الأدب العربـي ضيـف الشـرف فـي معـرض لنـدن للكتـاب: أسئلتنا أم أسئلة الآخرين علينا أم إنه الأدب العربي للمبتدئين
عباس بيضون
لندن ـ
فرق بين حضور الادب العربي كضيف الشرف في معرض فرنكفورت وبين حضوره كذلك في معرض لندن. استنفر الاول اهتماما وضجة وجدلا فيما مر الثاني بدون اهتمام يذكر. لعل التحفظ الذي قوبل به الحضور في معرض فرنكفورت كان الدرس الاول لتجربة فرنكفورت هناك علا الضجيج حول كل شيء حول الاسماء بالطبع وحول البرنامج وحول النشاطات وهناك كانت المفاجأة فوق طاقتنا وهناك كانت الجفلة والخوف من الفشل وهناك كان الفشل او بعضه ينتظر في النهاية.
اما الآن، في معرض لندن فليس هناك شيء من هذا، لم يعد جدل حول الاسماء ولا حول البرنامج ولم تكن هناك وعود ولا نجاح او فشل، لقد تعب العرب من «العالمية» المستصعبة التي تحتاج الى كل هذا الجهد والتي لا سبيل الى امتلاكها في محاولة او اثنتين، ذهبوا الى لندن بدون آمال وبدون قلق مواز لها وبدون فشل محقق نظراً لاستحالتها، ذهبوا بدون ان يحسبوا ما قبل ولا ما بعد، لذلك كانوا اكثر اطمئناناً وأقل خوفاً، ربما لذلك قلت هنا عثراتهم بالقياس الى فرنكفورت، قلت العثرات، لكن الجوائز لم تكن كثيرة. لم يواجهوا تحديات كبيرة ولا امتحانات صعبة كان كل شيء مقبولاً اكثر منه باهراً.
يقال هنا انهم جفلوا لدى تلقيهم الدعوة، عادت إليهم تجربة فرنكفورت المتعبة ولم يحرصوا على تكرارها. عادت إليهم تجربة فرنكفورت، من حيث التنظيم المشترك والميزانية الواحدة والامران آلا الى مصاعب جمة. تجربة فرنكفورت من حيث ايكالها الى الجامعة العربية لكي لا تغرق في تجاذبات الدول فغرقت بدلاً من ذلك في بؤس بيروقراطية متخشبة ومفارقة لكل واقع. تمت برمجة بلا اي خيال ولا حساب للمضيف الالماني. يمكننا بالقياس إلى ذلك ان نحمد للمجلس الثقافي البريطاني انه اضطلع وحده بالتنظيم والتسمية. لقد حمل على عاتقه مسؤولية لا يؤمل لها النجاح عادة، ولكن يرجى ان تتم بأقل قدر من الخسائر. لا اعرف اذا كانت هناك ثمة وجهة مسبقة للاختبارات والبرمجة. كانت هناك بالطبع استشارات كثيرة. لا اظن ان غياب أدونيس ودرويش ويوسف كان مقصوداً، لكن لا يمكن ان نتوقف على هذا الغياب طويلاً، فالأرجح ان الاسماء المؤسسة وقف على الشعر وهو ليس في اي تظاهرة ثقافية غربية طاغياً ولا محورياً، وغالباً ما يضاف عنوة كما حدث في تظاهرة «حسن الغريب» او يحدث الآن في الاحتفال بالأدب العربي، وكما في كل تظاهرة، وخاصة في معرض لندن، فإن الاختيار لا يقاس بشموله ولا حتى بتمثيليته، فالأرجح أن هذا المطلب وهمي، كان حضور الادب العربي في لندن أقل احتفالية من حضوره في فرنكفورت. ذلك في نظري يحسب له لا عليه. لا نناقش الاسماء بالطبع اذ لا يشفع لها الا حضورها الفردي، من دعوا هم اسماء من اسماء وكتاب من كتاب لا أكثر. إنهم فقط أشخاصهم وكتاباتهم كما هي الحال في اي حضور وفي اي دعوة ومن العبث أن تتم محاكمة اخرى، وان نشهر بالمقابل قائمة غياب لا تقل بالطبع مشروعية وأحقية من قائمة الحضور. هكذا يدخل النقاش في طور الاستحالة. من الافضل الاشارة الى غير المستحقين ممن يراهم كذلك اما في سوى ذلك فإن حدود التمثيل غير واضحة، وحدود الانابة ايضاً ضائعة، ومن الافضل اخراج الكلام كله من هذه الحفرة.
مع ذلك فإننا نتساءل اذا كانت هناك وجهة ما وراء البرمجة والتسمية. يمكننا الكلام هنا عن وسطية، ليس بالمعنى الذي دعا إليه المؤتمر الاخير المعنون بها في لبنان، انها وسطية تخترق الجسم الادبي بأجياله وتجاربه، لقد دعي كتاب لا يزالون في وسط التجربة وآخرون لا يزالون في اوائلها. لكهول وشبان ولتجارب لا تزال على المحك ولم تغدُ تأسيسية ولا راسخة… نجد ذلك على سبيل المثال في مجال القصة اذ دعي الجيل الستيني الذي هو الآن الاسبق والتأسيسي، فيما دعي الجيل السبعيني والثمانيني والتسعيني. هكذا وجدنا أنفسنا امام خليط من بهاء طاهر وحسن داوود وجبور الدويهي ومكاوي سعيد وخالد الخميسي على سبيل المثال، وفي هذا الخليط اجيال وتجارب مختلفة، اننا من هذه الناحية امام شريحة مناسبة، اظن ان المنطق نفسه كان على صعيد الشعر والنقد والادب النسائي. لم يكن ذلك احتفالاً بالقدر الذي كانه الحضور في معرض فرنكفورت لكن ذلك أفضل. بدون نجوم كان الجسم الادبي حاضراً على نحو وسطي، كانت الهوامش والتجارب الخاصة والشبان مع القدامى والمؤسسين. ذلك لا يصنع احتفالاً، لكنه من ناحية اخرى نفع في صنع ما يشبه ورشة.
قلما تضاربت الندوات فالعدد ليس كثيراً بحيث يستدعي التضارب، كانت هناك ندوة واحدة في الغالب لكل وقت، لكن العمل ظل مستمراً من التاسعة صباحاً حتى الخامسة مساء، الباص الذي يحملنا في التاسعة يعود بنا في الخامسة، بقينا طوال هذا الوقت في المعرض، ذلك وحده أشعرنا بأننا نعمل واننا في ورشة دائماً، يمكن ان نحسب الهروب من الندوات ايضاً في هذا النطاق، فانتظار الندوة التالية في مقر المجلس الثقافي البريطاني كان في الغالب استراحة قصيرة، كنا جميعاً في العمل لا العيد، ولم نعد أنفسنا بذلك، لذا شعر بعضنا بأنه في نوع من الخدمة الطوعية، بل سمى البعض المعرض المغلق الحاشد ثكنة. لكن نظاماً ناعماً وحديدياً وصامتاً كان يعمل طوال الوقت. لا بد ان «الوقت» الانكليزي لا يقبل مزاحاً، انه قطعي وحريري في الآن نفسه. التاسعة صباحا لكن مع الصبر والانتظار الهادئ لآخر واحد، وكذلك في العودة. الوقت والصبر يمكن ان يكون ايضا شعاراً انكليزياً، مع ذلك ينبغي التذكير بأن كل ذلك تم بارادة وصبر بل وحنان عربيين، اذ مرة ثانية يبدو ان النظام صناعة النساء، ليلى الحوراني الفلسطينية وفاطمة المصري اللبنانية وسوريات ومصريات قمن بذلك كله. كنّا دائما في رعايتهن وعهدتهن واسعدني أن يكون الأمر كذلك، كان هناك أمل صغير فيه، أن نحسن مرة واحدة وجزئية صنع شيء ليس هذا بالأمر القليل، فلكم اتبعنا هذا التعثر والانكفاء والاهمال في الصغير والكبير.
أعرف هذه الحديقة
الطريق من المطار الى الفندق لا يمكنني ان اسهو عنها مهما كنت غارقاً في نفسي وفي وجع ساقي التي سقط عليها «الديسك» وجعلها رفعي الأخرق لحقيبتي الفارغة تقريباً لولا القناني الثلاث التي حملتها حياء لوزارة الثقافة، جعلها اكثر وجعا، لا تناسب الرحلة قدمان ثقيلتان بالألم، اذ لا نتصور الا انها تحتاج لقدمين طليقتين. في الاسفار نزداد خشية على اجسادنا ويزداد شعورنا بضعفها فكيف وهي ضعيفة او مريضة اصلا. لا انصح بسفر مريض اذ غالبا ما يكون هذا مدعاة لاحساس ممض بعجزه ومدعاة اكثر لمزيد من الشفقة على نفسه. في الطائرة تبينت الآن كم ان الطائرة اختراع بربري وعبودي. حزم المرء طوال ساعات على مقعد ضيق يصلب جسده عليه ليس فيه اي شيء من الديموقراطية. انه يشبه من بعيد تجديف السفن القديمة المهلك. كنت وأنا مصلوب على مقعدي، استجمع في ساقي ألما ينفجر في كل جسدي ما إن انهض. وحين درجنا اخيرا في الرواق كان عليّ ان اجر نفسي طويلا لذا صعدت الى الباص الصغير الذي كان ينتظرنا على المطار وأنا غارق في ضيقي، التممت على نفسي كما يقول المصريون في تعبير نفاذ، لكني من وراء عيني ومن وراء فكري كنت اتلمح لندن ولا استطيع ان امنع ذاتي المرضوضة من التمتع بل والسعادة بجمالها. اعرف هذا الشارع، اعرف هذه الحديقة، لكم كان في ذلك عزاء جميل لي، تمشيت هنا مع حازم، لم اعرف ان اقول ذلك لحسن، خفت ان اكون اخطأت فكيف لفاقد كبير مثلي لذاكرة الاماكن ان يصيب في امر كهذا، لكنها فعلا كانت الحديقة التي قطعتها مع حازم، والتي في قسم منها الهايد بارك الشهير. مع ذلك في حالي التي انا فيها تأكدت من انطباعي القديم عن لندن، انها أجمل مدينة عرفتها، وانها مزيج من رهافة باريس وخيال امستردام. مع ذلك كان هناك ذلك الاحساس البعيد بأن المسألة قد لا تكون في القدمين وأن هاتين قد تكونان ذريعة فحسب اذ ربما قلت قدرتي على الخروج من نفسي وعلى الاحتفال بالاشياء. لربما قلت «سعادتي البصرية». كنت أحتج بالمعرض، لكن في اليوم الثالث حين كان إله المعرض قد أتم خلقه وآن له ان يستريح، لم اذهب الى المعرض واحتجت الى وقت قصير لأتطبع مع «جنايتي». الوقت الذي قضيته في «اللوبي» في هذه المحاولة سال ولما انتهى النهار كنت قد قضيته وأنا اتردد في ان اغادر. لقد رأيت لندن من ثقب الفندق.
الحشد
المعرض قلعة، مكان مغلق عالي الأبواب والجدران يشبه من الخارج واحداً من السوبر ماركات العظيمة. كان اول عهدنا به تيه جرفنا وجرف معنا الادلاء. انحرفنا الى باب ثم بأمر صامت ارتددنا الى سواه. مصعد ضم بعضنا وبقي البعض الآخر خارجاً ليصعد ويسلك في الغالب طريقاً آخر. اما نحن فمن اروقة ومسالك الى مصعد آخر بقي بعضنا ايضا خارجه لنهبط هذه المرة الى حيث بدأنا. دوران جديد يفضي الى اماكن مسدودة نرتد عنها الى اماكن اخرى صعودا وهبوطا ودائما امام أبواب مغلوطة، نتفرق عندها ونغدو اقل. كان واضحا اننا في متاهة نحن وأدلاؤنا. لكن هذا اسعدني فقد كنا تقريبا في احشاء الحوت وكان المكان المغلق الذي لم نستطع قياسه يفتح عن «شربكات» داخلية كبرى. كأنما هو مسحور كما في قصص الاطفال لا حدود لداخله ولا إمكان لاحتوائه. وصلنا اخيراً الى الباب الذي تشبثنا به لا نفارقه أو لا نجرؤ على ان نفارقه، ففي ظننا أنه أماننا الوحيد وان ما بعده ليس سوى المتاهة. حين نزلنا أخيراً مصحوبين بالطبع لم نجرؤ على ان نتحرك كثيراً بعيداً عنه. كنا نحصي كل متر وننضم الى اقرب مكان. بعد ذلك استطعنا ان ينصر أكثر في هذه المتاهة الحقيقية، اذ المعرض بطوله وعرضه لم يكن بالنسبة لنا شيئا آخر. إنه أشبه بمسرح دوار في عرضه وطوله وجوانبه دائماً. «الستاندات» والمقاهي، المقاهي المليئة حتى آخرها، كان هناك جناح كبير لـ«ضيف الشرف» العربي ويافطة تسمي «علاء الاسواني» كاتب اليوم، واستراحات في المكان الذي كان فعلاً ينفتح أمامنا كصندوق سحري لا نعرف له حدوداً.
اول ما يدهشنا هو الحشد. لا نعرف من اين يأتي هذا الجمع، المدن تجمع أناساً كثيرين، لكن الحشود لا تتكون فيها بسهولة، خاصة حين يتعلق الأمر بالثقافة. المعرض بأيامه الثلاثة ليس لبيع الكتب، انه للناشرين والكتبيين والكتّاب للتبادل والعقود وحقوق الترجمة والاعمال، مع ذلك كان طافحاً بالناس بحيث استحال علينا ان نجد كرسيا شاغرا في مقهى. لم يكن هذا بحد ذاته مفاجئا فهذه لندن وهذا معرض لندن. اما ما لا نستطيع اعتباره عاديا فهو الحشد الذي عمر ندوات الادب العربي، كان مثيرا ان تكون القاعة طافحة وممتلئة عن آخرها في مختلف الندوات وفي اي وقت. اعتبرنا ان امتلاءها في الندوة الاولى امر مفهوم، فهذه الندوة شبه افتتاح لم يحصل. وقد كانت حفلة الشاي التي انعقدت مساء اليوم السابق الاحد بمثابة افتتاح متواضع وحميم، لكن الامر جرى على هذا في معظم الندوات وفي كل الاوقات. مع ذلك اندهشنا من جديد حين وجدنا ندوة الشعر ممتلئة وحتى اكثر من العادة، لم يكن هذا مفهوما لي فقد انتظرت من كان يسميهم صديق الماني «الاربعين» المتوقعين. ما حضر تجاوز ذلك الى المئات، هذه حال لا نعرف لها شبها. في فرنسا حيث العرب هم الإتنية الثانية لم تعرف ندوات «حسن الغريب» حضورا مماثلا. احيانا كانت القاعات تصفر، اما هنا فثمة باستمرار هذا الحشد الذي لا نعرف مصدره. يمكنني ان اخمن أن جانبا كبيرا منه كان من العرب، اما دليلي الى ذلك فهو ان عدد الذين كانوا يضعون سماعات الترجمة حين يتكلم المتحدث بالعربية كانوا اقل من النصف، بالطبع كان اقل منهم السماعات حين يتكلم المتحدث بالانكليزية لكن هذا مفهوم ايضا فالعرب الحاضرون هم من المقيمين في انكلترا ولا يحتاجون الى مترجم للانكليزية.
لم يكن الحشد هنا فحسب، فحين ذهبنا لاحتفال دار الساقي المثلث المناسبة، فهو احتفال بالـ125 سنة على ولادة جبران و25 سنة على تأسيس الساقي وسنة على رحيل احدى مؤسسيها مي غصوب. في هذا الاحتفال كان الحشد اكبر بل كنا من هذه الناحية امام تظاهرة حقيقية. امتلأ فناء المسرح بل اكتظ وحين دخلنا المسرح الواسع امتلأ الى آخره. المؤتمر الصحافي لوزير الثقافة كان ايضا حاشدا، ومرة ثانية كنا نتساءل من اين يأتي هذا الحشد وكيف يمكن في مدينة شاسعة كلندن جمع كل هذا الجمهور. لم أجد جوابا عن ذلك الا ان هذا معتاد في لــندن فالاهتمام بالنشاطات الثقافية هنا اقوى منه في باريس او في اي مدينة اوروبية اخرى، بالطبع لم يكن الجواب كافيا، ليس العرب هنا في كثرتهم في باريس مثلا، الا انهم يجدون دوافع اكثر للاجتماع في مناسباتهم اكثر مما يجد عرب باريس، هذا ايضا ليس كافيا فهناك حضور انكليزي لافت ايضا، لافــت وجــدي، فهؤلاء الانكليز لا يأتون للمجاملة فحسـب، انهم يأتــون ليستطلعوا وليتفحصوا.
لم يكن الحفل الذي اقامه المجلس الثقافي في اليوم الثاني اقل حضورا، فقد غصت القاعة الكبيرة بالمدعوين عربا وانكليزا. كان واضحا ان المجلس الثقافي يقيم حفل تعارف كبيرا ولا بد من ان دعواته شملت مهتمين من كل الفئات. لقد كان اجتماع عمل حاشدا ولا نعرف الى الآن اذا كان هذا اثمر فالارجح ان حضور الناشرين العرب الى معرض للناشرين اكثر منه للقراء، لم يكن عبثا. لقد عادوا بعقود ترجمة الى العربية. اما عقود الترجمة الى الانكليزية فلا يبدو انها كانت بالقدر نفسه وان قيل ان عقودا من هذا النوع حصلت وان حظ «الآداب» منها كان جيدا.
الأسئلة
حشد، فماذا في الندوات. ندوة حول المكان في الرواية، ندوة حول الادب النسائي، حول ادب السيرة، ندوة حول الترجمة. انه برنامج بسيط كما نرى بل يمكن ان نلاحظ انه برنامج تعريف اولي، لكنه وهذا المهم، موجه للانكليز. انه محاولة لتقديم الف باء الادب العربي، ما من مسائل صعبة وكان من الممكن بالطبع انتاج برنامج يطرح مسائل راهنة. لا نجد عنوانا يتعلق بالاصولية او الاستبداد والتوتاليتارية او العلاقة بالغرب او الاقليات في الادب العربي. او النظرة الى الآخر او الاسلام المعاصر او التأثر بالغرب الادبي او التابوات في الادب العربي والرقابة الخارجية والذاتية. هذه موضوعات اظنها مهمة بالنسبة للقارئ الانكليزي بل هي الموضوعات التي تهمه اولا. لماذا آثر المجلس الثقافي الاكتفاء بالتعريف والتبسيط، لماذا تجنب المسائل والاسئلة الشائكة والراهنة. لماذا فضل نوعا من تقديم الادب العربي «للمغفلين» أو المبتدئين جريا على تقليد ادبي بريطاني. هل كان هذا عن سهو، هل كان هذا اجتنابا مقصودا، لا ندري للآن السبب، ونحمن انه اجتناب لحساسيات السلطات العربية ومراعاة لها. انه موقف متعقل ورسمي لكنه مفرط في تعقله ورسميته، اذ هذه المحايدة حالت دون قيام حوار او تفاعل حقيقي بين الانكليز والعرب، وهو حوار لا يقوم، ان لم يقم على اسئلة وموضوعات كهذه. اما الندوات نفسها فكانت في حدود التعريف العام والتعريف الشخصي، ثم في حدود مسائل مثارة أساسا في السجال العربي الراهن. فندوة الرواية التي احترم فيها حسن داوود العنوان وتكلم على المكان في الحرب اللبنانية الذي غدا واحدا متجانسا بلا هوية، لم يحترم زملاؤه في الندوة العنوان وتكلم كل على مسائلة ونفسه احيانا. رجاء الصانع تكلمت على مسار ايجابي في السعودية، لا يبدو ان له بعدا سياسيا. واحمد العايدي تكلم على خليط من وودي ألن وعلم ووثيقة ذاتية. ستجري الندوات الباقية على المنوال ذاته وسيقدم كل كاتب مسائله ونفسه. اما في ندوة الرواية فعلق النقاش عند الترجمة والسؤال هل يكتب الروائيون العرب ليترجَموا، وبمعايير الناشر الغربي، اجاب الروائيون الاربعة. فالشواكي الجزائري الذي قال بأنه كاتب مغمور وانه لا يكتب لأي قارئ. قال داوود والصانع انهما لا يكتبان ليترجما وان لم يستبعد حسن داوود نماذج روائية تتعمد السهولة وتكتب للرواج مقلدة في ذلك روايات غربية. اما حسن العابدي فقال في ما يشبه لعبة كلامية انه سيكتب رواية تستحيل ترجمتها. لا بد من ان صلة الرواية العربية بالترجمة واحدة من مسائل أدبنا. فإذا كنا من قبل نطلب دائما مرجعية غربية لا لادبنا الحديث فحسب بل لتراثنا ايضا، فلا ينفد شاعر او كاتب قديم او حديث، ان لم يكن بودلير وموليير ورابليه وكورناي وشكسبير العرب، فإن الترجمة تضع ذلك على محك آخر. كيف نكتب اذا كان المرجع الغربي مباشرا الى هذا الحد.
انها اسئلتنا لا اسئلة الآخرين علينا. فإذا انتقلنا الى أدب المرأة تعالت من قبل النساء والرجال اصوات ضد النسوية، او بدقة ضد الجندرية، معتبرة ان أدب المرأة والرجل سواء وان تخصيص المرأة لا يعدو ان يكون «تمييزا» لها يضمر ثانويتها. كان هذا تقريبا رأي رضوى عاشور الروائية والناقدة المصرية، وهو رأي كاد يكون طاغيا لولا ان ليلى ابو زيد تصدت له، دافعت عن الجندرية ولم نجد فيها امتهانا للمرأة ولا مواربة لتمييزها واعادتها الى ثانويتها. كان شبه الاجماع ضد الجندرية مثيرا لتوجس من ان يكون هذا استطرادا لماركسية عربية او حتى لذكورية مضمرة. الجندرية بالطبع موضع نقد ونقاش وما قالته رضوى عاشور في معرض ذلك حكيم، لكن لماذا كل هذا الاجماع وهذه الحماسة ضدها، ما الذي تمسه فعلا او تقلقه.
انها اسئلتنا مجددا لا اسئلة الآخرين علينا. في معرض الستة المرشحين لبوكر، طرح السؤال نفسه عن صلة الرواية بالتاريخ السياسي. بعد ان قدم الياس فركوح روايته «الينبس» كجزء من ثلاثية هي سيرة ذاتية، هي ايضا تاريخ مرحلة، بدا ان كلام فركوح وسواه استفز جبور الدويهي الذي تساءل عن متعة الكتابة نفسها، عن الرواية كلعبة فنية، عن الصنيع الادبي الذي لا تقرره الموضوعات الكبيرة ولا يقاس عليها. رأي الدويهي المنفرد استدعى جوابا من بهاء طاهر حائز بوكر الذي حاول ان يوجد معادلة بين الظرف «التحدي»، والعمل الروائي «الجواب». انه ايضا النقاش نفسه الذي لم تتجدد صيغته كثيرا.
في ندوة الشعر التي ادارتها فيونا الناقدة والشاعرة، كان علينا ان ننطلق ايضا من البدء، لم تكن فيونا عليمة بالشعراء الذين تقدمهم لذا ترددت قبل ان تطرح سؤالها الاول علي: ما هي فلسفتك في الشعر. انه سؤال اجاب عنه امجد ناصر ونجوم الغانم ومنذر المصري. قلت لفيونا ان ليس في وسع شاعر ولا من حقه ان يقدم شعره فهو حينئذ يحتكر القراءة والكتابة معا ويغدو مرجع تأويل نصه. كان سؤال فيونا لذلك عاما ومفتوحا. امجد ناصر قال انه بعكسي. وكان الشعر قبلته منذ بدأ وفي كل مغامرته في العالم والحياة كان يراها في أفق شعري. استمدت نجوم شعرها من تأمل البحر وايقاع صافرات مراكبه فيما قدم مـنذر المصري نوعا من سيرة شعرية متمرحلة.
النقاش كان هذه المرة حول العمل اللغوي عن الثورة اللغوية واللغة كمحول واداة او اللغة كتاريخ وايديولوجيا قومية. اشترك الجميع في نقاش خصب لكنه ايضا سؤالنا الدائم نفسه. في نهاية اللقاء اظن ان فيونا وآخرين غيرها وجدوا ان ثمة ما يهمهم في الشعر العربــي، لقد حمـلنا اسئلتنا الى هناك. كان هذا مهما، لكننا لم نتلق بالقــدر ذاته اسئلة الآخرين علينا، هل لانهم لم يسألوا ام لان البرنـامج نفسه تجاهل اسئلتهم وربما تجاهلهم، لقد تكلمنا هناك كما نتكلم هنا. متى إذاً يبدأ الحوار.