ألبرتو مانجويل الأرجنتيني صاحب الكتب المستعصية، رجل ولد من رحم مكتبة، ساحر الكلمة
غادة سليم
ليس عبثاً أن ينال ألبرتو مانجويل كل هذه الشهرة العالمية، ولا مبالغة أن توصف كل كتبه بالشائقة والممتعة والقيمة· فهو الكاتب والروائي والمترجم الأرجنتيني الذي يملك الوصفة السحرية للإبداع التي تحيل الكلمات إلى رحلات والكتب إلى لوحات والأفكار إلى تأملات وسبحات· وهو القلم الذي لا يوجد من يضاهيه في سعة الإطلاع والموسوعية والتبحر· فثقافته الأدبية الشاملة من غزارتها تبهر الباحثين والمتخصصين· وهو شخص استثنائي يتحدث ويكتب بعدة لغات يضاف إليها إلمامه بالأدب العربي· ولقد ساهمت أسفاره وحبه للترحال في سعة إطلاعه على ثقافات العالم·
منذ أن ولد ”ألبرتو مانجويل” في الأرجنتين عام 1948 وهو في سفر دائم· إذ تنقل في صباه بين البلاد وأقام عامين في كل من إيطاليا وبريطانيا وتاهيتي وكندا إلى أن استقر به المقام عام 2001 في قرية فرنسية نائية· وأحاط نفسه بمكتبته الضخمة التي تحوي ثلاثين ألف كتاب· قدم من وحيها للمكتبة العالمية كتباً بالغة الفائدة ترجمت إلي 24 لغة حية· حاز معظمها جوائز عالمية·
بدايات
وإذا كانت لكل كاتب بداية، فبداية ”ألبرتو مانجويل” ككاتب كانت مع القراءة· فلقد بدأ حياته الأدبية قارئاً شخصياً لعملاق الأدب العالمي الأرجنتيني ”خورخي لويس بورخيس” الذي توفي عام 1986 عن عمر ناهز السابعة والثمانين· فقد كان ”بورخيس” شاباً كفيفاً يحتاج لمن يقرأ له· وكان ”مانجويل” صبياً في السادسة عشرة من عمره يعمل بائعاً في مكتبة قديمة في إحدى حارات بيونيس أيريس· عندما دخل عليه المكتبة ذات يوم شاب أعمى برفقة أمه يطلب شراء قاموس لغوي إنجليزي· فلم يجد ”مانجويل” نفسه إلا وهو يسأله متعجباً: ”هل ستقرأ هذا الكتاب الضخم؟” فرد عليه بسؤال آخر ”هل تساعدني على قراءة الكتب التي لم يعد باستطاعتي قراءتها؟” ومذ ذاك اليوم وعلى مدى عامين كاملين اعتاد ”ألبرتو مانجويل” أن يذهب إلى ”بورخيس” في منزله ليمضي معه سويعات قليلة في القراءة· وفي نهاية المطاف أصبح الاثنان القارئ والمستمع من أعظم الأدباء المبدعين في القرن العشرين· ومع أنه ليس بالضرورة أن يكون القارئ الجيد كاتباً جيداً· إلا أن الصفتين التقتا بتميز في ”ألبرتو مانجويل” الذي تحول من قارئ لحساب الآخرين إلى قارئ لحساب نفسه· وتحولت القراءة عنده من هواية شغوفة إلى مهارة متخصصة· وأثمرت عنده القراءة بوعي إلى كتابة بعمق· كما أثمرت علاقته بـ ”بورخيس” إلى كتاب بعنوان ”برفقة بورخيس” يحكي عن الذكريات الاستثنائية بينهما، وكيف تعلم منه البحث المتعمق والسرد المتماسك والنظر إلى العالم بتفاؤل· أما بداياته مع القراءة كطفل فلها قصة مثيرة أخرى· فلقد أبدى شغفا بالقراءة منذ سنوات طفولته المبكرة· واكتشف فجأة وهو في الرابعة من عمره بأنه يستطيع القراءة دون مساعدة من أحد· وأنه قادر على تركيب الحروف الصغيرة التي علمته إياها مربيته وتحويلها إلى كلمات ذات معانٍ ونقوش وألوان· ويقول عن نفسه: ”أحسست وقتها أنني أصبحت جباراً· كنت أستطيع أن أقرأ ما تقع عيني عليه”·
وعندما بلغ الثامنة من عمره قرأ رواية حول مغامرات طفلة صغيرة اسمها ”أليس” تعيش في عالم الأحلام· فكان ذلك بمثابة عثوره على كنز من المفردات والكلمات· ولم يشك للحظة أن ”أليس” لا وجود لها، إذ كان يرافقها في رحلاتها ويعيش معها مغامراتها· وظل مشهد وقوع أليس في جحر الأرنب ودخولها الغابة من المرآة باقياً في خياله لسنوات طويلة·
مكتبته·· ملهمته
هذه الطفولة المتفردة وتلك التجربة الثرية في الصبا أهدت ”ألبرتو مانجويل” قدرة خارقة على إدهاش القارئ وتوفير عناصر المفاجأة والمتعة في كل عمل يشرع في كتابته· إلا أن المحطة المهمة التالية في حياته تمثلت في علاقته بمكتبته الخاصة التي أحاط نفسه بها وملأ رفوفها بثلاثين ألف كتاب· وإذا كان يصح لإنسان أن يولد من رحم جماد فسيصدق قولنا إن هذا الرجل ولد من رحم مكتبة· فعندما استقر به الحال عام 2001 في قرية فرنسية نائية تفرغ لترتيب مكتبته وتصنيفها وإعادة قراءة كتبها ومقارنته الدقيقة لأفكار مواضيعها واستحضار مخزون المعارف والآداب التي جمعها من خلال عشرات المفكرين والأدباء ومن ثم تحويلها إلى تأملات واستشهادات خاصة به·· وكأنه ولد من جديد·
يقول ”ألبرتو مانجويل” عن مكتبته الخاصة: ”إن مكتبتي هي سيرتي الذاتية· فعلى رفوفها يوجد كتاب لكل لحظة من حياتي ولكل تغير ولكل صداقة ولكل خيبة أمل· إنها علامات تحدد درب سنواتي مثل الحجارة البيضاء التي تحدد معالم طريق المسافر”· وقال عنها أيضا: ”كل ما أعرفه عن العالم هو الآن تحت سقف بيتي· فأي مكتبة هي صورة عن العالم، لكنها صورة متفائلة، أُعيد تنظيمها لمنحها بنية سردية· من خلال هذه المجلدات المكدسة، يمكنني متابعة آثار كل ذكرياتي”· وخلال تبويبه لكتبه الخاصة جاءته فكرة ترتكز على إعادة قراءة كتبه المفضلة بمعدل كتاب شهريا· وكان ثمرة هذه الفكرة كتابه ”يوميات قارئ” وهو الكتاب الذي ترجم مؤخرا إلى الفرنسية ويتضمن مجموعة ملاحظات وتأملات وانطباعات وتعليقات حول أحداث عامة وخاصة ناتجة عن قراءاته في عشرات الكتب العالمية·
وهو المشروع الذي جعل ”مانجويل” يعيد ترتيب حياته الصاخبة بوقع أكثر رتابة وتروٍ حتى يتسنى له الدخول في حوارات خفية مع كتبه المفضلة· ولقد كانت سعة إطلاع ”ألبرتو مانجويل” على الثقافات المتنوعة دوراً مهماً في إلمامه بالأدب العربي· مما سمح له بالاستشهاد أحيانا بأبيات للشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب والفلسطيني محمود درويش والفارسي جلال الدين الرومي· ومن خلال اطلاعاته استطاع ”مانجويل” كشف هوية الكاتب الحقيقي لمخطوط عربي مجهول من القرن العاشر حمل اسم ”فجر من أجل العميان”· كما أكد أن رواية ”دون كيشوت” التي اعتبرت واحدة من الروائع العالمية في الأدب الروائي الساخر مقتبسة عن عمل للروائي المغربي حامد بن جيلي!
تاريخ القراءة
وعلى مدى سبع سنوات من الجهد المتواصل اقتفى خلالها ”ألبرتو مانجويل” آثار النصوص المكتوبة والمقروءة والمطبوعة عبر مختلف العصور التاريخية استطاع أن يقدم تحفته الرائعة وموسوعته الشاملة والمتكاملة ”تاريخ القراءة” والذي اعتبر مفتاحاً لفهم العالم·
ولا عجب أن هذا الكتاب طاف العالم ونال جائزة ”مديسيس” المرموقة في فرنسا وصدرت عنه ترجمات بلغات عديدة منها الفرنسية والعربية· وهو كتاب يروي قصة القراءة وتحفل محتوياته بموضوعات قيمة حول نشاط القراءة والكتب·
فمن بين فصول الكتاب عناوين متعددة منها القراءة في الظلال، والقراءة بصمت وعن كتاب الذاكرة، وتعلم القراءة، وقراءة الصور، والقراءة على الآخرين، وشكل الكتاب، والقراءة الوجدانية، ومجازات القراءة، والبدايات، وتنظيم الكون، وقراءة المستقبل، والقارئ الرمزي، والقراءة خلف الجدران، والكاتب كقارئ والمترجم كقارئ والقراءة الممنوعة والمولعون بالكتب والصفحات الأخيرة· ويزين الكتاب عشرات اللوحات النادرة والصور الملونة·
ويستعرض ”ألبرتو مانجويل” كتبا ومؤلفات وأسماء وحكايات تروي قصة الحب التاريخي العظيم بين الإنسان والكتاب·
فيرصد في كتابه ”تاريخ القراءة” سجلا يضم عشاق القراءة من عظماء العالم أمثال أرسطو وابن الهيثم وأولفر ساك ومريم المجدلية والقديس أوغسطينس· كما يحكي عن أكبر سارق للكتب في التاريخ وهو دوق ”ليبري” العبقري الذي نال كرسي الرياضيات في العشرين من عمره والذي دفعه ولعه بالكتب النادرة لسرقتها· كما يحكي عن أمير فارسي كان يخرج في رحلات طويلة محملا مكتبته المكونة من 117 ألف كتاب على ظهر قافلة من الجمال مصنفة بحسب الحروف الأبجدية·
كما يروي لنا عن قصة عمال التبغ في كوبا الذين كانوا يعشقون الاستماع إلى الكتب التي تقرأ لهم مما جعلهم يطلقون أسماء أبطال الروايات الأدبية على أنواع السيجار· كما يحفر ”مانجويل” بعمق في التاريخ ليستعيد قصص التحدي التي عاشها السود في أميركا والذين تحدوا حظر تعلم القراءة والكتابة من قبل البيض في زمن الرق والعبودية·
إذ كان البيض يحكمون بالإعدام على كل من يجرؤ على تعلم القراءة والكتابة من السود· كما يأخذنا الكتاب في جولة للاطلاع على الكتب المحرمة قراءتها بأمر رجال الدين والملوك·
أما كتابه الأحدث ”كتاب المدائح” فهو فصل جديد في سجل إبداعاته· وقد ضمنه 14 مديحاً عن مناحٍ عديدة من الحياة فجمعت فصوله بين مديح حكايات الأطفال وكتاب الجيب ومعرض الكتاب وبائع الكتب والكتاب المقدس وبين مديح الفظاعة والمستحيل واللذة والهدية واللغة الإسبانية إلى مديح الحيوانات وطيور الدودو·
إلا أن الكتاب يتضمن مديحاً آخر كتبه الروائي الأسباني ”إنريكي فيلا ماتاس” كتقدمة للكتاب اختار أن يكون مديحه ”لألبرتو مانجويل” نفسه·