صفحات ثقافيةعمر قدّور

حين لم يكن اسمها “السعودية”

null
عمر قدور
(ولدك إذا وجّه مشايم خَلُّه، وإذا وجّه مِيَمّن أمسُكُه) هذه واحدة من الحكم التي كانت متداولة في منطقة جازان جنوب غرب ما بات يُعرف بالسعوديّة، وفحواها نصيحة للأهل بالإمساك بابنهم إذا قرّر التوجّه إلى اليمن لأنّه مشهور بالخيرات والنعم التي قد تغريه بعدم العودة إلى أهله، أمّا السفر شمالاً فلا خوف منه؛ لأنّه لن يجد سوى الجوع ما سيضطرّه للإياب إليهم. قد تبدو هذه النصيحة غريبة عنّا؛ إذ اعتدنا على “السعوديّة” كدولة نفطيّة ثريّة، لكنّ رواية “ساق الغراب”* للكاتب “يحيى اَمقاسم” تعيد إلى الأذهان تلك الفترة التي سبقت سيطرة آل سعود على المنطقة، وتفاجئنا بالكثير ممّا نجهله عن الواقع الاجتماعيّ لها، متجاوزةً بذلك التاريخ الرسميّ الذي يكتبه دائماً المنتصرون، ولعلّ أهميّة ما تؤرّخ له الرواية يأتي ممّا بُذِل، في المقابل، لكي نرى “السعوديّة” على النحو الذي نراه الآن، وبأثر رجعيّ بحيث نعتقد أنّها كانت كذلك على الدوام.
تدور أحداث رواية “ساق الغراب” في الفترة المفصليّة التي شهدت غزوات الجيش السعودي للسيطرة على المناطق التي ستحمل اسم المملكة فيما بعد؛ وبعض هذه الأطراف كان بمنأى عن التطوّرات التي حدثت في المتن، أو ما أصبح متناً بحكم السيطرة والثروة، كما في منطقة جازان التي اقتصرت علاقة أهلها بالشمال، حسبما يرد في الرواية، على مكّة التي يقصدونها مرّة واحدة في العمر لأداء مناسك الحجّ. أي أنّ الرواية تسرد سيرة المهزوم في حرب غير متكافئة، ولم يكن مستعدّاً لها أصلاً، وأخطر ما في الهزيمة هو اضمحلال ثقافته لصالح أيديولوجيا المملكة القادمة التي تطرح نفسها كأيديولوجيا خلاصيّة لأولئك “الجهلة” الذين لا يعرفون الحقّ، فالتبشير الوهّابيّ كان في الصميم من الحملات التي ينظّمها الحكم السعوديّ لإخضاع العشائر الأخرى، ترافقه في ذلك الثروة والقوّة. ولقد سوّت هذه الحملات الأرض فأخفت التضاريس الثقافيّة لأناس عاشوا الحياة على نحو مغاير، فلم يكن هذا النوع من التديّن عماد حياتهم أو العامل الطاغي في منظومتهم القيميّة، مثلما لم تكن الثروة بمفهومها المستجدّ قد دخلت نسيجهم الاجتماعيّ فأفسدت قوى الإنتاج التقليديّة بعد أن أفسدت البعض من عقولهم.
تفاجئنا رواية “ساق الغراب”، وإن كنّا لا ننفي عنها مقتضيات الخيال الأدبيّ، بشبكة العلاقات الاجتماعيّة التي كانت سائدة وتمّ تحطيمها، ولعلّ أبرز ما يطالعنا هو ذلك الدور المحوريّ للمرأة في الحياة العامّة للعشيرة، باستثناء القتال الذي يبقى وقفاً على الذكور. وليس المقصود بذلك الدور الفاعل المستتر للمرأة، والذي قد نصادفه أو نصادف بقاياه في الكثير من المجتمعات الذكوريّة، بل المعنيّ هو الاعتراف بحضور المرأة ودورها من قبل رجالات العشيرة دون إحساس معلن أو بارز بأنّ هذا الحضور منافٍ لطبيعة الأمور، فالاختلاط بين الجنسين في الأعمال الزراعيّة، وبالتالي الاختلاط بمعناه الاجتماعيّ الأوسع يمحو الفوارق جزئيّاً، ويفسح المجال لظهور الإمكانيّات الفرديّة عند الأفراد ذكوراً كانوا أو إناثاً، وتتغلّب معايير الكفاءة، وإن بشكل غير منتظم أو منهجيّ، بحيث يتعزّز حضور الأكثر حكمة والأكثر فاعليّة والأقوى طبعاً. وقد يبدو مستغرَباً أن يتجاور حضور المرأة مع الحضور القويّ لقيم الفحولة لولا أنّ الرواية تذكّرنا بأنّ “مجتمع” العشيرة كان في الأصل منفتحاً في داخله، بخلاف علاقته بالعشائر الأخرى التي يشتبك بها سلباً أو إيجاباً بحسب المصالح المتقلّبة لأطراف العلاقة.
(يبيت “بِشَيبشْ” أسفل سرير الأمّ محتضناً بندقيّته “مِعْتِقْ”، هذا اسمها تيمّناً بواديهم الذي يعتق كلّ من يلوذ به هارباً من قصاص يطارده، فينصره “الحَسانِيةْ” بالحماية المطلقة. ويقضي الليل يحكي لخالته جولات “معتق” في مواجهة المتربّصين بحماهم، تستمع إليه، ثمّ تحكي من جانبها عن زوجها وعن أخوالها الجنّ، وعن “ابن حُسَيْنَةْ” معشوقها القديم، وهو “سابِقَةْ” إذ سبقت ولادته حادثة زواج أبيه بأمّه، وتبرّر افتتان العشائر به لكون شجاعته فذّة ولا نظير لها في ذلك الوقت، فهو قد ورث جسارة والده الذي استطاع أن يغير على حياض قوم وينال من شرفهم باقتطاف رغبة حبيبته، وبذره زرعاً فيها، دون أن يلحقه أهل المرأة بضرر، كما أنّ أمّ الـ”سابقة” تعيش في تقدير؛ كونها وهبت عاشقها ثمرة جسدها، وحملت منه رغماً عن أهلها، لذا فالجميع يعتدّ بمن تسبق ولادته حالة زواج والديه؛ لأنّه لا بدّ أن يكون جسوراً ولا قبيل له في الرجولة والفروسيّة، وينسبه أهل الجبال إلى الشجرة سرّ البقاء والعطاء، والتي تهيج بالحياة والنماء، إذ يسمّونه “ولد الهَيْجَةْ”، ويغدقون عليه كلّ المحاسن والمفاخر، ولا يتجرّأ شخص أيّاً كان أن يمسّ الـ”سابقة” أو “ولد الهيجة” بما يكرهان سماعه كأن يعرّض بنسبهما أو برجولتهما – الرواية ص123)
الأمّ المذكورة في الاقتباس السابق هي أمّ أحد شيوخ العشائر في المنطقة التي صارت تُحكم ممّن يعيّن أميراً على منطقة صبياء، اسمها صادقيّة؛ مع الاحتفاظ بدلالات هذا الاسم؛ فشخصيّة صادقيّة، العمياء التي قايضت الجنّ ببصرها على بصيرتها، تجمع بين الأمومة المطلقة والحكمة التي تلتبس بالعرافة. وهي تحاول منذ البداية ثني ابنها الشيخ عن التصدّي لحملات الجيش السعودي، متنبّئة بأن هذه الحرب تختلف عن الحروب التي خاضتها العشيرة سابقاً، وبأنّ الزمن سينقلب لصالح “قوم الذُّلُول” كما تسمّيهم الرواية. مع ذلك لم تستسلم الأمّ للنفوذ السعوديّ الذي بدأ ينخر في العشيرة عبر شخصيّة “المقري – المقرئ”، ومن الملفت للانتباه أنّ شخصيّة “المقري” هي التي تمثّل الامتداد السعوديّ، بل هي رأس حربته، إذ لا ترصد الرواية ممارسات سلطويّة مباشرة بقدر ما تكشف عن دهاء السلطة في محاولة الهيمنة بواسطة رجال الدين المدعومين بالمال. لقد كان “محمد المصلح”، المقرئ، أوّل رسول من أمير صبياء إلى شيخ العشيرة، وقد نأت الأمّ قليلاً عن مجلس ابنها تقديراً لثقافة الضيف الذي يرفض وجود النساء، لكنّ الأخير ضمّن مواعظه وجوب عزل النساء عن أعمال الحرث والرعي، والأفراح خاصّة، وصولاً إلى الحديث عن علاقة المرأة بالشيطان، ما أثار غضب الأمّ التي لم تتوانَ عن الردّ عليه، فيخاطب الابنَ الشيخ قائلاً: (يا شيخ الخير.. ما أعتقد نساء يقرّرون عنكم؟!). تبادر الأمّ بالردّ: (قرآنك اللّي تعلّمنا به.. حافظينه.. ويمكن تحصل أنّ المرأة قادت رجل يقول حتّى لربّي : لا.. وتعرف أنت معنى لا.. تعني أنّ ما أحد يسمع لكم.. والله لو ما أنت في بيت شيوخ ليحصل لك شيء يسوّد وجهك). تلمّح الأمّ بقولها إلى حوّاء التي قادت رجلاً ليقول “لا” للربّ، وهذه المحاورة تدلّ على نوع الصراع المقبل بين سكّان المنطقة والحكم الجديد، وهو كما يختصره ابن أختها، بطل العشيرة “بشيبش”: (يا صادقيّة.. القوم ما عاد منهم حرب إلا إذا صلّيت غير صلاتهم، ودعيت ربّ غير ربّهم!).
تختصر علاقة الكرّ والفرّ بين الأمّ والمقرئ مرحلة الاشتباك الأولى بين العشيرة والسلطة الجديدة، إذ ما يلبث المقرئ أن يعود إلى القرية محمولاً على دهاء السلطة التي أبدت اللين والرفق، وما إن يستقرّ المقرئ إماماً لمسجد القرية حتّى يبدأ رحلة التبشير مستخدماً شتّى الأساليب للتمكّن من عقول رجال العشيرة. وإذ لم تنفع أساليب الإقناع، التي انصبّت في البداية على ضرورة عزل النساء من وجهة نظر الشرع التي يمثّلها، فإنّ بيوت القرية تتعرّض لغزوات ليليّة من شخص غامض ينتهك عرض نسائها دون أن يتمكّن أحد من الإيقاع به، فيبدأ الرجال بحجاب نسائهم في بيوتهم، ومن ثم يعمّ الحجاب الأسود المعروف في ملابسهنّ، ويقلعن عن المشاركة في أعمال الزراعة والرعي، فتتحقّق الغاية المرجوّة للمقرئ. تعود الأمّ لتسجّل انتصاراً مؤقّتاً بطرد المقرئ من القرية، بعد مواجهته بألاعيبه وبزواجه السرّيّ من امرأة كانت لها الريادة في الحجاب ولزوم البيت، وتلمّح إلى معرفتها بعلاقات جنسيّة أخرى للمقرئ مستغلاً مكانته بين الناس ومعرفته بأسرارهم. لكنّ المقرئ سيعود فيما بعد تتويجاً للسيطرة النهائيّة للحكم بعد عقد ونصف من المنازعات رحل خلالها رجالات العشيرة المرموقون واحداً تلو الآخر؛ وكأنّهم قرّروا أو اقتنعوا بأنّ الزمن لم يعد لهم، فنرى الواحد منهم يبلّغ شيخ العشيرة بنيّته الموت، وبعد حصوله على الإذن يموت فعلاً!.
الموات هو مصير قرية “عصيرة” التي تختصر ما حدث للمنطقة برمّتها، ودون أن نبالغ في الإشادة بالحياة التي كانت سائدة فيها قبل مجيء الحكم الجديد وأعوانه من المقرئين فإنّ المقارنة بين بساطة الحياة من قبل وفقرها من بعد تدلّ على مدى الخراب الروحيّ والمادّيّ الذي أصاب البشر والطبيعة معاً. قبل مجيء الحكم كان ثمّة فسحة للحبّ والعشق، بل كان هناك احترام للعشق عندما ينكشف سرّه، فنرى فتاة اسمها “هاجر” تنشد عندما يقبل أهلها مكتشفين وجود عشيقها في عشّتها ليلاً: (جُنْبِيّةْ شَوقي تسمّى اَلمُرُوحي.. يضربها من دون روحي وروح.. مِنْ حِيْ يحيا ومن مات يموتِ). بهذا القول، الذي تحرّض فيه الفتاة عشيقها على استخدام خنجره ضدّ أهلها، تبيّن لهم أنّها عاشقة وليست لعوباً، وعندما يسمع الأب نشيدها يتأكّد من أنّها صادقة في عشقها فيأمر أبناءه بوضع بنادقهم؛ هاجر هذه سينقلب بها الحال لتصبح زوجة المقرئ، فتحتجب وتعتزل الحياة. على العموم لم يكن الناس في وارد إقامة التناقض بين إيمانهم ومتطلّباتهم الطبيعيّة، وقد يفاجئنا الحيّز الذي كان الجنس يستغرقه في لهوهم ومرحهم، ولم يكن هذا المرح مغلقاً على أحد الجنسين، بل إنّه مرح متبادل بينهما، ولا حرج في أن يسأل الحفيد الشابّ جدّته: ( بيني لي أيّ زبّ ترغب النساء.. كبير وإلا قصير؟). فتتطوّع امرأة أخرى بالردّ: (هذي هي الواحدة فينا يا النساء.. ما ترغب رجل معه واحد كبير لأنّه يملا جوفها ويحشرها عن رغبتها ولا تحتاج الصغير لأنّه ما يحرّك فيها شِي.. تحتاج دايماً رجل معه زبّ متوسّط تحسّ به يرتج في حِرْها – الرواية ص288).
كأنّ الرواية، على الرغم من كلّ ما حدث، تضع رهانها على المرأة؛ فشخصيّة الأمّ العارفة الحكيمة لا تبدأ بالانسحاب والأفول إلا بعد أن تورث شيئاً من خصالها لابنة ابن أختها “شريفة”، وهذه الأخيرة كأنّما تُناط بها المحافظة على إرث العشيرة بعد أن يخذل ابن الشيخ الآمال المعقودة عليه. يتساقط الرجال بينما تُقصى النساء تحت وطأة الأخلاق المستجدّة، لكنّ الرواية تتشبّث بذلك العالم السابق، أو تعيد تشكيله بحذاقة، وربّما بشجاعة تدفعنا إلى إبداء التقدير لكاتبها. ثمّة الكثير ممّا يُقال، ولم يتمّ التطرّق إليه في هذا النصّ، حول فنيّات الرواية التي برع يحيى اَمقاسم في كتابتها، وقد لا يكون مستغرَباً ألا تأخذ هذه الرواية حظّها من أضواء الإعلام التي نراها مسلّطة على كتّاب سعوديين من نمط آخر، فهذه الرواية على النقيض ممّا دأب الإعلام ذاته على ترويجه؛ رواية تمنحنا المتعة، ومع احتفاظنا بالتعاطف مع أهل تلك المنطقة جرّاء الغبن الذي حاق بهم فهي قد تدفعنا إلى محبّة تلك البلاد حين لم يكن اسمها “السعوديّة”.
ساق الغراب، يحي اَمقاسم، الطبعة الأولى: دار الآداب 2008.
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى