أنصفتني أم مازن
محمود عيسى
الجزء الثاني – خليّة آب /مطر الغياب
أخذنا نعتمد, بسبب خسارتنا الفادحة, على بعض الأصدقاء والأهل للقيام ببعض المهام الخاصة في تأمين الاتصال ونقل الرسائل ولملمة الخيوط.. لعبت أم مازن دوراً مهماً آنذاك.. وصل الأمر إلى حد نزولها إلى الشارع.. حدث ذلك في مدينة جبلة أولاً عندما أبلغوها بأن الشخص الذي سينزل إلى الموعد قرب الحديقة العامة شابٌ أسمر غامق.. كان الأمر بالنسبة لي سهلاُ لأنها تحمل الإشارة المتعارف عليها, وعمرها ولونها.. كانت تحمل حقيبة يدوية وكيس نايلون, تنتظر شخصاً مشابهاً للمواصفات التي أبلغوها.. راقبتُ المنطقة جيداً, ليس هنا ما هو غير عادي.. اقتربتُ منها وقلت لها:
ـ صباح الخير، أين ثانوية طلال ياسين؟ كلمة السر بيننا.. ضحكت بهدوء وقالت:
ـ امش.. امشِ.. والله لو لم تقل كلمة السر لما أجبتك، لأنني أنتظر أن يأتي إلى الموعد شخص فلسطيني أوسوداني حسب ما قالوا لي.
ونظرت إلي ثم قالت: إنك أسمر حنطي ..والله حرام.
واستمرت الأم الرائعة في الوقوف إلى جانبنا ومعنا، وفي دعمنا مادياً ومعنوياً، ونزلت إلى الشوارع في اللاذقية ودمشق؟ وتابعتنا في السجون، في عدرا، وتدمر.. وإن ما قدمته لنا في سجننا في تدمر لا يقدر بثمن, عندما يحين الحديث عن تلك المرحلة سأنصفها كما أنصفتني أولاً..
لقد كان عنادنا في وجه القمع والفظاظة واحتمال ما يحيط بنا بضعة من عناد من وقف معنا وإلى جانبنا.. من أمثال أم مازن..
بانياس المدينة الجميلة, والصبية الهادئة, حارسة البحر, قدماها في الماء وظهرها على الجبل, ورأسها في السماء، تساهر النجوم وترعى القمر، مدينة بسيطة طيبة وضعوها بين نارين.. في مدخلها الجنوبي المحطة الحرارية, وفي مدخلها الشمالي مصفاة بانياس, وفي الوسط الميناء النفطي.
تعتذر المدينة عن استقبالنا طويلاً, لأن الحصار سهل في المدن الصغيرة..
كنت مشغولاً في تلك الأيام بالمواعيد متنقلاً بين مدن الساحل الأربعة يومياً.. ينتظرني أحمد الأشقر ووائل مساءً.. وما إن أنعش حتى أغط في نوم عميق.. كانوا ينتظرون عودتي بلهفة لمعرفة مجريات النهار وما أستجد من أخبار الرفاق، من أجل إعداد الرسائل السرية المطلوبة في اليوم التالي..
في أحد الأيام عدت متعباً, أخذت حماماً دافئاً، وخرجت، كان أحمد يضع أمامه رقعة الشطرنج ويريد أن يلعب معي، لكن النعاس غلبني ونمت أثناء اللعب.. حرك حصانه وانتظر أن أنقل, وطال انتظاره… أفقت على صوت خبطة للشطرنج.. ولأصوات حجارة الشطرنج في أرجاء الغرفة نهضت عندها. غسلت وجهي. وجلست أضحك..
ـماذا تريد؟
ـ أريد أن أجلس مع أحد .. شهران ويمران! لو جمعت مدة الكلام بيننا.. أريد أن تعرفني على أحد أزوره.. أريد أن أرى بشراً, سواك..!!
سهرنا سوية تلك الليلة, وعدته أن أعود باكراً في اليوم التالي وأن نذهب سوية في زيارة بعض البشر..
جهز أحمد الأشقر نفسه كعادته, خرجنا مساءً من مدخل البناية، أخذ يتنفس بعمق, ويلتفت يميناً ويساراً.. وكأنه يخرج من سجن طويل.. وقف أحمد مدهوشاً عندما قلت له:
ـ إننا ذاهبان لزيارة أسرة, مر على آخر لقاء معهم أربع سنوات.. فقال:
ـ هل أنت مجنون؟
ـ بعد أن عرفتك أصبح الجنون أمراً عادياً.
ضحك و أشعل سيجارة من أخرى.. دخلنا زقاقهم.. يخيم الهدوء الثقيل… قرعت جرس بابهم.. أجاب صوت أنثوي ناعم: من..؟
ـ نحن … أنا…
ذهبت الصبية الصغيرة وعادت أختها الكبرى.. وكررت: من بالباب؟
ـ أنا .. نحن.. أستاذ الانكليزي.
فتحت الباب.. دخلنا, لاحت بوضوح بسمتها الهادئة ونظرتها المنكسرة خجلاً.. مدهوشة غير مصدقة أن أكون الزائر بعد كل هذا الغياب.. دبت الجلبة في الغرفة المجاورة.. وبدا الحرج علينا وعليهم.. جاءت الأم, أم عادل، ورحبت بنا أجمل ترحيب بالأحبة.. فالشوق باد رغم المفاجأة التي زرعت المنزل حركةً واضطراباً ودوراناً في المكان..
لمت الصبايا كتبهن الموزعة على أرض غرفة الجلوس وجلسنا على “طراحات” الإسفنج وعرفتهم على صديقي:
ـ عبد الرزاق، استاذٌ في ثانوية جبلة الصناعية.
رمقني أحمد باستغراب ودهشة من هذا الاسم الجديد الذي أطلقته عليه للتو..!
كانت الأخت الثانية تجلس صامتة تختلس النظرات من بين خصلات شعرها المتدلية على جبينها..
لما تلاقت نظراتنا حاولت الاختباء خلف أختها.. وضعت الأخت الكبرى عدة “المتة” والليمون.. بدأ عبد الرزاق يتجاذب أطراف الحديث مع الصبايا… وطلبت منا الأم الرائعة أن نجلب لها الثياب من أجل غسلها.. ثم دخلت أم عادل إلى المطبخ.. وأخذت تدور بي الأشواق كما تدور حسرة بين جذوة النفس وابتهال القلب..
تظلين ذلك الحلم الضائع مغمساً بالسهد والوهم والخيال. يا قريبة قرب الحاجب من العين. ويهتدي الحلم من سراب إلى سراب.. وليس على جراحي غير ملح بحر باتياس.. فأين يدك تنتشلني من تحت الماء.
بدت الصبية مدهوشة, مبهورة,عزلاء, ثملة, وحائرة.. وبدا قلبها قد فاض به الشجن… وما عادت الكلمات قادرة على إطفاء نار قلبينا..
رغم غيابك يا امرأة كل هذه الأعوام.. وانشغالي عنك.. انكشف الحزن.. وهطل الشوق، فهل تودين في سهرة واحدة إنفاق كل ما اجتمع في صدرك من مخزون؟
طالت سهرتنا. كانت المفاجأة عندما هممنا بالخروج, أعدت لنا الأم الرائعة كمية كبيرة من كل أنواع المؤونة، أكياسٌ وعلب, زيت, زيتون, حمص, مكدوس, رمان، بامياء، ورب البندورة، و…..
تفتحت مسامات ذاكرتي.. هطل مطر دموع الغياب.. خرجنا من البيت,
ـ تصبحون على خير.
وعلى وقع كلمات الوداع مع السلامة و”منعادة” صحوت على كلمات أحمد في الشارع:
ـ يالفاجعة العشاق! في إمكانك الليلة أن نعرف تجنيكم تجني المطر على العشاق.
كانت قلوبنا ترتجف على شجرة الغياب, نحن يتامى الحب. قال الأصمعي: سألت إعرابية عن العشق فقالت:
جل ما لله عن أن يُرى وخفي عن أبصار الورى
فهو في الصدور كامن ككمون النار في الحجر
إن قدحته أورى وإن تركته توارى
ـ يا صديقي إن حبي لهذه الفتاة قد تركته رغماً عني ولم يتوارَ… الحب هو القدر المعتدل من العشق.. إنه عاطفة إنسانية ذات طبيعة خاصة بكل فرد مع التسليم بقدر مشترك.. الحب ليس طبقياً إنه لكل الناس كباراً وصغاراً أثرياء وفقراء..
حينها، وضعت الأغراض على باب البيت كي أتمكن من فتح باب الشقة.. حملنا الأكياس وضعناها كما هي في المطبخ..!
** ** **
يتبع
اقرأ في الجزء الثالث من “خلية آب/ مطر الغياب”
** نقل وتوزيع المتخفّين**
خاص – صفحات سورية –