتُغنّي صابرة، بصوت ربّة بيت، لجمهورها حول الشاشة الصغيرة. وحتى إذا ما وقعت بين الحين والآخر تجاوزات بسيطة في الغناء، بدا تأثيرها أكثر تهديداً، إذ انها كانت تعضد عواطف القلوب المأساوية والمُهانة، بتعبيرات وجهها البسيطة المؤداة بأناة وغموض. سمراء، عيونها واسعة وتُذكّرني بالصور الفوتوغرافية القديمة، او بتواريخ الميلاد الضائعة للدفاتر العائلية. وفيما أمعن التحديق بوجه وداد تغنّي (بتندم)، يتكشّف لي (أنا الصغيرة حينها) كمّ كبير من الخصال
‘المافياوية’ التي ما كان يُمكن لها أن توجد فعلاً، ومع ذلك فإن وجهها كان مصنوعاً منها. ‘بتندم’ كانت تحيلني الى أخلاق صقيلية (صقلية ـ إيطاليا) وتُشيع فيّ رغم الصوت العذب، مشاهد انتقام ودم ورعب. بالطبع يوجد في كل الأزمان كل أنواع الوجوه، ولكن ثمة بينها وجه وداد الذي لا يغيب عن بالي بسبب من اغنيتها تلك، ويرفعه ذوق العصابات وتقاليدها، فيرتبط بالحظ والجمال، كما بالجريمة المُدبّرة. بمساعدة تسريحتها العالية، موضة ذلك الزمان، لا يخفق السحر في جبينها الواضح وشعرها الفاحم من النجاح. في وجهها ذلك الجمال الملكي والمقصي لزمن ماض بدون تنازلات. مثل وجهها يُذكّر بشهوات من حيوات أخرى في الوجود الكبير واللامتناهي للغرام.
تستطيع سماع أغنية بتندم وحياة عيوني في صفحات الأصغاء