للحقيقــة طعــم آخــر
منذر بدر حلوم
كما في (طاعون) كامو، ما عليك إلاّ أن تضع وجه من تحب بينهم حتى يصبح (لكومة) موتى معنى آخر، ويصبح للموت نفسه معنى آخر. لكننا كثيرا ما نشيح بأعيننا عن جثث الآخرين وعن جوعى الآخرين وعن سجنائهم ومعذَّبيهم، متوهّمين أنّ هذا الذي يحدث للآخرين لن يحدث لنا، ناسين أنّ طمر رؤوسنا في الرمل وعرض مؤخراتنا للوحش لا يحمينا من مخالبه وأنيابه.
علم الإحصاء علم خبيث يحوّل الموتى إلى أرقام، وعذابات الناس وامتهان كراماتهم وإغلاق الآفاق أمامهم وإلغاء أسباب عيش فلذات أكبادهم إلى أرقام. عجباً ـ يقول علم الإحصاء ـ أليس من يعتقل عشرات أرحم ممن يعتقل الآلاف، وقاتل عشرة أرحم من قاتل عشرين، وهذا بدوره أرحم من قاتل خمسين؟! علم الإحصاء، على الرغم من أنّ الواحد فيه قد يساوي قدر ما تشاء القوّة، إلاّ أنّه بلا عواطف، فهو يضع الحديد والإسمنت والإسفلت مقابل الأرواح، ولا يقول (لا) إلا للفقراء والمساكين، وهو يقول دوما (لا) للخانعين. ومع ذلك فالعلّة ليست في علم الإحصاء، بل هي في أصابع الأيدي التي توقّع أوامر الإفقار والإذلال والقتل، الأيدي التي تقبض المال والأرواح معاً، أو في تعاقبٍ رتيب رتابة الموت ذاته. أم انّ في أساس هذا العلم هوساً باستبداد الأرقام، بجعلها تذل وتهين وتسجن وتقتل، مستندة إلى معادلة بسيطة أحد طرفيها من نار والآخر من قش: من ليس معنا فهو ضدنا. ومَنْ من ذوي الألباب لا يعرف مصير من يكون ضد من تنصاع لهم ساجدةً الأرقام! أهو العقل المدرك للخطر يدفعنا إلى طمر رؤوسنا، أم هي البيولوجيا التي تريدنا أحياء فلا يعنيها الفرق بين ذل الاستعباد وكرامة الحرية؟!
كل شيء ممكن بمساعدة علم الإحصاء. ممكن، مثلا، أن يقال: لدينا فائض من إنتاج اللحم والتفاح، ويسكت القائل عند هذه النقطة. ويمكن أن يقال له: لدى (مواطنيك) فقر مدقع وضعف شديد في القدرة الشرائية ونقص مزمن في الاستهلاك، وجوع نوعي إلى كل ما يبقيهم بشرا ويميّزهم عن البهائم! ويمكن أن يقول القائل: الملايين ينزلون إلى الشوارع تأييدا لسياساتي، ويصمت علم الإحصاء عن: لماذا هم ينزلون وكيف هم ينزلون، مقابل عشرات ممن غالبوا غريزة البقاء وشدّوا على الذعر الساكن قلوبهم رباطَ جأشٍ وبأس وجاؤوا يطالبون بجرعة حرية ووعد (وإن كاذباً) بالعدالة. يخطر بالبال أنّه إحصاء مقابل إحصاء. لكنّ إحصاء الفقراء لا يعني شيئا مقابل إحصاء الأغنياء الأقوياء الحاكمين. فالأرقام لا تُرى ما لم ترفع على حراب حراس القصور أو تنعكس على النظارات السوداء والبدلات السوداء والمسدسات السوداء والسيارات السوداء والأقنعة البيضاء. ويأتي من يغافل رعب المقهورين ليقول: بل يمكن لحقيقة الأرقام أن تُرى إذا ما دُوّنت على الرايات في الساحات. لكن إحصاء الساحات إحصاء خبيث أيضاً، لا تَماثُل فيه بين واحد وواحد. فثمّة من يدير دولاب الساحات ليصب حصاده في جيب هنا أو جيب هناك، أو في كليهما معاً، حين ترتِّب تجارة الرق الحديثة أرقام الساحات في صفقات. ألا يمكن أن توجد ساحات لخروج آخر إحصاؤه لا يصب في جيب لص هنا ولص هناك؟
يقول علم الإحصاء إن ثروة المواطن السوفياتي السابق بدري باتراكاتسيشفيلي اليهودي الجورجي، الذي مات أو مُوّت في لندن، ما يعادل ستة وثلاثين مليون راتب من رواتبي المدعومة بوصفي أستاذا جامعيا، أي ما يمكن أن أتقاضاه مقابل جهودي على مدى ثلاثة ملايين من السنين! السنين التي يربو مجموعها على حيوات خمسة وأربعين ألف فرد مثلي، أنا المشمول بإحصاء الذل، على اعتبار أن يقاوم جسد واحدنا كلَّ هذا القهر والاستغلال خمسة وستين عاما من العمر، وهو متوسط تُكذّب ما فوقه الأرقام?لاهأ. وكمثلها ستجد مليارات كثيرة ناهبوها على مسافة يد منك، مليارات تقول لنا آداب السلوك بعيب إحصائها. فمن غير اللائق إحصاء ما في جيوب الآخرين. ويسكت العلم عن الأسباب. وتكذب الأيديولوجيا والأدب العنصري، فليست خاصّية يهودية امتصاص مليارات الدولارات من دماء المواطنين، والتمتع بالفرجة عليهم وهم يحتضرون منطوين على آلامهم وأحلامهم الساذجة بعدالة تأتي بعد الموت. فاستعباد الناس واضطهادهم واستغلال أجسادهم وعقولهم وملء جيوب الحاكمين باسم العقيدة في مكان والحرية في آخر والوطنية ومقاومة إسرائيل في ثالث.. ملؤها بحيوات الملايين من الناس وآمالهم وأحلامهم، بحد ذاته دين. إنّه دين، وكدت أقول الشيطان لولا رأفتي به، انسجاما مع وعد إلهي يبقيه إلى يوم النشور. أم انّ لهم وظائف إلهية كمثل سيّدهم الشيطان. يبحثون عن أيوب في كل منا، فإذا بأيوب المعاصر صابر على أن يستباح ماله وجسده وعزة نفسه وعقله إلى ما لا نهاية له، وإذا بثواب ذلك كلّه سجود وخضوع وتسليم بل قل هو استسلام. ألم يتواطأ مع الشيطان سيّدهُ على جسد أيوب المسكين!؟ فماذا لو وضعنا وجه من نحب بدل صورة أيوب التي يعجب كهنة الدين والسياسة أن يأكلها الدود نحو مزيد من الخنوع؟
العماء
بئس الثقافة التي تقوم على أشياء لا يمكن التحقق منها، الثقافة التي تدعو إلى العماء طريقاً إلى رؤية الحقيقة، وألف لعنة على ثقافة لا ترى فظاعةً في الفقر والنهب والاستعباد، وليجلل العار مثقفين يجمّلون الاستعباد أو يسكتون عنه متواطئين. وفي تواطئه مع ثقافةٍ طوع بنان الظُلاّم، لا يقول علم الإحصاء لماذا علينا السكوت عن ذلك كلّه، والتصفيق له في مكان ومبايعته في آخر. أم إنّه يقول مختصرا العبرة برقم الذين قتلوا في هذه البلدة وشردوا في تلك وسجنوا وأعيدوا إلى حيوانيتهم في كل مكان من بلاد تفخر بالحجارة والأيقونات، فُعِل ذلك كلّه بهم من أجل ألا يثير دهشة أحد منهم أو غصته أو احتجاجه رقم ثلاثة ملايين عام من الجهد البشري يحشر في جيب واحد من لصوصٍ وطنيين كبار يتباهون باقتنائهم سيارات الفوهرر، ويبذلون جهدهم في اللعب بخصيتي علم الإحصاء من أجل ألا يقول شيئا مما يجب أن يقال.
يقول علم الإحصاء: يقتحم لصوص صغار في مدننا وبلداتنا وقرانا كل ساعة عشرات المحال والبيوت ويمارسون الرشوة، أخذاً ورداً، في مؤسساتنا كل ساعة آلاف (المواطنين) وليس فقط من يقف منهم في الشارع بزيّه الرسمي المميز، ولكن الإحصاء، الرسمي منه وغير الرسمي، لا يخبرنا لماذا هم يفعلون ذلك، لا يقول لنا شيئا عن خياراتهم الأخرى المعدومة، كما لا يقول شيئا عمّن يدفعهن ضيق سبل العيش الكريم من بناتنا لوضع الخطوة الأولى في طريق (الفحشاء)، وغيرهن ممن يدفعهن إلى ذلك انعدام معنى عهر الجسد في مجتمعات تمجّد عهر الروح والعقل، وفي ظل ثقافة لا ترى في هذا العهر كلّه ما يلوّث أحبارها. ولا يخبرنا علم الإحصاء شيئا عن معنى تنامي أرقام الجرائم التي تطاول المواطنين، عن مغزى رفع غطاء الأمان الذي يعده البعض من فضائل الاستبداد عن الناس، عن معنى دفعهم إلى حلول فردية لحماية أنفسهم بما في ذلك اقتناء السلاح الذي لا بد من أن يطلق يوماً النار باتجاه ما، وعن معنى إدارة هذه الجرائم كلّها بحيث تستمر وتتأصل ليصب جناها في جيوب (أصحاب) المؤسسات التي يفترض أنّها أنشئت لمكافحتها. وتسكت الثقافة، فمن غير اللائق أن يبدو على وجه جلالتها الألم، ويتغنّى الشعراء بالعصافير والبحر والقمر، أو بمعادِلاتها الحداثية وما بعدها، وتفتح الروايات مخادع للعاشقين وتفوح منها رائحة زهر الخرنوب. ليس لمن لا يعرف هذه الرائحة إلا أن يتشممها. ولكن ماذا لو وضع أحدنا جسد من يحب على سرير الحاجة بدل أجساد آلاف المعذبات منهن، ووضع الأشياء التي يحب وآخر ما لديه من نقود بيد لصوص صغار، السرقة بالنسبة لهم فرصة عمل، أيبقى للدعارة وللسرقة المعنى ذاته؟ وتسكت الثقافة عن الأرقام التي تتسرب من بين أصابع الوارثين والمورِّثين، من لحظة صعود الظلام حتى مطلع الفجر. أجل، فالظلام لا يهبط عندنا بل يصعد. والفجر تأتي به الجدّات إلى حكاياتهن من أجل أن توقظ الشمس الدجاجات، لكنه فجر الدجاج. الدجاج طائر كريه بجناحين ولا يطير. الاستعبادُ يعجبه فجرُ الدجاج وليس غيره، فهو لا يعترف بدوران الأرض ولا يقيم وزنا للشمس. للاستعباد سحرته وكهنته ونجومه.
وأمّا بعد، فلا يخدعنك كل ما قلته عن علم الإحصاء، فهو ما إن ينتهي راسمو أقدرانا من جولات لعب الورق اليومية، فنجوع إذا ربحوا ونموت إذا خسروا، حتى يسقط سواد حبره على صفحات خطب سحرة ثقافة الاستعباد وكهنتها ونجومها. ويسكت الحبر تاركا لنا أن نطلق لساننا على الطعم واللون والرائحة، وبها جميعاً نرسم وجوه من نحبّ بين وجوه المعذّبين. وعلى الرغم من أنّ لكل شيء ولكل قول طعمه ولونه ورائحته المميزة، ولكل طعم ولون ورائحة معنى، إلا أنّ للسكوت عن الحقيقة رائحة كريهة منفّرة!!
كثيراً ما تذوّقنا في طفولتنا طعم الحبر. لم نكن نعرف شيئا عن الرصاص الذي فيه، إلى أن أطلق عسكري الرصاص من بندقيته على شباك صفّنا من أجل ألا يجرؤ المعلّم على مساءلة ابنه حميدان مرّة ثانية على عدم أدائه واجباته. يومها تعلّمنا أن حقيقة الرصاص لا تدرك باللعق واللحس، ومن أجل أن لا ننسى ما تعلّمناه، لا تزال بندقية جارنا تطلق النار على الأرقام غير المرغوب فيها. ومع كل إطلاقة نفقد نحن ويفقد صغارنا المزيد من الخلايا القادرة على تمييز الروائح والألوان. وأمّا النوافذ المفتوحة على العسكر فلا تحمي الرؤوس الصغيرة التي نحب. في كل مكان، وحيثما تلفّتّ ستجد عيونا بائسة، فاقدة للأمل، كامدة من ذل الحاجة، مفجوعة، عيونا تبحث عن نصرة، لكن انشغالنا بجلالة أنفسنا يمنعنا من رؤيتها. إنّه الانشغال الذي يريده الوحش، وإذا بنا، في غفلة من لامبالاتنا، نرى عيني من نحب تنظران إلينا نظرة عتب من بين كومة الأجساد الملقاة على تخوم مزرعته. يقولون أرواحهم تحوّم فوقهم، يقولون أشياء كثيرة أخرى، لكنهم لا يقولون الحقيقة، فللحقيقة طعم آخر.
(كاتب سوري)