‘تيامو’ لرغداء الشعراني: شخصيات شكسبير في كباريه استعراضي
سارة مُراد
‘ ‘رغداء الشعراني’ من القلائل المحظوظين بحب ودعم مديرية المسارح والموسيقى في دمشق، والتي هللت وطبلت وزمرت لعرضها الأول كمخرجة ‘شو كولا’، وهو عرض أبرز ما فيه كان قدرته على تحقيق درجة من التوازن بين رغبات الجمهور ومتطلبات الفن المسرحي الفكرية والفنية، وذلك من خلال تقديم طروحات شبابية وإدخال آليات بصرية أغنت العرض.. اليوم، ومجدداً تطالعنا ‘رغداء الشعراني’ بعملها ‘تيامو’، وهو ‘تيامو’ حقيقي لمشاهدنا المسكين الذي ينأى بعيداً عن هموم الثقافة والمسرح، ولأنها مخرجة حققت التوازن سابقاً فقد انطلقت بالمغامرة الإبداعية إلى أقوى قلاع المسرح العالمي، وأكثرها تحصيناً، فإن تفوقنا على ‘شكسبير’ لن يتفوّق علينا أحد! غاضةً النظر عن أربعة قرون لم يتوقف فيها أحد من مسرحيي العالم أجمع عن محاولة دراسة وتحليل وإعادة تقديم واستنهاض الكامن والبوح بالمحكي وعصرنته وووو… في التعامل مع ‘شكسبير’، وهذا حقها والحق يُقال، فلا أحد أحسن من أحد إلا بما عمل… ومسرحنا القومي راع دائم أدامه الله لنا للمواهب الشابة والطموحات الجامحة، فكان عرض ‘تيامو’ على خشبة مسرح الحمراء في دمشق، وتحت رعاية مديرية المسارح والموسيقى التي عادت إلى تهليلها وتطبيلها بالعرض الجديد ومخرجته الفذة!!
الحياة تتطوّر كل يوم، وتحمل معها كل جديد، ولهذا تعيد ‘الشعراني’ إنتاج الأعمال الشكسبيرية – بتصرّف-، بل اثنان من أهم ما كتب الراحل الدرويش، ‘هاملت’ و’روميو وجوليت’، فالزمن الذي تطوّر كشف لمخرجتنا عن إمكانية توليف حبكات درامية أهم وأقوى من تلك التي قدمها ‘شكسبير’، ولكي تعرّفهُ بحقيقة ما فاته فهي وطاقم ممثليها يهدون عرضهم الكريم إليه!! ولكن ربما نسي الشباب توقيع العرض بكلمة ‘مع فائق الاحترام’، فالانتقاص هو الذي حضر وليس الاحترام، وهو انتقاص امتد من تناول النصوص العظيمة إلى المشاهد العابر أو المختص في المسرح وثقافته، وصولاً إلى الانتقاص من المسرح ذاته كفن وفاعلية… وقد أجادت ‘الشعراني’ فيما فعلت، كأنه التهديم الذي لن يكون من بعده بناء، تفكيك لن يُتيح مجالاً للتركيب.. إذ سيبقى فشلاً يخشى على أثره العديدون من بعده إعادة التجرؤ على الاقتراب من ‘شكسبير’ وإن كان هذا حق بل ومطلب.
للحق فإنّ ‘رغداء الشعراني’ مخرجة متميزة، لكنها أضاعت ذاتها على الطريق، حيث لا تنبئ انطلاقة عملها ‘تيامو’ بالنهايات التراجيدية التي سيصل إليها، جاراً معه متلقيه ونقاده ونصوص ‘شكسبير’. هذا إذا استثنينا المقدمة الإخبارية لكل من الممثل ‘كفاح الخوص’- ولا أعرف كيف ارتضى بهذا الدور إن صحت تسميته بالدور المسرحي- وزميلته الصامتة، وقد زينا رأسيهما على الطريقة اليابانية، كنكهة سترافقنا عبر لوحات العرض المتتالية دون أي معنى أو قيمة أو حتى هدف. أمّا المقدمة فتقول بأنّ: (‘شكسبير’ قد اكتأب يوماً واشتدت به الحال فذهب إلى مسرحه، ووفاءً له قدمت له شخصياته عرضاً أعاد البهجة إلى نفسه، دون أن يعلم أحد بما حدث، سواه وشخصياته. اليوم وفي ذكرى وفاته تعيد الشخصيات تقديم عرضها تحية له).
ينجح الممثل ‘شادي مقرش’ في امتلاك فضاء الخشبة الفارغ، تالياً مقاطع من ‘هاملت’- بتصرّف – كذلك تنجح ‘الشعراني’ في إدخال تقنيات بصرية على شاشة جانبية لملء الفضاء، وتقديم حل إخراجي ممتاز لقضية ‘الشبح – مروان أبو شاهين’ التي لطالما شغلت أيّة محاولة لتقديم ‘هاملت’ مسرحياً… وتتوالى المشاهد للأبطال التراجيديين يُعرّفون بأنفسهم بتصرّف- وعوالم مآسيهم، ‘نسرين الحكيم’ في دور ‘أوفيليا’، ‘جابر الجوخدار- روميو’، ‘هنوف خربطلي- جولييت’، وصولاً إلى ‘سين’ حكيم العاشقين ‘روميو وجولييت’، أمّا لماذا ‘سين’، فهو ما بعلم الغيب!!
فجأة تقلب ‘الشعراني’ الموازين حتى تفقد توازنها الخاص، وتضيّع في الضجيج مواهب ممثليها وقدراتهم خاصة كل من ‘شادي مقرش’، و’مروان أبو شاهين’. إذ تقول حكايتها بهرب العاشقين ‘روميو وجولييت’ إلى قلعة ‘هاملت’ الشهيرة طلباً للأمن، لكن ‘روميو’ يُغرم بـ ‘أوفيليا’ التي تبادله الوله على الطريقة الهندية، أمّا العشق الذي يقع فيه كل من ‘هاملت’ و’جولييت’ فكان أقرب إلى الطريقة المصرية في إنشائيته وغوغائيته، وهذا هو الجديد الذي ترى ‘الشعراني’ أنّ أربعمائة سنة وأكثر كانت كفيلة بتقديمه، لتغني مُخيلة لم يستطع المسكين ‘شكسبير’ التفكير بها في زمنه المتواضع!!
المزيد الذي تقدمه ‘الشعراني’ كعصرنة للتراجيديا والرومانسية القديمة هو في رجال ‘المعلم هاملت’، إذ أضافت إليه مسحة من رجال المافيات، وكان رجالاته (شبيحةً) يلعبون القمار على المائدة المستديرة، أمّا من هم رجالاته، فإليك يا رعاك الله: ‘هوراشيو’ من التراجيديات الشكسبيرية وإلى جانبه ‘بهلول’ الملك ‘لير’، وما بين الاثنين ثالث يطغى عليه نبل الأرستقراطي ‘نبيل’ وهو على ما يبدو فقاعة من فقاعات المخرجة ‘المهضومة’.. رجال يغنون عند انصرافهم ‘يا هوديا لك يا هويدا لي.. ‘، ولماذا يغنون هذه الأغنية التراثية، ربما للعصرنة، أو لمزج الثقافات والحضارات.. حتى ‘الشبح’ الذي يغدو عجوزاً لئيماً يستحق القتل، يُدخن السيكار ويُنشد الانتقام لمقتله بداية ثم يتحوّل إلى المطالبة بعروس تؤنس وحدته وكأنه صغير يلح على والدته أن تشتري له الحلوى.
لف ودوران على الطريقة الشكسبيرية كما نعرفها في كوميديته ‘حلم منتصف ليلة عيد’- بتصرّف فكري وفني طبعاً- يُناور العشاق الأربعة بعضهم، حتى يُقرر الرجال المبارزة، لكننا اليوم في عصر المساواة، ولا يمكن للنساء الركون جانباً في مصارعة الديوك، فينهضن للتنافس، وبماذا تستطيع النساء التنافس؟ وهل يملكن سوى أجسادهنّ؟ على ما يبدو فإنّ ‘الشعراني’ تفضل هذا الرأي. حيث نرى كل من ‘جولييت’ و’أوفيليا’ يتنافسن في رقص الفلامنكو أولاً، ولماذا الفلامنكو؟ السؤال برسم أي عبقري، ومن ثم الرقص الشرقي أو كما يُقال ‘الوحدة ونص’.. وهنا يتجلى الفن المسرحي مذكراً إيانا بالراحل المسكين ‘سعد الله ونوّس’ الذي أفنى حياته منشداً الفاعلية المسرحية وتحقيق التواصل مع الجمهور، ودوماً أتت النتائج مُتباينة، فمن ذاك الذي يهتم بـ’سهرة في الخامس من حزيران’؟ جمهورنا المحبوب سينهض بالصراخ حين يقول الحكيم ‘سين’ أنّ نتائج منافسة الأميرات هي التعادل مطالباً بإعلان فوز ‘جولييت’، وهل هناك أكثر من هذا التفاعل؟! قد يكون تفاعلا جسديا وليس فكريا، ولكن المهم أنه تفاعل… على الأقل من وجهة نظر المديرية التي تجيب كلما سألها أحدهم عن سبب رعايتها لمثل هكذا عروض أنّ المهم هو كسب الجمهور وتشجيعه على ارتياد المسرح، لأنّ مسرحنا خاسر… ويبدو أنّ المديرية قد حلت المعادلة بأنّ المسرح خاسر، لكن الكباريه ناجح تجارياً… إذ لا تتوقف موجة التسويق الجسدي، فتطالعنا المربية الفاضلة، أو لعلها ‘العاهرة الفاضلة’ ‘شانتال لورا أبو أسعد’ – لماذا الاسم فرنسي لا يهم- بمجموعة حركات كاريكاتورية مأخوذة بفنية سطحية من أفلام (الأكشن) الدرجة العاشرة، متغلبةً بقدراتها الجسدية هذه على الشبيحة الأربعة، ثم تغني لهم بالإنكليزية مساكين تواصلهم العاطفي مع اللغة العربية ضعيف- وذلك بعد مقطع شرقي للتأكيد على مفاتنها الجسدية، وتختم بقص مأساتها حيث مات كل من أعجب بها في مبارزات مع آخرين أعجبوا بها حتى بقيت وحيدة… وعليه يُعجب بها الفرسان الأربعة- رحمة الله على ‘ألكسندر دوما’ لم ير ما حلّ بفرسانه- وتنطلق سلسلة مبارزاتهم على مبدأ ‘يُتبع..’ إذ يتعادلون في مآسي حيواتهم الشخصية، كما يتعادلون في سباق السرعة الذي يُعرض على الشاشة، ثم يتعادلون في مباراة ‘الزجل’ إلى جانب عازف طبلة، هبط علينا من وحي الراحل ‘بريخت’ بحجة كسر الإيهام- وهو المبرر الوحيد الذي استطاع تفكيرنا المتواضع تلمسه أمام عبقرية ما كنا نشاهد- أمّا لماذا الزجل فلعله تابعة لرقص ‘الوحدة ونص’ كمعبر عن ثقافتنا التي تمزج بثقافة القلاع الدنماركية والأساطير الإنكليزية.. المهم أنّ المبارزة بالرصاص والتي ستضع حداً للاقتتال على طريقة ‘الكاوبوي’ الأمريكي فتذهب ضحيتها الفاتنة ‘شانتال’ لتحقق رغبة المتطلب اللجوج ‘الشبح’، وتكون النهاية السعيدة للجميع.
قطعاً نحن لسنا بصدد الحديث عن الأسباب الشعرية أو الفكرية أو الفنية- على أهميتها- التي أعلت من شأن ‘شكسبير’ في عمليه ‘هاملت’ و’روميو وجولييت’ تحديداً، وإنما نحن بصدد عرض مسرحي يُقدّم على أنه جاد وشبابي، عرض له طروحاته الفكرية ورؤيته لنصه والعالم من حوله ماضياً أو حاضراً، عرض لم تبخل عليه المديرية بالرعاية والاهتمام، وهو مطلب الكثير من العاملين في المسرح والموسيقى، لكن أكان حقاً عرضاً مسرحياً، قبل أن يكون جاداً أو تجارياً… نحن لسنا ضد المسرح التجاري ولا ضد طروحاته وجمهوره، ولكن على أن يُعلن عن نفسه كعرض مسرح تجاري ليتم التعاطي معه ومنذ البداية على هذا الأساس، أمّا أن يتسلق عرض تجاري بكل معاني الكلمة وأكثر بكثير عباءة المسرح القومي ولمعان بريقها، ضارباً عرض الحائط بكل شيء، من احترام المشاهد إلى احترام الفن المسرحي نصاً وشكلاً فهو ما يُحيلنا إلى المديرية التي ارتضت للفن المسرحي أولا ولنفسها كراعٍ محترم لهذا الفن ثانياً مثل هذا الابتذال والسخف… هل نتسوّل الجمهور ولا نجد منفذاً للتواصل معه سوى باستثارة رغباته، الرجال يرقصون بثيابهم الضيقة جداً والنساء تنتفض أجسادهن بلا أي مبرر، ما الغاية التي أرادت ‘الشعراني’ الوصول إليها، وما هي الأفكار التي تريد حثنا على التفكير بها.. لماذا أصلاً نذهب إلى المسرح ونشاهد مثل هذا العرض.. ألم يكن بإمكاننا الذهاب إلى أي كباريه، أم أنّ رعاية المديرية الكريمة قد أحاطت العرض بهالة وهمية من الاحترام فغدا مسموحاً لنا مشاهدة مثل هذا الابتذال حتى للرقص الشرقي، ولتعد المخرجة إلى فن الراقصة ‘تحية كاريوكا’ للتأكد من أنّه حتى الرقص الشرقي فن وليس مُجرّد تسويق…