صفحات ثقافية

ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياء آخر

null
رستم محمود
المسلسلان التركيان المدبلجان للغة العربية “نور” و”سنوات الضياع”، اللذان يعرضان حاليا على عدد من الفضائيات العربية في وقت واحد. (وقد تجاوز عدد حلقات كل منهما في الوقت الراهن المائة حلقة حتى الآن). يحتلان الآن مكان الاهتمام الأول لملايين المشاهدين العرب ـ ملايين بكل ما للكلمة من معنى. فحركة التسوق والانتشار البشري في جل الأسواق تكاد لا تبلغ النصف في أوقات عرض المسلسلين المذكورين، والكثير من المواعيد المتخذة بين مشاهدي المسلسلين تأخذ في الاعتبار مواقيت عرضهما، فالجلسات واللقاءات تكون أما بعيد “سنوات الضياع” وقبل “نور” أو قبل الاثنين أو بعدهما، وكذلك باتت مواعيد الغداء والاجتماع بالنسبة للأسرة الواحدة، وعلى أسسه بات الكثير من أساتذة الدورات الصيفية يحددون المواعيد لطلابهم، وكذلك حركة الأطباء… الخ. ومن جهة أخرى باتت الماكينة الإنتاجية الاستهلاكية، وبالذات منها الجانب الغذائي والتجميلي، تنتج ما هبّ ودبّ من المواد التي تحمل صور وأسماء أبطال المسلسلين، حتى أن أحد المطاعم في العاصمة السورية دمشق قد كتب بالخط العريض على صدر واجهته: “جديدنا شاورما سنوات الضياع”. وللتأكد من كل ذلك، ما على المرء إلا أن يكتب عبارة “مسلسل سنوات الضياع” بين مزدوجين في محرك البحث google ليحصل على نتائج تقارب الـ 800 ألف خيار، جلها أشعار وأشجان كتبها مراهقون وشباب عرب في أبطال المسلسل المذكور.
أكبر مصادر الدهشة في الموضوع، هو مدى العادية في قصتي المسلسلين. فالأول (مسلسل “نور”) يروي قصتي فتاة ريفية ـ نورـ كانت جدتها خادمة في منزل إحدى العائلات التركية العريقة، ثم تزوجت من أحد أبناء العائلة الذي كان بدوره متزوجاً من قبل، وتدور كل حكاية المسلسل في فلك العلاقة الزوجية بينهما ـ بين نور والشاب مهند ـ. أما المسلسل الآخر ـ (مسلسل “سنوات الضياع”) فيروي قصة عائلتين تتشاركان في الأعمال التجارية فأحبت ابنة أحداهما ـ لميس ـ ابن شريك أبيها ـ يحيى ـ وقد لاقت علاقة العشق بينهما حسد الكثير ينمن المحيطين بهما، فيروي المسلسل قصة تلك العلاقة.
بحبكة مفككة ليس فيها تصعيد أو خط درامي واضح. وروح تحليلية بالغة البرودة، تتعاقب حلقات المسلسلين. فالأحداث مشبعة بالقدرية ـ فيها الكثير من نكهة الأفلام الهندية ـ وتنقل بؤرة معالجة القضايا كل خمس حلقات من شخصية إلى أخرى دونما تبرير درامي، والمعاني والمعالجات مكررة لدرجة الملل. فمثلا في المسلسل الأول تكاد العلاقة الزوجية ـ بين نور ومهند بطلي المسلسل ـ تصل لقمة الألفة الزوجية ثم تنحدر لأسفل التنافر بينهما لما يقارب العشر مرات، وكل مرة يكون سبب التآلف أو التنافر هو ذاته، حيث الغيرة أو عمق معاني المؤسسة الزوجية، هما سبب التنافر أو التآلف. لكن المسلسل يعيد صياغة تلك الأحداث في حلقات مكررة. وكذلك الأمر بالنسبة لأحداث المسلسل الثاني “سنوات الضياع” حيث باتت العلاقة بين بطليه ـ يحيى ولميس ـ تنفصل وتتصل لعشرات المرات وللأسباب نفسها.
يبقى السؤال المحير: ما الذي يجبر ـ يجذب ـ ملاين المشاهدين العرب على متابعة مسلسل عادي كهذا لما يفوق المائة ساعة منذ شهور عدة؟ إذا استثنينا المعايير الجمالية المتعلقة بطول وملامح أبطال الفيلم، وتسريحة ونحافة خصور بطلاته، كعناصر جذابة دون شك لطبقات عمرية معينة. يمكننا الإجابة على ذلك السؤال بعدد من الأسئلة الأخرى.
أولاً: كم من هؤلاء الملايين الذين يبقون فارهي الأفواه لساعتين كل يوم، ومشغولي الذهن لساعات عدة في التفكر بما شاهدوه. كم من هؤلاء يكون المسرح، الحر بممارسته والمرفه من الدعم الحكومي، باعتباره أداة لرفع السوية الجمالية والفكرية التحليلية للمواطنين. كم من هؤلاء يشكل المسرح عادة أسبوعية أو شهرية يمارس حضوره مع أفراد عائلته أو أصدقائه. وكم من هؤلاء يتابع آخر إبداعات السينما العربية والعالمية. وكم من هؤلاء يقرأ ولو رواية واحدة في الشهر وكم من هؤلاء يواظب على متابعة أي من أشكال الممارسات الثقافية؟؟!!.
ثانياً: أي جو من الكبت الاجتماعي والقمع الاقتصادي يلاقيه المراهقون والشباب في المجتمعات، حتى يصلوا لدرجة الهيام بقصة حب عادية. وكم من هؤلاء المشاهدين يتحسر لعدم قدرته على ايجاد الشقة والعمل والفرصة المناسبة ليمارس علاقة حب غرامية شبيهة بالتي يمارسها مهند ويحيى ونور… الخ.
ليس نوعاً من التنظير المثاقف حينما نقول: إن غياب فضاء من العقلنة وغياب أي تراكم للممارسة الثقافية، مرفقا بجو من انعدام التنمية الإنسانية بكل أشكالها، ومضافة إليها أجواء الكبت السياسي والاجتماعي العام. كل ذلك ينتج بالعموم ممارسات حياتية شبيهة بهذه. فأصغر التأثيرات تكاد تجتاح حياتنا دونما إذن من ملكاتنا التحليلية. فحينما ترى عشرات الشبان في المقاهي العربية يناقشون أحداث مسلسل عادي كالمسلسلين المذكورين، نتذكر ما قاله نزار قباني يوماً: ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ/ ببلادي./ ببلادِ الأنبياء./ وبلادِ البسطاءْ./ ماضغي التبغِ، وتجَّارِ الخدرْ/ ما الذي يفعلهُ فينا القمرْ؟/ فنضيعُ الكبرياءْ/ ونعيشُ عمرا لنستجدي السماءْ”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى