سلمان رشدي في«غضب»: رواية تهجو «المرض الأميركي»
احمد زين الدين
بعد «أطفال منتصف الليل» لسلمان رشدي التي تُرجمت إلى العربية، منذ نحو ثلاثة عقود. انقطعت ترجمة أعمال الكاتب بسبب الفتوى الدينية التي حظّرت «آيات شيطانية»، وتوجس الناشرون العرب من استئناف ترجمة رواياته اللاحقة، في لحظة التباس بين الديني والأدبي امتدت ردحاً، إلى ان أُفرج أخيراً ،عن ثمرة ترجمتين عن «دار التكوين ـ منشورات الجمل» هما: «العار» و«غضب».
في الأخيرة اقترب رشدي من الهواجس السياسية، على حساب الهواجس الدينية التي هيمنت على روايته الإشكالية «آيات شيطانية»، واقترب من الخلفية الاميركية، بدل الهند التي شغلت «أطفال منتصف الليل».
وسلمان رشدي على عادته، يكتب رواية معقدة الخيوط ، لا يلمّ القارئ العادي بها، لعمق مخزونها الثقافي ، ولا يستطيع إلا بعسر، أن يفك ألغازها العديدة، و تواشجاتها اللغوية، او ان يفصل بين مستوياتها السردية المتداخلة. ورواية «غضب» التي كتبها مطلع الألفية الثالثة، تشكل ملحمة هجائية ضــد «المرض الأميركي» الذي أصاب العالم.
هجائية تسخر، وتتهكم، وتعرّي قوى التسلط المالي والإعلامي. «غضب» رواية الألفية الثالثة بكل جدارة، يعيش فيها الانسان متقلقلاً بين العوالم الالكترونية والعوالم الانسانية. بين أنسنة الآلات ومكننة الإنسان. فيها تصير «الميديا» هي الحدث، بدلا من أن يكون الإنسان هو الحدث. «سنصبح نحن المشهد والآلات ستصبح الجمهور. هي من سيشد خيوطنا ونحن من سنعمل من أجلها» ص 168. تغدو «الميديا»، كما يقول جان بودريار، قيمة استعمالية ثورية وتدميرية، حيث ثورة «الميديا» هي الصيرورة الواسعة لتدمير المعنى.
الرواية مثقلة بالرموز الميتولوجية، وأسماء المسرحيين والكتّاب والشعراء والفلاسفة والمخترعين من كل الأزمنة، وموّارة بكل التباينات بين الثقافات والأجناس والشعوب، والتناقضات الكوزموبوليتية. وهذه الكوزموبوليتية ليست غريبة عن رواياته الأخرى، التي تنحو إلى الكشف عن روحية شخصياته المأزومة التي تقدّم الدليل، على ارتباك العيش العميق. وترسم تخوم الاختلاف الثقافي المهدّدة على الدوام بالتصدّع.
وإذا كان البروفسور مليك سولانكا ذو الجذور الهندية، بطل رواية «غضب» يعاني ما يعانيه من انفصام بين ماضيه الذي لا يستطيع استرجاعه، وحاضره الذي لا يستطيع استيعابه أو التماهي به، يمثل شخصيةً نموذجية لهذا الصراع الحادّ، الذي يحول دون مصالحته مع الواقع. فإن آخرين يمثلون جوانب من هذا الانشطار الحضاري والنفسي. مثل جاك رينيهارت الأفرو ـ أميركي الملون الذي انتحر بظروف غامضة، وحامت حوله شبهات قتل الفتيات الثلاث. وكان ضحية تفجر العنف المكبوت الذي شاهده في حرب فيتنام، عندما كان يعمل مراسلاً حربياً. كذلك انتحار ميلو الكاتب الشهير الذي مارس سفاح المحارم مع ابنته. ونيلا الهندو أميركية التي اغتصبها ومواطناتها، المستوطنون البيض.
كذلك عبّر البروفسور مليك الذي يجلو بعضاً من ضمير الروائي، عن هذه الديالكتيكية الملغزة. وهذا التجاذب بين العالم الثالث الذي انفصل عنه، ومجتمع ما بعد الكولونيالي. المجتمع المعولم الذي لاذ به، والذي يحاول أن يتماهى به دون جدوى. ومثّلت علاقته بابنه ذي الأعوام الثلاثة، الذي يستعطفه ليعود إليه، وإلى أمه المطلقة إيليانور، دون أن يقوى مليك على ذلك، لأسباب يجهلها هو نفسه. مثّلث أزمة تآكل روابطه مع عائلته، ومع ماضيه، ومع حاضر لا يُطاق . فابنه «اسمعان» أي السماء (هل ثمّة رمزية؟) متروك لوالدته دون أسباب. وهذه العلاقة المتوترة، تظهير آخر لعلاقة الابن الملتبسة بأبيه، في «آيات شيطانية».
فداخل سولانكا يتأجّج شعور مؤلم، كلما حاول أن يتماهى مع واقع، لا يستطيع مجاراته، وماضٍ تنبذه أعماقه، يتراءى فيه وجه عمه (زوج أمه القاسي).
تختمر في أبطال سلمان رشدي بذور التحوّل والانزياح والاغتراب. وهم يخفون وجوههم الحقيقية بالأقنعة. كما قيل عن رينيهارت الذي تقنّع، حينما أطلق الرصاص على نفسه. فالأقنعة تجعلهم يؤدون أدوارهم المصطنعة أو المفروضة عليهم، خاصة في عالم كوزموبوليتي، وفي متروبول ضخم مثل نيويورك. عالم سوبر صناعي، حيث طوفان الأشياء المصنّعة الجاهزة، التي تعمل تروس الحضارة التكنولوجية على إخراجها من جوفها، لتفترس عقول الناس وقلوبهم، إلى درجة جعلت مليك يصرخ في وجه أميركا، في ذروة شراهتها :«افترسيني يا أميركا».
بابل الجديدة وأميركا الانهيار العصبي
وكما فعل في روايته «أطفال منتصف الليل» التي رسم فيها لبلده الهند عشية الاستقلال لوحة بانورامية، بكل مآسيها وخرافاتها وأساطيرها واستيهاماتها، كذلك يرسم رشدي لأميركا المعاصرة لوحة معقدة الوجوه، ومتشعبة الأشكال، ومتباينة الخطوط . في «غضب» يظهر وجه أميركا الفاتن ، المشعّ، الغرائبي. ويظهر صخبها وبريق إعلامها، وثرواتها الأسطورية، وتلوّنها وتحولاتها.
في هذه الرواية التنبئية، يبذل رشدي كل ما وسعه، من أجل تفكيك رموز الحياة الأميركية. هذه الحياة الممكننة، التي تجعل كل أميركي معرضاً لإنهيار عصبي. «كل اميركي يحترم نفسه، يعرف أسماء نصف دزينة للأدوية الفعالة المضادة للانهيار» ص214. ينقل لنا هذا الاحتقان المحتبس داخل هذا العالم، ويتوغل في تلافيف الأحلام التي يجهضها منطق الحياة الرتيبة الآلية. رغم ما لهذه الحياة الأميركية من حاسدين، يحملون في طياتهم «أمركة مقنّعة». أميركا موضع اشتهاء العالم، بما تعد به، وفي القلب منها نيويورك، التي يصفها سلمان رشدي، في مقابلة له، وهي في لحظة ألقها وبهائها وكبريائها، بأنها «برج بابل جديد» بحسب عبارته لصحيفة لوموند الفرنسية. فنيويورك قلب العالم النابض، المتغطرس، المتسلط، المفرط في حيويته. وحلبة العالم التي يتصارع فيها أثرياء المعمورة، كما البشر الذين يكدحون إليها نشداناً للمال والنفوذ والشهرة. ويتحول صوت رشدي الرؤيوي إلى صوت كابوسي مفجوع، يقترب من أصوات أنبياء العهد القديم، وعرافات اليونان القديم منذراً بسوء المآل. ويصف مليك سولانكا بطله الأنغلوـ هندي المتخصص بتاريخ الأفكار، نيويورك بروما العصر الحديث. والرواية تبسط رؤية نقدية لعالم السياسة والثقافة، وتقدح في أخلاقية العصر الحديث، وفي مفاعيل الرأسمالية المهووسة بتراكم الأرباح على حساب المصير الإنساني . وتهجو الرواية العصر الرقمي الذي حلّ محل اللغة، وانتصار الرياضيات على الأبجدية، وخنق الصوت الانساني، والتلاعب به، عبر تصنيعه وتعليبه، كأي سلعة أخرى. حيث يفقد عفويته وديناميته المرتبطة بالجملة العصبية والنفسية للإنسان.
طبقات كثيفة
تتحرر كتابات رشدي من العلاقات السياقية والتتابعية، وتستولد من داخلها خصائصها وخصوصياتها. ولأن رشدي لا يكترث بالتتابع السردي، فإنه يتلاعب متنقلاً بين الحاضر والغائب، وبين الواقعي والحلمي. والحسي والتجريدي. ويُذوّب تياره السردي في سيولته، المعيشي والمتذَكر والمتخَيل. كذلك شخصياته المتعددة الروافد. تتغلغل فيها مخلوقات تكنولوجية، وأخرى أسطورية ميتولوجية، وأمشاج من اختلاقات روائية، ومقتبسات سينمائية.
عالم رشدي كثيف بطبقاته الثقافية، وبكائناته وشخصياته المربكة، الملتبسة في سلوكها، والمبهمة بتفكيرها. وفضاؤه الروائي الذي تتبعثر فيه الجزئيات والتفاصيل والتداعيات. وتختلط الأصوات والوجوه، يشير إلى شبكة معقدة من الدلالات، المفتوحة على العديد من المعاني والاحتمالات، وعلى مسار فكري باطني. حيث تتوتر القصة بإيقاعها الداخلي العميق. ورغم أن سرد سلمان رشدي يهشم العتبة الفاصلة بين الواقع واللاواقع، إلا أن روايته تحيلنا على أمكنة واقعية حقيقية، وعلامات خارجية كثيرة: أطباق الأطعمة والمشروبات الروحية ، والأفلام، والإعلانات، وعالم الموضة والأناقة، والحفلات الموسيقية، والمعارض التشكيلية، والقنوات التلفزيونية، وسباق الدراجات. كما تقتبس الأشعار، والكتابات المقدسة، والمسرحيات. وتحيلنا الرواية في الوقت عينه، من خلال مستوياتها السردية المتداخلة، إلى مخالطة السحري بالواقعي. وإلى فضاء التداعيات والتمثلات الذهنية، وإلى فضاء في طور التكوين والتبلور، يشق داخله المسارات الباطنية والحدسية واللاشعورية.
وقد بذلت المترجمة فاطمة النظامي جهداً حثيثاً، للإحاطة بهذه الانتقالات المفاجئة بين الضمائر، وبين الأزمنة والشخصيات، والتدقيق في الفروقات اللفظية والرطانات اللغوية.
في هذه الرواية الساخطة ، الهجائية ، المتهكمة، الغاضبة، يعيش مليك سولانكا الذي انتقل إلى نيويورك، كما انتقل رشدي نفسه. منكّباً على صناعة دميته «المثقفة» سرفليت، بعد استقالته من منصبه الجامعي .
تبادل أدوار
هذه الدمية التي تحولت إلى نجمة تلفزيونية، بذّت باربي الدمية الشهيرة. حين تطورت وغدت تجالس كبار الفلاسفة والمفكرين والمخترعين ، قديماً وحديثاً، وتطرح عليهم الأسئلة الوجودية والفكرية. وأحياناً تسخر منهم. خرجت الدمية من رقابة خالقها سولانكا. هي سليلة فرنكشتاين الذي ابدعته ماري شيلي، والذي غزا السينما، ومثّل الوجه المرعب، والمولود المسخ للثورة الصناعية آنذاك. كذلك تحولت الدمية المتفلسفة سرفليت وتكاثرت في عصر الميديا هذا. وتبادلت الأدوار في الرواية مع نساء، فحلت محلهن، وحللن محلها، وأضحت الدمى «تحدق بعيون مشعة خبيثة».
في هذا النزوع التبادلي بين الدمية والمرأة ، حيث تغدو الدمية «الطوطم» هي الأصل، والمرأة هي الصورة، يترسخ العالم الممكنن والمبرمج آلياً. وتتحول المرأة إلى سلعة تجارية، كما في حياة الشابات الثلاث اللاتي ارداهن قاتل أو قتلة مجهولون.
يعيش سولانكا هذا الشعور الوجودي الذي يسميه سلمان رشدي في روايته: «المتعذر تفسيره». اي إشكالية المعنى الملتبس، القابع داخله طوال حياته. وخاصــة أنه الشخص الذي يقف عادة، عند منعطــفات الأزمنة والثقافات والأعراق والقومــيات. والذي يعيش استيهامات العاطفة، فلا يدرك إن كانت نيلا ماهاندرا، عشيقة صديقه السابق، عشيقته هو، أم هي ابنته. كذلك يراوده إحساس بإثم جريمــة لم تكتــمل فصولها، حينما رفع السكين على زوجــته وابنه النائمين، وفر إثرها إلى اميركا، ويســيطر عليه لاوعي شقي. إحساس بالذنب لتصـرفات لا يدرك كنهها. فيعتقد أنه هو الذي ارتكــب جريمة قتل الشابات الثلاث، اللاتي رصــدت أخبارهن وسائط الإعلام فترة طويلة. وكــان يخاف من رؤية قطعة الإسمنت، لأنها تشبه القطعة التي قُتلت بها الفتيات. حالة نموذجية لإنسان الحياة المعاصرة. إنسان كافكاوي، يحمل في عنقه وزر التدهور الأخلاقي والإنساني. ورغم أنه تنفّس الصعداء، على إثر تركّز التحريات في الجريمة المثلثة، على اتهام شبان ثلاثة، فإنه لم يكن قد شعر في سريرته ببراءته تماماً. هل كان سولانكا بحسه المرهف، وشعوره الإنساني الحاد، يتخيل انه أسهم في الجريمة، عندما صنع دميته التي غدت مثالاً لهن، ولكل امرأة تريد أن تتحول الى أيقونة. الى دمية، تصنعها الميديا الحديـثة، وتصنع لها مواصفاتها؟
إنسان مثل سولانكا لن يعثر على مكانه وموقعه ، في هذا الوسط المتقلّب، المدمر، الصاخب، الفوضوي. وكل ما يمكنه أن ينتظره، هو أنه لن يستطيع ان يبرح حياة ، تكمن أهميتها وقيمتها، في أنه يتعذر تفسيرها.
السفير