صفحات ثقافيةموفق نيربية

المثقفون السوريون: فلاحون أم كهنة؟!

null
موفق نيربية

على الرغم من شكوى السياسيين من المثقفين وعنجهيتهم أو انفصالهم عن الواقع أو حتى جبنهم في الموقف من السلطان؛ فإنهم يؤدون دوراً أساسياً في التغيير والتقدم من الاستبداد إلى المدنية والحداثة. ربّما يتراجعون إلى الظلال قليلاً حين يكون القطاف دانياً والأمور إلى خلاص، ولكنّهم من يحفرون في الجذر بدايةً، فيأكلونه ويؤسسون جذراً جديداً، بل هم «الشجعان» في أيام الخوف والعتمة، من حيث العنصر والجوهر.

المثقّفون السوريون هكذا. حين أرادت السلطة أن تتروّى قليلاً وتتحرّى الأمر في حراك نهاية السبعينيات، وأرسلت بعض ممثّلي «الجبهة الوطنية التقدّمية» إليهم بهذه المهمة، قال لهم ممدوح عدوان: «أنتم تكذبون حتى في نشرة الطقس»، وقال غيره مثل ذلك، بإبداع متنوع.

وحين لاحت بعض الآفاق في نهاية التسعينيات، اجتمع بعضهم وبحثوا الأمر وداوموا على الاجتماع، ثم كان أن أعلنت نخبة من مثقّفي سورية بداية ربيع دمشق بإصدارهم «بيان التسعة والتسعين»، في أواخر سبتمبر من العام 2000.

كان لهم حصّة في إصدار «إعلان دمشق» خريف 2005، ودور كبير في البيان المشترك بين مثقفين سوريين ولبنانيين «إعلان دمشق- بيروت، إعلان بيروت- دمشق» ربيع العام 2006. حالياً يسكن بعضهم سجون دمشق، ويعاني العزلة كلٌّ من عارف دليلة وميشيل كيلو وأكرم البني وعلي العبدالله وغيرهم. المثقفون الآن أغلبية بين السجناء الديمقراطيين السوريين. وهذا ليس طبيعياً، النظام غير طبيعي، والمثقفون السوريون «غير» طبيعيين!

ورغم أن مفهوم الثقافة مترجم حديثاً إلى العربية، أخذه سلامة موسى من ابن خلدون ووافقه مع الأصل المعاصر الكوني، إلاً أنّ في لغتنا غنى إضافياً طريفاً. فحين يقال مثلاً «رجل ثقَِف لَقِف» يعنون أنه السريع الأخذ لما يُرمى إليه باليد والسريع الفهم لما يُرمى إليه من كلام، والخفيف الحاذق. بل إن كلمة «اللقافة» يمكن أن تحلّ مكان «الثقافة» في لغتنا القديمة. وهذا ملائم في مديح المثقفين السوريين.

يرتبط مفهوم الثقافة المعاصرة بالحرث والفلاحة وتهيئة الأرض للزراعة من حيث الأصول اللغوية، بل إن «الثقافة» كلمة تُطلق على «المزرعة» المُطوَّرة في المخبر. والمثقف هو الشخص الذي يستعمل فكره في العمل أو الدراسة أو التأمّل أو التفكير أو السؤال والإجابة اعتماداً على طيف متنوع من المبادئ.

فالمثقّف قد يكون أقرب إلى الفلاحة، أو أقرب إلى الكهانة، أو أنه جمعٌ خلاّق للقدرتين والمَلَكتين.

يتسلّح المثقّفون الفلاّحون بالفكر النقدي، ويرفضون الواقع الرجعيّ دائماً بالمقارنة مع المستقبل الأفضل افتراضاً. لا يتخلّون عن تمسكّهم بالتميّز والفردانية وكونيّة الإنسان- وحدة الاجتماع الأولى وغايته- لكنّهم لا ينسون الجماعة البشرية. بل يرغبون دائماً بالتأكيد على حقوقها، ويميلون إلى «اليسار» مع المضطهدين والمهمّشين، ويوغلون أحياناً، حتى ينسى بعضهم حريّته على الطريق.

صحيح أن التفكير النقدي حين يكون مجرّداً قد يقود إلى الاختزال، وهذا يؤدي من حيث الطريقة إلى الإطلاق، ومن حيث علم النفس إلى الخضوع، ومن حيث عمليّته ورفضه الطرق اللاتحليلية إلى التعصّب؛ إلاّ أنه حين يرتبط بالواقع والتاريخ يخلق المثقف الذي يسهم في التأسيس للتغيير في المعرفة والمجتمع، وفي تجذير الحرية والمساواة، معاً رغم صعوبة الأمر.

المثقفون الكهنة في أفضل معانيهم لا يتخلّون عن الفكر النقدي، ولكنهم يغرقون في تجريده حتى الإطلاق والخضوع والتعصّب، أو واحدٍ منها على الأقل في كلّ مقام. وفي معانيهم الدنىا ينفصلون عن الحياة والجماعة والأخوة في الإنسانية، ويحلّقون مع «النظرية الرمادية». وهذا شأنهم الذي قد ينتجون لنا شيئاً في غماره، لولا أنهم في إطلاقهم قد يتعالون عن «قرف» الواقع، وفي خضوعهم قد يتساهلون ويستسهلون التكيّف مع السلطة والتسليم بقدرتها وحدها على التغيير، وفي تعصّبهم قد ينزلقون من النقاء والتسامي إلى التمييز والانفصال النهائي عن التيار البشري والاجتماعي.

وقد يكون هنالك في المثقفين كهنة- فلاحون أو فلاحون- كهنة، ولا بأس، فالأصل في الانحياز لحظة الشدّة، وإدراك العلاقة مع مركز الأرض دائماً، عند التحليق والطيران أفقياً أو عمودياً.

أهمية التفكير النقدي في كونه يمكّننا من تحليل وتقويم وتفسير وإعادة بناء تفكيرنا، لكنه يقلّل أيضاً من مخاطر البناء على المسلّمات الخاطئة، في الفكر والعمل. وقد تحدث الأخطاء بسبب تمركز المثقف حول ذاته أو دورانه الأعشى حول جماعته البشرية، أو ببساطة، لأنه يفشل في تمثّل الوقائع كلّها. مثال ذلك رؤية التغيير على الأبواب قريباً في لحظة، أو خارج الأفق كلياً في لحظة أخرى. مثال آخر في انعدام القدرة على احتواء نفور السياسي من الثقافي.

تحية إلى المثقفين السوريين في السجون والمنافي.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى