صفحات ثقافية

ديناصـــور أدبـــي

null
عباس بيضون
مهرجانات او ثلاثة في القاهرة والشارقة. ربيع للشعراء في كل مدينة وبلدة فرنسية. مع ذلك فالجميع غاضبون. الف شاعر اجتمعوا في مكان واحد لكن الشعر لم يرض. ما أكثر الشعراء وأقل الشعر يقولها، على حد سواء، كهول وشبان. يقولون أن الشعر لا يقيم في بيوت ومهرجانات وأن العالم كله مداه. لن نخالفهم بالطبع فمن يخطر له أن الشعر ميسور بهذا القدر، مبذول بهذه الوفرة. مع ذلك نشعر بأنهم اشتطوا في غضبهم. نفكر أحيانا ان هذا الغضب لا ينفع الشعر كثيرا فهو يغلو في تنزيه الشعر فيما الشعر، كما نعلم، يرتجف من البرد. يظنون أن الشعر لا يزال إلهاً فيما هو من زمن بعيد بات متسولاً. أتينا من دولة الشعر فاليوم لا تتفضل عليه دور النشر والميديا بأكثر من لقمة، ينساه القراء وينساه النقاد وتنساه الصحافة وينساه الناشرون كأنه لم يكن. أتينا اليوم من دولة الشعر ومقام الشعر وحضرة الشعر، فهو تقريباً ديناصور أدبي وقد تكون هذه اقامته الأخيرة على الأرض، ليس في هذا مبالغة فاليوم يطرد الشعر من السوق حيث تكون السوق، ولا تقوم له مناسبة الا بتفضل من مؤسسة او دولة، ولا يزال يلقى الدعم الذي تلقاه انواع مهددة. ولا يزال يذكر كرمى لتاريخ الأدب ولمكانته في الماضي القريب وهذه جميعها لا تجعل له قائمة ولا تحول دون تداعيه. هذه هي حال الشعر ففيم الغضب، ولمن نغضب. للشعر وهو في حاله هذه غير قادر على الغضب، أم لنفوس تحسب ان الشعر عزها ومقامها. ما في الشعر من بؤس ومن انتكاس لا يستوي معهما الغضب، قد يحتاج الى كل شيء إلا إلى هذا الانتخاء والاعتداد، فهو بالتأكيد لا يستطيع ان يفاصل او يساوم او يشترط او يرفض او يرد، كل ما يقيل له عثرة مقبول وكل ما يقيم له ذكرا مشكور وكل ما يجعل له عيدا او اجتماعا باسمه وعلى اسمه محمود. لو تركت الأمور لتلقائها وعلى رسلها وترك للسوق أن تقرر لما سمعنا للشعر ذكراً، أي ذكر، ولكنا نتحسر على مناسبات كهذه، ولَكُنّا لا نصدق ان تكون للشعر عودة.
لا بد من وعي لما نحن فيه من ضيق. وعي يدعونا إلى قدر من التواضع والتنازل والبساطة. من كانت حاله حالنا، ومن يدري ان الشعر جميعه صار في حال من الازراء والبؤس وجميعه غدا مهجورا ثانويا. من يدري ذلك لا يدعي ملكاً ولا صولة ولا مجداً فارغاً. من يرى ذلك لا يفاضل ولا يطاول ولا يقسم الناس منازل وطبقات، ولا يهم بطرد أحد من جنة الشعر ولا يضيق بأحد ولا يجعل من الشعر كنزاً مرصوداً، أو يدعي له عرقا مخصوصاً ورحماً ثابتة، ولا يقيم من نفسه معياراً ولا حارساً، ولا يصرخ على غيره ولا يقدم قوائم سوداء ولا بيضاء. من يعرف ان هذا هو حال الشعر يعرف انه لم يعد تاجاً على رأس أحد، وأن من طلبه على ما هو فيه من الثانوية، ودنو المنزلة جدير بأن يلقى التشجيع والدعم. وأن ليس لأحد ان يطرد أحدا أو أن يضيق بأحد. وليس لأي ان يقسم الناس منازل وطبقات، او ان ينصب من نفسه معيارا أو أن يُصنِّف بين كبير وصغير فالشعراء عند انفسهم متساوون، ومن شاء ان يقرأ او يحب او يفضل فهذا شأنه وعلى حسابه. ما فيه الشعر من حال يكشف الحجاب فليس هناك اليوم سوى نصوص تتناظر وانداد فيما بينهم. اما المفاضلة فليست من شأن الشاعر، إنها شأن القارئ إن وجد وإن لم يوجد فلا بأس ان تتساوى النصوص تساوي الاشخاص والناس والحقوق.
ثمة بالطبع من لا يدرون ما صار اليه الشعر. ما زالوا في جنة بائدة ومملكة ضائعة، هؤلاء يفعلون ما يشاؤون. ينصبون انفسهم وينصبون غيرهم ويقيمون من الخراب عرشا ويولون ويعزلون ويتسمون كما يحبون. اولئك لا نجادلهم في ما هم فيه. قد يكون هناك من يتابعهم ويصدقهم ويقرهم لكن هذا شأن اولئك وهؤلاء، لهم ان يجترحوا ألقاباً ومسميات وأدواراً. ليتسموا فراعنة أو امراء أو فطاحل أو محولاً. ليسوا وحدهم في هذه الأمة من يقيمون في سلطنة مفقودة، منذ الأندلس لا نزال نعيش في حلم العودة.
ثم الا يدعونا ما نحن فيه إلى سؤال انطولوجي. اذا لم يقم الشعر في فنادق واحتفالات فأين نظنه يقيم. وعلى نحو آخر أين هو الشعر. والسؤال هو نفسه بصيغة ثانية: ما هو الشعر: أعرف أنها أسئلة بلا جواب لكن من لا يفتأون ينفون الشعر عن هذا وتلك لا يحترسون من ان يواجهوها. اذا قلت ان هذا ليس شعرا فلن تأمن من ان يسأل أحد عن عيار الشعر، وستنتبه عند ذلك ان ليس بين يديك سوى قصائد، سوى نماذج ولا يدعي أي منها انه الشعر أو أنه عيار الشعر او أنه مثال الشعر، ليس بين يدينا سوى قصائد أحببناها وربما نجد فيها تجليا للشعر، لكن هذا لا يعفي من انها لا تستغرق الشعر ولا تحصره. اين هو الشعر، وما هو الشعر، لم يدع أحد أن الشعر ينتهي في هذه القصيدة ولا هذا الاثر، وإن تراءى أحيانا أننا وجدنا نهاية للشعر وأن شعراً ما يمكن ان يكون كماله وختامه، للأنبياء والآلهة خاتمة، لكن الشعر لا ينتهي، واذا كان الأمر فمن حقنا أن نفكر اذا كان بدأ أصلاً. من حقنا ان نسأل اذا لم نكن دائماً في انتظاره وما نسميها اشعاراً ليست سوى وقفات الانتظار.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى