نظام عربي أكثر تكافلاً، علاقات عربية أقل “أخوية”
ياسين الحاج صالح
أي مستوى من العلاقات بين الدول العربية يستجيب لأعلى توافق داخلي في كل منها؟ هل يمكن تبيّن علاقة بين الأمرين؟ إذا أمكن إثبات علاقة موجبة بين الأمرين أمكننا الكلام على نظام عربي متكافل.
بصورة عامة، يبدو أن العلاقة موجبة فعلا. فالتوافقات الداخلية العربية تتحسن أو تتراجع، وإن بمقادير محدودة، وفقا لتحسن أو تراجع العلاقات بين الدول. ولا نعرف أمثلة لتحسن التوافق الداخلي في أي بلد بالارتباط مع تدهور علاقته ببلد آخر، أو بالعكس، تدني توافقه الداخلي ارتباطا مع تحسن علاقته مع دولة أخرى. على أن مستوى استجابة التوافق الداخلي للعلاقات بين الدول ليس نفسه في جميع البلدان وحيال جميع الدول وفي جميع الأوقات. نعلم أن علاقة عدائية بين لبنان سورية تؤثر سلبا على العلاقات بين اللبنانيين، ومثل ذلك يصح على علاقات تهيمن فيها سورية على لبنان. أعلى توافق لبناني ربما يتحقق حول علاقة «طيبة» مع سورية، يأمن لبنان لاستقلاله فيها وسورية لأمنها. بالمقابل لا يسهل تبيّن تغيرات التوافق الداخلي في سورية بالتوازي مع تغيرات العلاقة مع لبنان نظرا لكتامة النظام السياسي فيها، لكن يبدو أن شأن لبنان لا يبلغ عتبة سجال في المجتمع السوري إلا حين تأخذ العلاقات شكلا عدائيا.
هذا لا ينطبق على علاقات لبنان مع الأردن مثلا. التوافق اللبناني الداخلي ليس حساسا لعلاقة لبنان مع الأردن. وقد يبدو أن هذه هي السمة الأعم للعلاقات بين الدول العربية، علاقاتها الداخلية ضعيفة الحساسية لعلاقاتها البينية. لكن هذا صحيح في نطاق التذبذبات المعتادة للعلاقات، أما إذا بلغت حد القطيعة أو المواجهة، أو من جهة أخرى درجة عالية من التقارب، ظهر الارتباط الإيجابي بين مستويي العلاقات على نحو ما كشفت سوابق من الصراع المفتوح أو من الوحدة بين بعض الدول العربية.
ولعل من شأن جدول كامل للتغيرات المتقابلة بين علاقات دولنا، واحدة واحدة، ومستويات وفاقها الداخلي أن يكشف عناقيد من التفاعلات، حساسة أولا للجوار والإقليم، ثم للزمن، وبالطبع لطبيعة النظم السياسية القائمة، وقبل كل شيء لمستوى التشكل الوطني. إن بلدانا أقوى تماسكا تتأثر أقل بتغيرات علاقاتها الخارجية من بلدان أدنى تشكلا وأشد هشاشة. ولا يتحارب «الآخرون» على «أرض لبنان»، إلا لأن لبنان يوفر ميدانا مناسبا لحروبهم.
على أن تفاعل العلاقات بين الدول العربية ومستوى توافقها الداخلي قد يكون أقل مباشرة وأكثر تركيبا. يتأثر التوافق الداخلي المصري سلبا أو إيجابا وفقا لنوعية تفاعل السلطات المصرية مع لبنان إذا تعرض لعدوان إسرائيلي مثلا. التوافق السوري تأثر سلبا بمشاركة السلطات في حرب الخليج الثانية عام 1990 أكثر مما بموقفها السلبي من حرب احتلال العراق في 2003. يتصل الأمر في الحالين بدخول طرف ثالث، معاد. هذا يعني أنه يمكن الكلام على نظام عربي متفاعل من زاوية العلاقة مع أطراف أخرى أكثر مما من زاوية التفاعلات البينية للدول العربية وحدها.
وفي هذا السياق، قد نعرف العدو بأنه الدولة أو الطرف السياسي الذي يتحقق أعلى مستوى من الوفاق الداخلي حول القطيعة معه (وهذه لا تعني المواجهة حتما). هذا ينطبق اليوم حصرا على إسرائيل. موقف مناوئ للسياسات الأميركية في الشأن الفلسطيني يحقق من التوافق الداخلي في البلدان العربية أكثر من موقف مؤيد.
بالمقابل، يمكن تعريف الصديق بأنه الدولة أو الطرف السياسي الذي يتحقق أعلى توافق داخلي حول علاقات «طيبة» معه.
وهناك مرتبة ثالثة للعلاقات بين الدول تتميز بانعدام حساسية توافقها الداخلي حيال تغيرات العلاقة بينها. سورية وفيجي مثلا.
فهل يمكن تسجيل خصوصية ما للعلاقات بين الدول العربية تتجاوز هذه القواعد العامة؟ هل يسعنا تبين نمط من التفاعلات بينها يحيل إلى مرتبة «شقيق»؟ كأن يتحقق أعلى وفاق داخلي عند توحد الدولتين/ الدول؟ الواقع أن العلاقات العربية تعرض خصوصية فعلا، لكن من جهة الحساسية المفرطة الواسمة لها، وضعف تمأسسها والحضور القوي للبعد الشخصي فيها، ولكون تعذر انصلاحها المعتاد لا يؤدي إلى انفضاض سامرها مع ذلك، ما يشير إلى أنها بالفعل علاقات «طبيعية» أو «أخوية».
ولعل طول العهد بالسمات هذه هو ما آل إلى الحد من تأثير علاقات الدول العربية على التوافق الداخلي في كل منها. لقد «تمسحت» مجتمعاتنا (سمك جلدها فصار كجلد التمساح) فارتفعت عتبة حساسيتها للخصومات والمصالحات العربية وتدنى اهتمامها بها. وهذا ما عزل العلاقات بين الدول عن العلاقات داخل الدول وتفاعلاتها المحلية. ينضاف إليه اعتناء أطقم الحكم في بلداننا بفرض الالتفاف حولها لا ببناء التوافق الداخلي الذي يقتضي مفهومه فاعلية إيجابية للقوى الاجتماعية المحلية.
يفترض التحليل السابق الدول العربية معطاة بمعنيين: أن أيا منها لا يعرض استعدادا للامّحاء في غيره، وأن نظمها السياسة ثابتة. في 1958 عرضت نخب فاعلة عسكرية وسياسية في سورية وحدة اندماجية مع مصر. تحمّس جمهور عريض في سورية للوحدة، لكن كان ثمة من هم أقل حماسا، ومن هم معارضون. أما المصريون فكانوا أقل حماسا في عمومهم. انعكست الوحدة الاندماجية المتسرعة مع مصر تدنيا في الاندماج المحلي السوري وتفككا سريعا في أوساط النخبة التي حققتها، ولعلها مهدت بهذه الصورة للانقلاب البعثي عام 1963. جرت تجارب أقل جدية منذ ذلك الحين، لكن المحصلة العامة لها أن وحدة اندماجية بين دول عربية ليست مسألة إجماع، وربما تنال من وحدة كل منها، وأن التوحد العربي لا يقترن بأعلى وفاق مجتمعي ممكن. بالمقابل، يتحقق أعلى توافق حول علاقات «طيبة» لا حول علاقات فاترة أو سيئة.
على أن الشيء الأهم في تقديرنا هو أن أفضل ما يتعين فعله من أجل أعلى توافق في بلداننا هو ذاته أفضل ما يلزم فعله من أجل أعلى توافق بين بلداننا. أي أن إعادة بناء نظمنا السياسية حول التوافق الداخلي لمجتمعاتها هو الشرط الأنسب لتشكل نظام عربي مستقل، تتغلب تفاعلاته الداخلية على تفاعلاته أو تفاعلات كل من أطرافه مع قوى خارجه. وبعبارة أخرى، فإن متانة التشكل الوطني في بلداننا هي ما يؤهل الظروف المناسبة لأشكال أكثر تطورا وتعقيدا من التعاون والتكامل بينها، فيما يتوافق نقص تشكل كل منها، على غرار ما هو الحال اليوم، بنقص في تشكل النظام العربي، وبعلاقات «طبيعية» بسيطة بين الدول العربية، علاقات تحاسد وكيد وبغضاء. أو علاقات «أخوية».
خاص – صفحات سورية –