دليل طبخ المستوطنين: استعادة الذاكرة عبر الوان الطعام في شرق افريقيا وبناء قصة الهجرة والمنفى والانتماء
ابراهيم درويش
في عام 1994 نشرت في امريكا من اعداد وتحرير جوانا قاضي انثولوجيا للادب، الشعر والقصة، المكتوب باللغة الانكليزية من كاتبات امريكيات وكنديات من اصول عربية، وناشطات نسويات معظهمن اكتشفن جذورهن العربية في ظل حرب الخليج الاولى. المجموعة تحمل اسم ‘طعام لجداتنا’ حافلة بما هو طيب من الشعر والقصة والنقد والشهادات لكاتبات مثل ليزا سهير مجاج، تريزا صليبا، جي اي خواجة، بابرا نمري عزيز، ماري سلوم، نعومي شهاب ني ومي منصور مان. واللافت في الكتاب انه يحتفل بطعام الجدات الذي حملنه معهن من ارض الوطن، بلاد الشام الى المهجر، الخبز والزعتر واللبنة وغيره من الانواع. المجموعة صورة عن الحراك الادبي بين اجيال من الكاتبات العربيات يحاولن التوصل لتعريف لذواتهن عبر الادب وتأكيد هويتهن المتوزعة التي تشير احيانا لهويات متعددة، تدخل فيها عنصر الارض الاولى، الدين، الوطن الجديد، القبيلة والعشيرة واشياء اخرى لكن ما يثير في المجموعة هو العودة للطعام الذي يبقى في الذاكرة ويظل مجالا للبحث عن الاصول التاريخية للجماعات البشرية، ويؤرخ للحراك البشري والهجرات حيث يتداخل الطعام وعاداته في حيوات الناس.
بقايا اللغة والطعام
ففي العادة يرحل الغزاة المستعمرون ويبقى منهم لغاتهم او كلمات منها وانواع من طعامهم ومظاهر من لباسهم. ومن هنا يجد الباحثون الانثروبولوجيون انفسهم امام حقل من المعرفة ثري يفتح لهم افاقا من التعرف على العلاقات البشرية والهجرات والرحيل السكاني من مكان الى مكان. وفي العادة يحمل النوع الجديد من الطعام وانواعه اسماء مميزة، ففي مناطق الارخبيل الملايوي، حيث شجعت السلطات الاستعمارية البريطانية الهجرات الجماعية وبشكل كبير من الصين الى الموانئ او ‘مستوطنات المضيق’ كما هي معروفة هناك ظهر نوع جديد من الطعام كانت تعده الخادمات الصينيات عرف ولا زال معروفا حتى اليوم باسم ‘نونيأ’ او ‘بيرانأكان’ وهو مزيج من الوجبات الصينية والملايوية، يتميز احيانا باختلاف المقادير من البهارات المستخدمة في كل وجبة واخرى. ويعرف هذا الطعام ايضا في اندونيسيا ومناطق مثل بينانغ ومالاقا في شمال غرب وجنوب ماليزيا.
شرق افريقيا منطقة صهر أخرى
هذه الافكار حضرت اثناء مطالعة كتاب جديد يحاول استحضار التجربة هذه في سياق اخر وهو شرق افريقيا، المنطقة التي كانت محل صراع طويل بين القوى المتحاربة على السيطرة على مناطق نقل البهارات وانواعه والرقيق. والمنطقة هذه مهمة من ناحية التمازج السكاني بين مناطق جنوب وشرق الجزيرة العربية وشبه القارة الهندية، وحتى جنوب شرق اسيا، فقد ذكرتنا احداث مدغشقر في هذه الاخيرة بهذه الطبيعة التي ادت الى التمازج البشري والسكاني في نسيج جديد، ذلك ان معظم السكان في الجزيرة هذه من اصول عربية واسيوية، وفي بحث للباحث في تاريخ اللغة العربية كيت فيرستيج تتبع اصول العربية واسطورة نشوئها بين قبائل في الجزيرة هذه حيث تم خلط اصل النشوء بمعتقدات محلية، تماما كما حدث مع نشوء امة الاسلام الامريكية، في ثلاثينيات القرن الماضي حيث خلط مؤسسها بين الاسلام والمسيحية ومعتقدات اخرى اضافها لتأكيد تفوق السود على البيض. وبالعودة الى شرق افريقيا فالعرب انشأوا مدنا على شواطئه امتدت من ارتيريا حتى موزامبيق، ولكن ما ازدهر منها كحواضر للعلم والمعرفة ظل وقدم علماء مشهورين في الفقه والجغرافيا معروف مثل زيلع في الصومال التي خرجت علماء، ومومباسا وماليندي وزنجبار وغيرها. وظلت هذه المدن صلة الوصل ما بين الساحل والداخل الافريقي والعالم العربي. وما اكد تداخل هويتها الافريقية بالعربية هي حكم سلاطين مسقط الطويل لها وان تحول اسميا بعد دخول الانكليز المعادلة في المنطقة.
مشكاكي واكني وابن بطوطة
لقد ترك العرب هويتهم الحضارية على المنطقة خاصة في زنجبار التي كانت مركز حكام البوسعيديين في المنطقة قبل ان يأفل نجمهم. وعلى العموم فاللغة السواحيلية هي اهم نتاج لما تم من هذا التلاقح العربي الافريقي ولا تزال على الرغم من محاولات الدول القومية الجديدة في المنطقة ‘سحولة’ اللغة الى تخليصها من المؤثرات العربية والانكليزية حافلة بما هو عربي بسبب الصلة الوثيقة مع الاسلام. والاهم من ذلك هو ما تركه العرب على الساحل والداخل من اثار في مجال الطعام وعاداته واسمائه ‘حلوى، مشكاكي’ ولقد سجل الرحالة المغربي المعروف ابن بطوطة، الذي زار المنطقة شيئا من ملاحظاته حول الطعام وعاداته مشيرا الى اكلة ‘اكني’ التي تقوم على اللحم والارز، ولا تزال معروفة الى اليوم في المنطقة، كان ابن بطوطة يكتب في عام 1324 حيث ستتحول منطقة شرق افريقيا لمنطقة صراع على المصادر الطبيعية خاصة التوابل والبهارات وتنافس بين العرب والبرتغاليين اولا قبل ان يهزم الاخيرون وفي المرحلة الاخيرة دخول الانكليز للمنطقة واستعمارهم لها. والسبب في هذا ان شرق افريقيا كان جنة الله على الارض من ناحية ما هو متوفر فيه من انواع المحاصيل، من الذرة والقمح والارز والزيت والسمن والحمص والعسل والريحان، بل ان تنوع حيواناته جعل حكام المنطقة لا يتورعون عن بذل عطاياهم لحكام الدول التي تمتد حتى الصين ففي عام 1415 تم ارسال زرافة في رحلة طويلة بالسفينة كهدية من حكام المدن الساحلية لامبراطور الصين. وقام سلاطين زنجبار تحديدا بتحويل الجزيرة في بداية القرن التاسع عشر الى منطقة زراعة للقرنفل اشتغل في حقولها الاف العبيد وذلك من اجل الوفاء باحتياجات السوق العالمية. وكما اشرنا جلب العرب معهم عاداتهم وتقاليدهم واكلاتهم من الطعام والشراب مثل الشي/ الكباب الذي يعرف محليا باسم ‘مشكاكي او مشاكيكي’ ويشوى في كوانين صغرى ولا تزال عاداته معروفة حتى اليوم في مومباسا وزنجبار وغيرهما من مدن الساحل. وشراب ‘مداف’ و’ملاي’ والقهوة. اضافة الى البطاطا المقلية التي اخترعها الهنود القادمون مع المستعمرين البريطانيين للعمل في المزارع وبناء سكك الحديد، وهي قائمة على بطاطا ‘كاسافا’ التي تزرع في معظم مناطق افريقيا. وجلب الهنود معهم اكلاتهم التي لم تكن ممتازة حتى بمعاييرهم بسبب الفقر ولكن مع تحسن اوضاعهم المعيشية وتحولهم الى طبقة جديدة تعمل كوسيط بين السادة المستعمرين والوطنيين طوروا انواعهم وعاداتهم في مجال الطعام. ومثلما حدث مع العرب فقد اثر الهنود بأكلاتهم على الوطنيين، في تجربة مشابهة لما حدث في جزر الملايوي، فقد تعلم الخدم الافارقة عادات الهنود واكلاتهم واضافوا عليها ما يصلح من مذاقات اي طوروها وقدموا انواعا مثل اكلة ‘ماتوك’ التي تتنوع بتنوع ما يستخدم فيها مثل الفلفل الحار، الكاري والفستق، اضافة لحلوى معروفة باسم ‘انغونجا’. الطعام وانتقاله، وتأثيره على شعوب واقوام يحمل معه ذكريات تاريخية واحيانا ملامح شخصية. ففي المدن غالبا ما تنقلك رائحة ما الى مرحلة من طفولتك وتذكرك بأمك او بيتك واهلك وجلستكم يوم الجمعة حول الوجبة الرئيسية بعد الصلاة في المسجد. وعادة ما يحيي المهاجرون اكثر من اهلهم في الوطن طقوس الطعام. في لندن خذ عينة من اسماء المحلات والمطاعم كلها تذكر بالوطن وتحاول استعادته ‘ميرمية’، ‘زعتر’، ‘مسكوف’، ‘زيتون’، ‘بغداد’، ‘شيراز’ واسماء عائلات كلها تحاول الامسام برائحة الوطن مع ان طعامها قد لا يكون مثل ما كانت تطبخه الامهات والجدات. ويعرف بين الصينيين ان اول شيء يسألون عنه عندما ينزلون في المدن الاخرى ‘القرية’ الصينية مع ان الطعام الصيني تمركز في الوعي الغربي وصار لازمة ولم يعد ‘صرعة’ ومعه الطعام الهندي والعربي’. كل هذا يحدث بطريقة طبيعية حيث تتمازج الاكلات وتفقد احيانا صلتها بالوطن القديم ولكن في احيان اخرى يتم الباس الطعام هوية قومية خاصة كما يحدث بالطريقة التي يقوم فيها الاسرائيليون بالباس الطعام هوية دينية وقومية، الكبسة اكلها ابناء التوراة في زمن موسى، الفلافل هو طعام اسرائيل الوطني، الكسكس كذلك كما يشير كتاب عن الطعام في اسرائيل صدر قبل عام او عامين.
تجربة في يوغندا
هوية الطعام وعلاقته بالهجرة هي موضوع كتاب اصدرته الكاتبة الصحافية والمعلقة على شؤون العرق والعلاقات الاثنية في بريطانيا ياسمين البهائي براون وهي ابنة مهاجرين هنديين قبل ان تنقسم شبه القارة الهندية. وتحكي فيه اي في الكتاب الجديد قصة الانتقال والمنفى والهوية المتعددة بسبب المنافي وعلاقة ذكرياتها بالطعام وطقوسه. الكتاب يحمل عنوان ‘دليل طبخ المستوطنين: مذكرات عن الحب، الهجرة والطعام’ عن دار بورتبيلو، لندن. وهو كتاب طريف في طريقة عرضه للسيرة الذاتية وعلاقتها بمفهوم الهجرة، والنمطيات سواء في الشرق والغرب والمواقف المتحيزة من شعب لآخر. ومع انها حكت قصتها في يوغندا قبل قرار عيدي امين عام 1972 طرد 90 الفاً منهم. وكان الحادث موضوع كتابها ‘لا مكان اجمل من الوطن’ قبل عشرة اعوام تقريبا. ولكن ما يميز الكتاب الحالي انه يحاول مزج التاريخ، والسيرة الذاتية، خاصة حكاية امها جينا ومعاناتها في يوغندا وبريطانيا وقصة الطعام معها. في توزع الحكاية على مفاصل تفصلها وصفات اكلات كانت تحبها معظمها من عمل الأم لكنها معروفة في تقاليد الطعام الهندي، بعضها له ارتباط بالمسجد وحارسه، الخادم، الاب ووجبة ما بعد المدرسة. والوصفات تقدم بدون صور ولكنها مشفوعة باسرار وطرق طبخها. ويرحل الكتاب مع المهاجرين منذ القرن السابع الميلادي الى القرن السادس عشر. وظهور الهنود في نهايات القرن التاسع عشر مع الانكليز لبناء السكك الحديدية مع انهم كانوا موجودين قبل هذه الفترة وعملوا مع العرب، كمحاسبين وتجار رقيق الا ان عددهم زاد واندفعوا للمنطقة لعدة اسباب لها علاقة بالهروب من اوضاع الهند او البحث عن فرصة ثراء. وتعتقد الكاتبة ان تجربة الاسيويين في شرق افريقيا، تظل من التجارب التي لم تحظ باهتمام كبير من الباحثين الغربيين ويلوم الكتاب او بعضهم الاسيويين على قلة اهتمامهم بتسجيل تجربتهم ويبدو ان هذا عائد الى نظرة رجال الاعمال والهنود عامة للتعليم فهو عجلة للمال وليس للثقافة. يظهر هذا من موقف خال او عم الكاتبة، شمس، العنصري في مواقفه من الوطنيين ‘ ابناء الغابة’ والباحث عن الثروة ولكن هذا لم يمنعه من البحث عن اللذة مع المحليات في المباغي. وترى الكاتبة هنا ان هناك نوعين من الهنود ممن قطعواعلاقاتهم مع الوطن الام تماما وتزوجوا من المحليات ومن ابقوا الصلة مع الوطن الهند، ورفضوا والحالة هذه عرض تجنيسهم من سادتهم الانكليز. مواقف الكاتبة من آسيويي شرف افريقيا ‘واهينيدي’ معروفة فهي ترى انهم حملوا فكرة الثقة بأنفسهم حتى حلول الساعة التي لم يكن بامكانهم فيها التغيير. تقول ان كمبالا العاصمة اليوغندية كانت صورة عن بومبي او بوليوود يعيش على اطرافها السكان السود في اوضاع الفقر والتشرد. لكن الكاتبة ترى ان مأساتهم كان يمكن ان تحصل في اي مكان في المنطقة وليس يوغندا تحديدا، فتصريحات المسؤولين في كينيا وتنزانيا كانت تحمل مواقف عنصرية من السكان الهنود. ولان عزلتهم عن السكان الاصليين وغناهم جعلاهم محلا للحسد والجريمة والسرقة. المواقف بين الطرفين متبادلة من ناحية المواقف والنمطيات. بروان ترى ان الكتابة عن افريقيا محاولة للامساك بالذاكرة ففي الوقت الذي تبهت فيه الذاكرة عن اللغة وعن المكان وجماله وعنفه- افريقيا تعيد وجبات الطعام التي رحلت مع المنفيين الى اماكنهم الجديدة ذلك الزمن والقه. الطعام المقدم هنا هو مزيج بين افريقيا وآسيا، بعضه اصلي وبعضه اخترعه المهاجرون مثل الكاسافا المقلية. تعترف الكاتبة ان نسبة الاسيويين في يوغندا وان لم تكن تزيد عن 1 بالمئة الا انها كانت تملك القوة والمال، ولكنها وان ظلت على عاداتها القديمة الا ان نسبة منها تماهت مع المجتمع وقاتلت المستعمر وعملت في صالح البلاد الجديدة. مواقف البهائي براون من امين ونظامه سجلتها في كتابها الاول، وترى ان وصوله للسلطة عنى غياب شمس الاسيويين هنا في يوغندا. وترى فيه شخصية مضحكة وتقول انه كان ملاكما وان عائلته اعتنقت الاسلام عام 1910. عادت الكاتبة لاحقا الى يوغندا واسترجعت ذكرياتها خاصة ان الهنود رحلوا منها بدون شيء ويعيشون الان بعيدا عن الضوء موزعين في لندن وداخل المدن البريطانية بعد ان كانوا هناك اغنياء واثرياء ولكن وان كانت منطقة شرق افريقيا مدينة الصهر فلندن وبريطانيا تظلان تمثلان مركز الصهر فقد قامت بريطانيا على فكرة الصهر وتعدد الاصول كما يرى الكاتب من اصل كاريبي كاريل فيليبس فلا احد ينتمي لمكان واحد ولا احد جاء من المكان الذي جئت منه.
* الكاتبة ياسمين البهائي براون معلقة دائمة في صحيفة ‘الاندبندنت’ وتظهر مقالاتها في ‘ايفننغ ستاندرد’ وتكتب عن العرق والجنس والاقليات ولها ‘الوان حقيقية’ و’لا مكان اجمل من الوطن’ وناشطة في عدد من المؤسسات المخصصة للمساواة العرقية.
ناقد من اسرة ‘القدس العربي’
الكتاب: The Seler’s Cookbook
A Memoir of Love, Migration and Food
By Yasmin Alibhai-Brown,
Portobello Books, 2009
القدس العربي