معجزة الفاصوليا
صبحي حديدي
على غرار ما فعل صديقنا المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك في عمله الجميل ‘كتاب الحمّص’ (بالتعاون مع روبير بيستولفي، دار Actes Sud، باريس 1998)، أصدر المؤرّخ والأكاديمي الأمريكي كين ألبالا كتاباً بعنوان ‘تاريخ الفاصوليا’، نُشر مؤخراً في لندن، عن مطبوعات Berg، سعى فيه إلى البرهنة على أنّ تاريخ هذه الحبّة البقولية هو أكثر إشكالية، وأشدّ تعقيداً، من أن يتناسب مع شعبيتها الراهنة. وذاك تاريخ رآها رمزاً للخصوبة، في شخص الإله المصري حورس؛ وشهد توصيفها بـ’مستقرّ الروح’، عند فيثاغورث؛ كما انطوى على تسميتها ‘بذرة الخطيئة’ حسب القديس جيروم، الذي حرّم أكلها على الراهبات لأنها ‘تدغدغ الأعضاء الجنسية’.
العمل، بالطبع، ليس كتاب طبخ وأطباق، رغم أنه يدوّن أكثر من 50 وصفة في هذا المضمار، بل هو عمل ثقافي وتأريخي وأنثروبولوجي، وثمة رصد واسع وغنيّ لحكايات الفاصوليا، في التراث الفرعوني وسفر التكوين والنصوص البابلية، كما عند هوميروس وأرسطو. ونثر ألبالا غنائي النبرة حينما يستعرض مختلف ‘محاسن’ الفاصوليا، وحارّ المعجم كلما اندفع إلى إنصاف حبّة تعرّضت طويلاً للإضطهاد والتأثيم والإحتقار، قبل أن تصبح مادّة لا غنى عنها في مطابخ العالم، شرقاً وغرباً. وتكفي الإشارة إلى أنّ بريطانيا هي اليوم البلد الأعلى استهلاكاً للفاصوليا، وأنّ شرائح واسعة من سكان الهند والصين أخذت تتحوّل تدريجياً إلى الفاصولياء، على حساب طبق الأرز ذي الشيوع الأسطوري.
غير أنّ الأطروحة الأهمّ والأطرف حول حبّة الفاصوليا تظلّ ـ حتى إشعار آخر طويل، في يقيني الشخصي ـ مسجّلة باسم أمبرتو إيكو، الروائي والناقد وعالم السيميولوجيا الإيطالي الشهير. وكانت صحيفة ‘نيويورك تايمز’ الأمريكية، في مناسبة الألفية الجديدة، قد طرحت على عدد من الكتّاب والمفكرين والعلماء هذا السؤال: ما هو أهمّ المخترعات في الألفية التي سلفت؟ وكان المرء ينتظر إجابة مثل تلك التي تختار رقاقة الكومبيوتر المحتوية على ملايين المعطيات، في مساحة لا تتجاوز السنتيمتر الواحد، من سطح معدني رقيق لا يتجاوز سماكة شفرة الحلاقة. إجابة أخرى سوف تختار جهاز التلفزة، الذي كسر الحدود وحطّم الحواجز واقتحم الفضاءات وأقحم الفضائيات. أو شبكة الإنترنيت. أو، إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، كليشيه الطباعة في تصميم غوتنبرغ. أو الآلة البخارية، الدينامو، الهاتف، الآلة الكاتبة أو حتى الغراموفون…
لكن إيكو شاء إحداث المفاجأة: أهمّ اختراعات البشرية في الألفية السالفة هي حبّة الفاصوليا! نعم، حبّة الفاصوليا والعائلة البقولية بأكملها: اللوبياء والعدس والبازلاء. لماذا؟ لأنّ الإختراع الحقّ، والأهمّ، هو ذاك الذي يحفظ النوع الإنساني، وينتقل به من الدمار إلى النماء، ومن الفناء إلى الحياة. وهو ذاك الذي يتدخّل في منعطف حاسم من التاريخ الإنساني، لينتشل البشر من عصور الإنحطاط أو الخراب أو الموت العميم. وهو ذاك الذي تسري عليه القاعدة الشهيرة: الحاجة أمّ الإختراع.
وهذه الحبوب، الإعجازية في رأي إيكو، تحتوي على قِيَم بروتينية تعادل أو تتجاوز ما تحتويه اللحوم من القِيَم البروتينية ذاتها. إنها، في عبارة أخرى، بمثابة ‘اللحم النباتي’ الذي عوّض فقراء أوروبا، في عصور الظلام بخاصة، عن اللحم الحقيقي الذي كان الأغنياء يحتكرونه لأنفسهم. لقد كان هؤلاء يملكون اللحم الحيواني، واللحم الداجن، واللحم البحري. وكانوا يملكون الصيد الطبيعي أيضاً، لأنّ الأرض والسماء والماء كانت مشاعاً لهم، أو للدولة التي ليست سوى امتداد إداري لسلطتهم.
وقبل اختراع البقوليات كان سوء التغذية يفتك بفقراء أوروبا، وكان بمثابة التجسيد النموذجي لما نطلق عليه اليوم تسمية ‘أسلحة الدمار الشامل’: من مجاعة إلى أخرى، ومن وباء إلى جائحة، ومن السلّ والجذام إلى الكوليرا والأورام الخبيثة. ولقد أخذت أعداد السكان تتناقص سريعاً، حتى أنّ أوروبا بأسرها صارت لا تعدّ أكثر من 14 مليوناً في القرن السابع. وليس بغير أسباب وجيهة أنّ تلك الأحقاب، الممتدة منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس وحتى العام 999، استحقت صفة ‘عصور الظلام’، وبامتياز في الواقع.
وفي مطلع القرن العاشر انتشرت زراعة البقوليات، واكتشف الفقراء أنّ طبقاً من العدس المسلوق يمكن أن يعادل شريحة سمينة من لحم البقر، وباتوا قادرين على تحصيل المزيد من البروتين الرخيص (الذي كان الأغنياء يحتقرونه، لحسن الحظ!)، فأصبحوا ‘أكثر نشاطاً، وعاشوا زمناً أطول، وأنجبوا ذرّية أفضل وأكثر عدداً، وضاعفوا أعداد سكان القارّة’ كما يقول إيكو. ولولا حبّة الفاصوليا، يتابع الرجل، ‘ما كان عدد سكان أوروبا سيتضاعف خلال قرون قليلة، وما كنّا اليوم سنُعدّ بمئات الملايين، وما كان بعضنا ـ بمَن فيهم قرّاء هذه المقالة ـ سيبصرون النور’.
وإذا كانت حكاية حبّة الفاصوليا تقترن عند إيكو بدلالات بيئية واجتماعية وأنثروبولوجية وثقافية ـ حضارية، ويذهب ألبالا إلى درجة اعتبارها ‘منقذة الحضارة الإنسانية’، فإنها هذه الأيّام ينبغي أن تقترن مباشرة بما يجري في اجتماعات كبار الكون الأغنياء الأقوياء، سواء كانوا سبعة أم ضمّوا إليهم عشرة أم عشرين من جياع المعمورة، حول كيفية وقف الإرتداد إلى عصور الظلام. وفي الماضي كان الأغنياء يحتقرون بروتين الفقراء ويكتفون باللحم السمين، أمّا اليوم فإنّ جحافل البرابرة الجُدد تريد أكل الأخضر مثل اليابس: من حبّة العدس، إلى رقاقة الكومبيوتر، مروراً بالآدميّ الكامخ بينهما!