صفحات مختارة

نصيحة هيغل

null
د. رشيد الحاج صالح
إن المتأمل لواقع المجتمع العربي سرعان ما يلاحظ أنه يعاني من حالة تمزق عميقة، ناتجة عن عدم قدرته على تحقيق طموحاته في العدالة والمساواة والتحرر الداخلي والخارجي، على الرغم من قناعته أن الإمكانات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية الموجودة في العالم العربي تستطيع تحقيق مثل تلك الأهداف. بمعنى آخر، إن مشكلتنا تكمن في أننا عندما نفكر بوضعنا العام ومصيرنا، سرعان ما نشعر بحالة إخفاق ناتجة عن المفارقة بين طموحاتنا وأهدافنا وإمكاناتنا، وواقعنا المرير الذي نعاني منه.
فنحن اليوم نعاني من عدم امتلاك الوعي الجماعي للوسيلة التي تحقق طموحاتنا وأهدافنا على أرض الواقع. وأكثر من ذلك، فنحن نادراً ما نفكر جدياً في كيفية الخروج بطموحاتنا إلى حيز الواقع والحقيقة، ولا نكترث لإدخال البعد الواقعي في تكوين حقلنا العقائدي والفكري.
وهنا يمكن أن نسأل: ما السبيل للانتقال من حالة الطموح إلى تحقيق تلك الطموحات على أرض الواقع؟ وكيف نحول الأفكار إلى قوة مادية؟ وما الإجراءات التي تحول الأفكار إلى واقع مباشر؟ وكيف نخرج بالوعي العربي العام من حالة «التنويم» والاستمتاع بصحة المعتقد النظري إلى حالة القلق من عدم القدرة على معايشة تلك المعتقدات للواقع؟
في البدء يمكن القول إن المشكلة ليست في المعرفة، بل هي في الإرادة والمنهج. بمعنى آخر، الجميع يعرف أهمية العدالة والمساواة ويريدها، ولكنه لا يعرف كيف يصل إليها. والجميع يدفع كل يوم ثمن السياسات العدوانية لإسرائيل وحلفائها، ولكنه لا يعرف كيف يواجه هذه العدوانية، وإنما تقتصر ردود فعله على الشتم والاتهام بالوحشية وفضح الأهداف الاستعمارية للآخرين. والجميع متأكد من عدم اهتمام الأنظمة السياسية العربية بحقوقه وأهدافه الوطنية والقومية، ولكنه لا يعرف كيف ينظم تفكيره ويواجه تلك الأنظمة التي أعادته إلى عصر العبودية.
إذاً، فالمعرفة لا تكفي لتحقيق الأهداف والطموحات،بل لا بد من امتلاك الإرادة والقدرة على التحقيق، والإرادة قوة، والقوة تكمن في امتلاك المنهج والوسيلة، والمنهج والوسيلة يكونان ناجحين عندما يستطيعان السير بالأفكار إلى أرض الواقع والتطبيق العملي.
ألم يقل كولنجود: «قل لي ما منهجك.. أقل لك من أنت». فالأزمة إذاً هي أزمة أرادة ومنهج، أي يجب أن تُقرنْ الأفكار بالبحث العلمي لتحقيقها، وإلا بقيت الطموحات والأهداف حبيسة الأفئدة والعقول. فالناس يعتقدون أنه بمجرد إيمانهم بفكرة ما، أو برأي معين، فهذا يكفي لكي يحترموا أنفسهم ويعطوها المكانة الرفيعة، من دون أي اهتمام بالسعي الواقعي لتحقيق تلك الأفكار والآراء.
يبدو لنا أن المشكلة سياسية وثقافية وفكرية في الوقت نفسه: فهي سياسية، لأن تطبيق الأفكار والعقائد يحتاج إلى مؤسسات تقوم بتنظيم الناس وتفعيلهم في المجتمع. والمؤسسة، إما أن تكون حزبا أو جمعية أو ناديا أو منظمة . . الخ.. ينتسب إليها الناس، وتصبح ممثلاً لهم، وهم ممثلون لها في الحياة العامة. وإذا علمنا أن غالبية الأنظمة العربية تقف بشكل حازم وصارم ضد أي شكل من أشكال التنظيمات السياسية، إلا في حدود ولاء تلك التنظيمات لها، أدركنا على الفور الصعوبات التي تواجه المجتمع العربي في تحقيق طموحاته وأهدافه.
والمشكلة من جهة أخرى ثقافية، تتعلق باهتمام الناس بحاجاتهم المعنوية أكثر من اهتمامهم بالحاجات الواقعية. ذلك أن علم النفس الاجتماعي المعاصر يؤكد أن الإنسان يهتم بالمطالب الأيديولوجية والتصورات الطوباوية ويعطيها دوراً أكبر من الدور الذي يعطيه لتلبية الحاجات المادية. فالإنسان العربي يهتم بالمفاخرات التاريخية وماضيه المجيد وأحلامه السياسية الكبرى أكثر من اهتمامه في كيفية تحقيق مثل تلك الأفكار عملياً وواقعياً. وينتج عن هذا التكوين العقلي، أن ذلك الإنسان كثيراً ما يقع ضحية المؤسسات الدينية والسياسية التي تستغله من خلال إشباعها لحاجاته المعنوية وتمجيدها مقابل سرقة حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
والمشكلة من جهة ثانية فكرية، تتعلق بعدم ميل الناس عموماً إلى إعادة النظر في أفكارهم ومعتقداتهم، مهما بلغت من درجة البعد عن الواقع. ولذلك فإنهم كثيراً ما ينظرون إلى أفكارهم ومعتقداتهم من زاوية سلامتها نظرياً وتناسقها عقلياً، وليس من زاوية ملاءمتها للأوضاع والظروف الواقعية والاجتماعية.
لقد نصح هيغل الأمة الألمانية -عندما كانت تائهة ومشتتة- بالمصالحة بين الفكر والواقع، ورَفضْ كل تفكير لا يأخذ الواقع بعين الاعتبار، وبتجذير الحاجات المعنوية في قلب الحياة الواقعية. ويبدو أننا اليوم أحوج ما نكون لنصيحة هيغل هذه!
كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى