مقاطعة السياسة
عناية جابر
تابعت باستمتاع المقابلة التي اجرتها الاعلامية المصرية الناجحة لميس الحديدي مع الكاتب الروائي بهاء طاهر على احدى الفضائيات. الحلقة اختصت بتكريم طاهر على نيله جائزة بوكر العربية، وعلى مجمل نتاجه المشرق، ابداعياً وإنسانيا، مظاهر «بني آدم جميل» على ما يقول المصريون بلغتهم المحببة، ونتاجه على صعيد الرواية، والعمل الاعلامي سابقا،
لا يقل «بهاء» عن شخصه نفسه، احترامه لذاته وللآخرين، سعيه واجتهاده الى حاضر مشرف للمثقف العربي، لا يقطع الصلة مع ماضيه. يسعني تعداد مزايا هذا «الجنتلمان» الحقيقي على مدى صفحات، سوى ان ما استوقفني تحديداً، وما قصدته من الاشارة الى حوار الحديدي مع بهاء طاهر، هو تأكيد طاهر عن استفسار الحديدي، على مقاطعته قراءة الصحف ونشرات الاخبار وبرامج «التوك شو» وكل ما يمت الى السياسة بصلة. مقاطعة قديمة تعود لسنوات خلت، من يأس الرجل ـ على ما صرح طاهر آسفا ـ في تخطي الكتابة السياسية نفسها، بما هي تكرار وتأكيد دائمان على ما جرى ويجري في الوطن العربي كافة، من دون خلوصها الى اتخاذ موقف واضح يعلن انتهاء «الكتابة» وبداية «العمل» من اجل راهن لا يكتفي بالترحم على تاريخ العرب كما نقرأ ونرى على الاقنية، بل يصنع بخطوات عملانية، حاضره ويؤسس لمستقبله.
لا يملك معظمنا ثقة بهاء طاهر وحزمه وحسمه، في استنكافه عن الاعلام السياسي، مقروءا ومرئيا. ماذا لو اعانتنا صحفنا وتلفزيوناتنا نفسها، واستنكفت في حركة «تاريخية» عن نشر المقابلات السياسية، وحجبت الندوات التلفزيونية، السجالات العقيمة والصراخ والشتائم التي لا تفعل سوى تأجيج البغض ومراكمة الخذلان في النفوس التعبة التي ضاقت عنها، وفاضت.
ربما يرفض القارئ الذي تبعني الى هذا الحد، ان يصدق اي فائدة في حجب السياسة واخبارها عن الاعلام بأنواعه كافة. لسوف يراوده الشك فيّ اولا، وفي اية فائدة تذكر عن الامر في تحققه. ورغم ذلك، فإن جزءا بالغ الدقة من هدوء بهاء طاهر، من تماسكه، من ابداعه، من إنسانيته الرحبة، يؤكد نقطة الخلاف الجوهرية التي تصنعها السياسة في سلوكنا، وأعصابنا، وطريقة تفكيرنا، وانفعالاتنا ووسائط ابداعنا اذا كان من ابداع ـ وسط التذبذب العقلي ما بين نشرة اخبار واخرى، ومساجلة تلفزيونية هنا وهناك.
لم تأت مقاطعة طاهر للسياسة عن أنانية وتخل عما يحصل في العالم، هو الخائض في افكاره المشرفة عنها والمؤسس والمبشر لقضايا وطنية حقة، منتهيا الى المراوحة المضنية التي املت قرار المقاطعة، ومنها انصرف الى ما لا يخون، الى الكتابة المشرقة، يسند اشراقها، الابتعـاد الكـلي عن السياسة المعـكرة.
