صفحات ثقافيةطيب تيزيني

المثقف “الاستثنائي”

null
د. طيب تيزيني
هنالك ظاهرة تكاد تكون حاضرة في المؤتمرات أو الندوات الثقافية العربية، وكي لا أُبقِي هذا الحكم عاماً دون ضابط واقعي، أشير إلى أن الكثير من الزملاء في معظم البقاع الثقافية العربية يرون هذا الرأي (وقد تم ذلك عبر استطلاع شخصي قمتُ به). أما الظاهرة المعنية هنا، فتتحدد في بروز أو إبراز أحد المشاركين، بحيث ينال حصة الأسد من الوقت المخصص لمشاركيْن أو ثلاثة، ولذلك، يجد المشاركون الآخرون أنفسهم أمام ضرورة القيام باختزال مُخلٍ لمداخلاتهم أو مساهماتهم. وتأخذ المسألة في هذه الحال احتماليْن اثنين، يتمثل أولهما في أن مدير الجلسة يتصرف كمعلم في مدرسة ابتدائية عربية يتكلم كما يشاء، ويعطي الكلمة لمن يشاء ويحجبها عمَّن يشاء، وفي الوقت الذي يشاء. أما الاحتمال الثاني فيُفصح عن نفسه، حين يظهر المدير المذكور منحازاً لمشارِك ما، فيتحول هو إلى امتداد لهذا الأخير أو مدافع عنه من طرف، أو حين يأخذ دور الناقد أو المهاجم للمشارك المعْنِي من طرف آخر، فارضاً بذلك -على المشاركين- ما يختاره وما لا يختاره.
وواضح أن مدير الجلسة في كلا الاحتمالين يتصرف من موقع أنه “رئيس الجلسة”، الذي يتناول مداخلات المشاركين كما يحلو له، مقوِّماً ومقيِّماً إياها بلغة “رئاسية” ذاتية، ومفعمة بالنصائح الوعظية، وترتقي وتيرة ذلك حين يكون المتحدث المشارك من جيل الشعارات الشمولية من مختلف الاتجاهات الأيديولوجية، أو من جيل الخطابات الفاقعة، التي تسعى إلى إثارة حماسة منفلتة من عقال العقلانية. وفي هذا وذاك، غالباً ما تكون “اللجنة المنظمة” للمناسبة القائمة (مؤتمر أو ندوة…إلخ) أو مَنْ يقوم مقامها، حاضراً. وتتعاظم التوترات لدى المثقف “الخطيب” ولدى بعض الحضور من الجمهور، حين يعرّج على سيرته الذاتية فيسترسل ويسترسل، وينتهي أخيراً بتصفيق مناسب قليل أو كثير من الحضور. ويُتمَّم الموقف بالنسبة إلى المثقف الاستثناء حين تنفضُّ الجلسة على وقْع همْهمة يُصدرها بعض أو أحد أعضاء اللجنة المنظمة باتجاه تشكيل وفد مصغَّر على رأسه المثقف الاستثناء للقاء شخصية أو أخرى من البلد المضيف، ويكون ذلك بمثابة إيذان بنهاية المؤتمر أو الندوة.
هكذا تتبلور حالة من حالات الحضور الثقافي “الجماعي” في الحياة الثقافية العربية الراهنة، لتنضم إلى حالات الحضور الجماعي الأخرى، مؤسسة -على هذا النحو- لبِنية ثقافية عربية قابلة للاختراق باتجاه التشظي أولا، وعلى نحو يُفضي، كثيراً أو قليلا، إلى تضخيم وتعميم الفوضى في العمل الفكري (وغيره) ثانياً. وهذا، بدوره، يقف عائقاً أمام استحقاقات العقلانية والشفافية ومبدأ التراكم التاريخي في حقل المعرفة والثقافة. وبهذا، تفقد معظم مظاهر النشاط الفكري العربي إمكانات النمو والتقدم، مع هيمنة لـ”المثقف العربي الاستثنائي” وغياب وتغييب لضوابط العمل، بحيث يفتقد هذا الأخير شيئاً فشيئاً ما يمكن أن يجعله مثمراً منتجاً وآتياً في سياق مشروع ثقافي ما.
واللافت في ذلك غياب “علم تنظيم العلم أو الثقافة” على الصعيد العملي التنظيمي، لصالح نمط من المباريات السجالية، التي تهدف للوصول إلى الكثير من المعلن أو المضمر مما يطرحه المنتدون أو المؤتمرون، دون توقف عند السؤال الابستيمولوجي (المعرفي التأسيسي) التالي: ما الذي أنجزته هذه الندوة- أو ذلك المؤتمر- في الحقل الذي انطلقت فيه؟ ولعلنا نلاحظ أن بعض المِنصّات الثقافية الإعلامية قد تجاوزت ذلك النمط الثقافي السِّجالي، حيث أدخلت تقليداً جيداً في الفكر العربي، يتمثل في ضبط ما يصل إليه الناشطون في هذا الحقل، وفي توثيقه وتعميمه.
لقد نُظّمت ندوة فكرية ثقافية في إحدى المؤسسات العربية، وبذل منظّموها الكثير من الجهد والمال، في سبيل إنجاحها. وفي سياق تقديم العروض، تحولت إحدى المداخلات إلى محور الندوة الغالب، بعد الإطاحة بعرض فكري لم يرُقْ لبعض المشاركين، ومنهم صاحب المداخلة المعنية. فتوقف الحراك الثقافي المتوهج الذي كان آخذاً مداه، حين تقدم أحد الحضور وفرض شخصيته (الكاريزمية)، كما عبر أحدهم، فأخذ المكبّر وراح يتكلم، فأفسد سياق العمل أيما إفساد. وفي الوقت ذاته، أعلنت “رئيسة الجلسة” أن من حق الحضور أن يستمعوا لهذا الرجل، حتى لو قاطع المتحدث الأساسي، وأحدث جلبة في الجلسة.
كان موقفاً غاب فيه التنظيم والشفافية، كما غُيِّبت عنه إمكانات الحوار الأكاديمي المطلوب، وفق شرائط ما ندعوه “قانون الاستنفاد العلمي”.
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى