هذا الذي أسمه الشغف
رشا عمران
ذات يوم كتبت شهادة عن الشعر، حين بدأت بكتابتها كنت في حالة من الوجد الذي جعلني أنسى تماما عن ماذا أكتب، كانت دهشتي حين قرأت ما انتهيت من كتابته للتو: هل كنت أكتب عن الشعر أم عن الرجل الذي أحبه؟ هل من المعقول أن يتماهى عندي الشعر والرجل إلى هذا الحد؟ يومها اكتشفت أن الأمر مرتبط عندي بالشغف،
لا بالشعر فقط ولا بالرجل ولا بالحب! شغفي بالأشياء هو ما يجعلها تتماهى عندي فيما بينها، الشغف هو تيمة حياتي، هو طريقتي في رؤية العالم وفي فهم تفاصيل الكائنات، الشغف هو فن العيش لي، هو بابي المفتوح على اختبار أسرار الحياة و اكتشاف ألغازها، علاقتي بالشعر تنطلق من هذا الفهم، علاقتي بالرجل أيضا وبالحب، الشغف لا يحتمل الديمومة، هو عابر و طارئ وآني، الحب أيضا لا يحتمل الديمومة، فكرة الديمومة والأبدية بالحب فكرة محبطة ومستسلمة وخاضعة لنسق مجتمعي محكوم بقوانين الخطيئة ومفهوم (العيب)، الحب الآني سلس وطري ومليء بالرطوبة و قابل للدهشة المتواصلة، الحب الآني لا يعني النزوة أبدا و لا يعني الشهوة المجردة، قد يستمر هذا الحب لسنين وسنين، و قد لا يعرف شخص ما غيره طيلة حياته، و لكنه آني وعابر، بالمعنى النفسي أو الفلسفي، لا بالمعنى الزمني أو الأخلاقي، هو آني حين نعيشه بلحظته، غير أن هذه اللحظة تنجب لحظة أخرى و هكذا، هو آني بالتعلق به، الديمومة تؤدي إلى التعود اليومي و الحيادية تجاه تفاصيل ستستمر طويلا و ستسبب الضجر والملل ومحاولات الهروب، الآنية تعني التمسك بهذه التفاصيل إلى الحد الأقصى، تعني التمتع بحب الآخر إلى الحد الأقصى أيضا، مادامت هذه التفاصيل آنية و مادام هذا الآخر عابرا فقد نفقده بأية لحظة، الخوف من الفقد يجعلنا متعلقين بالآخر، راغبين بعيش يومياتنا معه، مشغوفين به إلى درجة التماهي الكامل به، بهذا المعنى تصبح ( آنية ) الحب طريقة لاستمراره و تجدده وبنفس المعنى تتحول (ديمومة) الحب إحدى الوسائل لاغتياله .
حين أبدأ بكتابة نص شعري ما، يكون دافعي لكتابته هو نفس الشغف الذي تحدثت عنه، الشغف العابر و الآني و الطارئ، قد يقول أحد ما : الشعر ليستمر، و الكتابة هي دائما مستقبلية، سأقول أنا : هدف كتابة الشعر عندي مختلف، أنا أكتب لأن الشعر إحدى طرقي في الاستمتاع بالحياة، إحدى وسائلي لممارسة شغفي بعيش الحياة، الشعر أيضا عابر، كما الشغف كما الحب، ديمومته تنبع من صدقه، من مدى التصاقه بداخل كاتبه، ديمومته أيضا تأتي من لا مألوفيته، من جدته و غرابته و فرادته، تأتي من اختزاله لتاريخ طويل في لحظة عابرة، من قدرته على اختصار كل ما قيل قي جملة قصيرة و بسيطة و نافرة، الشعر الذي يكتب بقصد الاستمرارية و تحت اسم الكتابة المستقبلية، هو شعر لا يبرح زمنه و لا يخرج من وقت كتابته، قد يكون شعرا (مثقفا) لكن ثقافته مقلِدة و مكررة لأن وجودها مستخدم لتعزيز فكرة الشعر المستقبلي، الشعر هنا لا يكتب بمتعة و لا بشغف، بل بعمليات حسابية جامدة، و بعقلانية تحول لغة الشعر إلى لغة يابسة و قشية، الشعر هنا لا يكتب بحب، و الكتابة التي ستبقى هي التي تكتب بحب و بشغف و بجنون .
يوم أنهيت قراءة رواية ( الوله التركي ) لأنطونيو غالا، قلت لأحد أصدقائي : بطلة الرواية هي أنا بلحظة ما، أنا المستعدة لأتبع شغفي إلى أي مكان في الأرض، أنا القابلة لدفع أي ثمن مقابل شغفي بحالة حب ما .
ذات يوم أيضا قرأت على موقع (جهة الشعر) الالكتروني، مقالا عن شاعر من كشمير يدعى رسول علي آغا انتحر قبل أن يصل إلى الخامسة و الثلاثين من عمره، ضمن المقال ترجمات لبعض قصائده، ثمة جملة في قصيدة له ما زلت حتى الآن كلما تذكرتها أصاب بارتعاش في جلدي، يقول: (العالم مليء بالورق، اكتبي لي،) جملة كهذه، مكتوبة بكل هذا الشغف، ستبقى حتى بعد أن يحتل الفراغ الكون.
شاعرة سورية، دمشق