اليسـار الفلسطينـي اليـوم … مـا بعـد غـزة
علي بدوان
كان غياب أو تواضع الدور الفعلي والملموس لقوى التيار اليساري والقومي في فلسطين من بين أبرز علامات الوضوح الساطعة والاستخلاصات السياسية والفكرية في الحياة الداخلية الفلسطينية التي تكونت في السنوات الأخيرة، وبرز هذا الغياب بشكل فاقع في المرحلة التالية من الوقائع التي تلاحقت بعد الانتفاضة الثانية، وفي مرحلة احتدام الانقسام الفلســطيني قبــيل وبعيد الانتخابات التشريعية التي جرت بداية العام 2006، وهي الانتخابات التي أظهرت على السطح دون لبس أو غموض حجم التراجع المريع لحضور قوى اليسار في الخريطة السياسية الفلسطينية الراهنة، حيث تفاقمت مظاهر الغياب والتراجع خلال محنة العدوان على قطاع غزة. وبالتأكيد فإن ما وراء الغياب والتراجع مسبباته الذاتية والموضوعية التي تحتاج الى بحث مستفيض.
لقد أفرزت الانتخابات التشريعية عام 2006 حقائق واضحة تفقأ العين، وأولى هذه الحقائق تمثل في هشاشة حضور قوى اليسار الفلسطيني وتراجعها وضياعها، فاليسار قد فقد حضوره ورونقه في المشهد السياسي الفلسطيني، إذ بعدما كانت الفصائل الفلسطينية اليسارية تتحرك ضمن مساحة سياسية وشعبية معقولة، أصبحت هذه الفصائل هامشية التأثير في المسار السياسي العام، بل أصبح بعضها يمثل عبئاً معطلاً، وعاملاً استخدامياً في استقطابات الانقسام الفلسطيني الداخلي. ولم تكن حظوظ اليسار نفسه في مرحلة (ما قبل غزة) والمرحلة التالية (ما بعد غزة) سوى ارتسام دقيق ونتاج صاف لمآلات انتـهت إليها معظم فصائل اليسار الفلسطيني (مع الاستثناء النسبي للجبهة الشعبية) على خلفية الأزمات الطاحنة التي ضربتها في جذورها. وامتد الأمر ليصبح حالة عامة في المنطقة العربية في ظل تراجع دور التيارات اليسارية، وحــتى داخل الدولة العبرية الصهيونية «ويسارها الصهيوني» الذي تلاشى واختفى وراء «قوى اليمين التوراتي واليمين القومي العـقائدي الصــهيوني» كما أشارت الانتخابات الأخيرة للكنـيست الثامنة عشرة التي جرت في العاشر من شباط/فبراير 2009.
وبالطبع فإن الغياب العملي والتراجع الملموس لحضور فصائل اليسار الفلسطيني وقواه لم يكن ليتأتى هكذا، فجأة، ودون مقدمات، بل جاء في سياقات متواصلة لعمليات متكاملة من تداخل الأزمات وامتزاجها بين الذاتي والموضوعي، فهي أزمات جاءت من مداخل مختلفة لتنتهي في مخرجات محددة وسمت حدود قوى اليسار الفلسطيني وفعلـها إلى التخوم الراهنة وفق معادلة متتالية ثلاثية الحدود ملخصها : أزمات/عمليات/مخرجات.
ففي مرحلة ما قبل غزة وأثناء الحملة البربرية الصهيونية على القطاع تصدرت كتائب القسام وسرايا القدس، ومجموعات من كتائب الأقصى، الدور الميداني على الأرض، كما شاركت كتائب أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية، بينما غابت باقي قوى التيار اليساري والقومي عن الإسهام بالعمل العسكري المقاوم لأسباب شتى تلخص إلى حد بعيد ما اعتمل واختمر داخل هذه القوى، عبر تراكمات تجمعت رويداً رويداً على مدار السنوات الأخيرة. وتبين فيها للقاصي والداني حجم هذا التراجع بأداء اليسار بشكل فاقع في الضفة الغربية، فقد عجزت القوى اليسارية عن تحريك الشارع أثناء العدوان على قطاع غزة، ولم تستطع أن تترجم شعارها الذي أطلقته وتوعدت فيه بانتفاضة ثالثة، بل شاركت ببعض الفعاليات المجتزأة التي وقعت في مدينة رام الله بشكل رئيسي مختبئة وراء الفعاليات التي دعت إليها مؤسسات مستقلة، بينما شارك بالفعاليات المذكورة العديد من الأفراد اليساريين الذين كانوا قد غادروا أحزابهم بصفتهم الشخصية والوطنية. أما فعاليات مدينة الخليل ومناطقها فقد قادها بشكل رئيسي حزب التحرير الإسلامي.
تجاهل المتغيرات
وبالتأكيد، فإننا في الإشارة إلى تراجع اليسار ودوره، وتراجع أدائه، لا ننطلق من موقع الشماتة أو الإساءة لأدوار وطنية سبق أن أنجزتها قوى اليسار، بل ننطلق من موقع دراسة الظاهرة ومحاولة الاجتهاد في تقديم إجابات محددة في تفسير واقع الحال، وهو أمر يحتمل الخطأ والصواب بنسب مختلفة. فمع غياب قوى التيار اليساري باتت الأسئلة الجدية تطرح نفسها على طاولة البحث، في محاولة لتقديم إجابات ولو أولية تقترب من التشخيص الدقيق لواقع الحال، لتبدأ عملية الاستشفاء بالتشخيص. وحتى يكون التشخيص شاملاً ومتوازناً، عليه تناول العوامل الذاتية والموضوعية بصراحة وجرأة بل بقسوة، لمعرفة العوامل التي دفعت باليسار الفلسطيني إلى هذا السبات المرضي في جميع جوانب الحياة الوطنية الفلسطينية.
وفي تشخيص الأسباب، نستطيع القول إنه الوقت الذي ارتسمت فيه الحقائق الجديدة في مسار الخريطة السياسية الفلسطينية، ما زالت غالبية قوى اليسار الفلسطيني تعيش حالة التيه وضياع البوصلة، وجمود غالبية الأحزاب وتقوقعها وتكلسها ومراوحتها عند حدود معينة في حياتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، وفوضى الماضي من العمل السياسي الفلسطيني وفي زمن الحرب الباردة، دون أن تدرك أن واقعاً جديداً قد تشكل على الأرض خلال السنوات العشر ونيف التي انقضت من التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، فلم تغادر التمترس المسبق في المواقف، كما لم تغادر منطق «المماحكة اللفظية والنفخ في الهواء» وأساليبها التي استهلكتها تاريخياً، وأن تغير و«تصلح في أحسن الأحوال» من أدواتها ومن برامجها وفعلها على الأرض.
اليسار التخويني
ومن نافل القول إن محاولة التعمق في التماس جذور الأزمات التي عصفت بقوى اليسار الفلسطيني والتقاطها، تستدعي بالضرورة العودة إلى الماضي القريب قليلاً من أجل وضع اليد على مكامن الأزمات منذ بداياتها، في ظل حالات النزف المستمر التي تعرضت لها قوى اليسار، دون أن تقف أمام استحقاق المراجعة النقدية والشجاعة، خصوصاً أن النزف الذي أصابها جميعها بدأ في غالبه في قلب هرم التنظيم أو الحزب أو التكوين السياسي، وتحديداً في صف الكادر المتمرس بالعمل وبميدان التجربة، لينتشر في المستويات كلها. وعليه فقد فقدت القوى اليسارية الفلسطينية الغالبية الساحقة من كادراتها وهيئاتها وعناصرها الفاعلة في معمعان الأزمات والصراعات غير المبدئية التي ضربت أطنابها داخلها، وتحولت إلى بؤرة صراع ومواجهة بين تيارات اختلفت وجهاتها، وفقدت الصبر والقدرة على التعايش، فحكمت بعضها على بعض، ولكن بمنطق يساري تخويني على قاعدة «مناضل أو انتهازي» و«جذري أو منحرف»، وتصرفت على هذا الأساس، لتطفو على السطح دفعة واحدة اتهامات واتهامات مضادة من العيار الثقيل. ولنا أكثر من مثال حي وطازج في التجربة الفلسطينية ذاتها التي نتكلم عنها الآن، وليس أبعدها الانقسام الذي أصاب واحداً من هذه الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية عام 1991، وهو انقسام رافقته أبشع النعوت المتبادلة بين طرفي الانقسام، وهي نعوت لم يزخر بمثلها قاموس الشتائم في اللغة العربية، بل تزينت الشتائم باسترجاع عبارات المرحلة السوفياتية، ولينشطر التنظيم نهاية الأمر أفقياً وعمودياً، وليتبين بعد ذلك أن جذور الانقسام لم تكن لتستند إلى خلفيات سياسية أو حتى فكرية أو ذات بعد وطني، بل جاءت في جوهرها على خلفيات لها علاقة بصراعات مريرة غير مبدئية تغذت من نسغ النرجسية والحسابات الضيقة ومنطق الإقصاء والتآمر الداخلي، وهو أمر ما زال يلعب دوراً رئيسياً في توالد الانقسامات اليسارية وبالتالي في إضعاف اليسار ذاته وتوالد أزماته. والدليل على ذلك أن طرفي الانقسام المشار إليه أعلاه، باتا على سكة واحدة من الاصطفاف السياسي في الساحة الفلسطينية وان أمسى كل واحد من هذين الطرفين يحمل عنواناً خاصاً به، ويتمثل في منظمة التحرير وهيئاتها المختلفة.
غياب التقييم النقدي أو حتى محاكاته
في هذا السياق، شخصت مؤتمرات فصائل اليسار المتعاقبة وقيّمت ووصّفت الكثير مما تعلق ببرامج وممارسة ما كانت تطلق عليه في أدبياتها «القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية»، ولكن المثير للدهشة هو أننا قلما نجد تقييماً ونقداً جاداً ذاتياً في هذا المضمار، فقد لعبت غالبية فصائل اليسار دور حصان طروادة في تغطية مظاهر الخلل في الإطار الرسمي الفلسطيني حيث التبعية العملية للقيادة التي تسميها (متنفذة). كما أن معظم أدبيات التقييم الشكلي تبدأ بمنحوتات صنمية من نمط القول «إن الأحداث جاءت لتثبت صحة خطنا وسياساتنا..». هذه المنحوتات عن الموقف السياسي والبرامج «المعصومة من الخطأ» أصبحت تقليداً يسارياً بائساً، يقفز عن تحليل الواقع والاعتراف بمظاهر الخلل، عدا غياب المعالجة الجدية للعامل الذاتي ودوره في معضلات العمل الوطني والسياسي، وتقييم المنهج الذي تدير به هذه الفصائل شؤونها التنظيمية والنقابية وكيفية قراءة الواقع وتنشئة الكوادر، والدكتاتورية البيروقراطية المتأصلة التي كانت تكبح أخلاقية الكوادر الشابة وقمع الكوادر وبالتالي نمو ظاهرة النزف المستمر في كادراتها، مما يدفعها إلى الانشقاق والهجرة وعدم قدرتها على تعويض هذه الكوادر وضخ الحيوية والتجديد في بنائها التنظيمي.
ومن هذا المنطلق، ففي تشخيص أزمات اليسار الفلسطيني، نجد الأمور في صلبها بنيوية شاملة، تاريخية وراهنة، جعل من التفكك والتراجع سمة من سمات فصائل وأحزاب اليسار الفلسطيني، في ظل حالة النفي العدمي العاجز عن توليد الجديد في البرامج والرؤى والاشتقاقات والهيئات لدى أطراف التيار اليساري، والعاجز عن إزاحة اللبس والضبابية في ممارسته السياسية، وفي ظل الصراعات الداخلية في إطار بناها الداخلية، وهي صراعات كانت في غالبيتها غير مبدئية وعبرت عن نفسها بانشقاقات متتالية.
واليوم، يجد اليسار الفلسطيني نفسه أسير تراثه من الأدبيات ذات الطابع الإنشائي في غالبيتها، ومن المماحكات النظرية التي استنزفته في سجالات لم تستطع أن تعدو به إلى الأمام ولو بخطوات السلحفاة، فبقي بعض اليسار من التنظيمات والأشخاص في الساحة الفلسطينية في خانة الذين يصعب تصنيفهم أو تمييزهم، حيث اختاروا المنطقة الرمادية تحت عناوين محشوة بالغوغائية ولغة الديماغوجيا السياسية، والتنظيمية الداخلية، متخذين عادة إدمان الكذب والنفاق السياسي طريقاً لا يعرف الضوابط. كما بقي اليسار ذاته بمكوّناته الماركسية والقومية على حدّ سواء، يعيش حالة من الإحباط المهيمن الذي يترافق مع تخبط تنظيمي وفكري وعملاني على جميع الصعد، وبقي متمسكاً بمقولات مركزية ذات طابع دوغمائي ولم يتخطّها ليعيد إنتاج ذاته، بل ما زال يتشبث بطرح نموذج قضى نحبه.
([) كاتب فلسطيني ـ دمشق
السفير