ماذا فعلت الطائفية بالعراق؟
محمد عارف
بعد ست سنوات من الاحتلال يبدو واقع العراق كنكات العراقيين، وتبدو نكاتهم أكثر واقعية من واقعهم. لنأخذ على سبيل المثال نكتة عن شخص مد سلكاً كهربائياً يربط منزله بشبكة الكهرباء العامة في الخارج، وفوجئ بالأجهزة الكهربائية المنزلية تتناوب العمل والتوقف على فترات: المصابيح تضيء، ثم تنطفئ، والبرّاد يشتغل، ويتعطل، وجهاز التلفزيون يستأنف البث، ثم ينغلق. وعندما فحص الأسلاك وجد أنه ربط الأجهزة المنزلية بتيار كهربائي خارجي يغذي مصابيح إشارة المرور في الشارع!
هذه النكتة يطبقها حرفياً أفراد الجمهور المحروم منذ سنوات من الخدمات العامة الموفورة في المنطقة الخضراء. والتهكم العابث في النكتة أقل عبثاً من تناوب إضاءة وإطفاء شعارات وقوانين المحاصصة الطائفية، وإعادة الإعمار، والسيادة، والوحدة الوطنية، والدستور، والبرلمان، والفيدرالية، واللامركزية، والمركزية.
رئيس الوزراء المالكي تحدث عن “المصالحة الوطنية” في اجتماع بوفد من المغتربين العراقيين خلال زيارته الشهر الماضي لاستراليا، وقال إن “الوحدة الوطنية هي الطريق لتثبيت الأمن والحفاظ على المنجزات”. وأعلن قبل أيام في لقاء في مكتبه مع وفد من المثقفين العراقيين المغتربين: “أقبرت الطائفية”.
كيف الثقة بتوجهات المالكي المعادية للطائفية، وهو زعيم حزب قام على الطائفية، وتسلم الحكم وفق المحاصصة الطائفية؟ حتى زعماء أحزاب مشاركة في العملية السياسية يتهمونه بسرقة شعارات الوطنية منهم، حسب تصريح صالح المطلك لمراسل صحيفة “واشنطن بوست”. ويرى الباحث الأكاديمي النرويجي رايدر سيفر، المختص بالعراق، أن دعوات المالكي إيجابية، لكنه يعتبرها “غير كافية من دون تغييرات إدارية ومراجعة دستورية تجعل العراق بمنأى عن التأثيرات الخارجية، بما في ذلك العناصر الموالية لإيران، التي يضمها تحالفه الانتخابي”.
وإذا كانت الكلمة الأخيرة للشارع العراقي، فهو حسب وكالات الأنباء العالمية “أكثر هدوءاً الآن. القتال بين الشيعة والسنة توقف إلى حد بعيد. لكن ذلك ليس علامة على الحالة السوية في العاصمة العراقية. فالخوف هو الذي يحفظ السلام”. وللخوف أرقام وإحصائيات مخيفة تدل على أن استراتيجية الترويع التي مارستها الولايات المتحدة استخدمت سلاح الطائفية الذي جهزته الأحزاب الحاكمة.
إحصاءات الجهات الرسمية العراقية والأميركية تذكر أن “300 ألف أسرة، معظمها سنية، أجبرتها المليشيات الشيعية وفرق الموت على الهروب من منازلها ولم يجرؤ على العودة منها حتى الآن سوى 50 ألف أسرة”. وتذكر أحدث التقارير أن بعض أحياء بغداد تبدو كمدن الأشباح، حيث تستقبل الأسر العائدة إلى منازلها عبارات مكتوبة بالطلاء على الجدران مستقاة من العبارة التلفزيونية: بعد الاستراحة جيش المهدي”.
ويذكر “جوان كول”، الأكاديمي الأميركي المختص بالعراق، أن “بغداد تحولت من مدينة مختلطة عام 2003، يسكنها بالتساوي السنة والشيعة، إلى مدينة شيعية، تُقدّر نسبة سكانها السنة بما يتراوح بين 10 و15 في المئة”. ورغم تطهير الشوارع من المليشيات الشيعية وفرق الموت، حسب مصادر الجيش الأميركي، فإن التقسيم الطائفي ما يزال قائماً.
ويستقبل سكان الأحياء المختلطة بحرارة جيرانهم العائدين، ويحيطونهم بالتعاطف والمحبة، ويعدون لهم وجبات الطعام، لكن لا أحد يضمن سلامتهم في حال قيام المليشيات مرة أخرى بتفجير العنف الطائفي. ولا يثق العائدون بحماية الحكومة لهم على المدى الطويل. تعبر عن ذلك أعداد الأسر العائدة إلى منازلها في “حي الحرية” الذي رحلت منه نحو أربعة آلاف أسرة، معظمها سنيّة، ولم يعد منها لحد الآن سوى 648 أسرة.
هذه إحصائيات ميدانية تستصرخ على الأرض شاهدتها السماء، إذا صح التعبير. عرضت ذلك صور أقمار الرصد الفضائية التي حلّلتها دراسة علمية منشورة في مجلة “البيئة والتخطيط” الأميركية. رصدت الصور مستويات الضوء والعتمة في أحياء بغداد المختلفة للفترة ما بين مارس عام 2006 وديسمبر 2007. وتعتبر إضاءة المصابيح الليلية مقياساً موضوعياً لدرجة انتشار السكان ونشاطهم الاجتماعي في المنصور، والكاظمية، والأعظمية، ومدينة الصدر، وبغداد الجديدة… وغيرها من أحياء بغداد، التي قسمها جيش الاحتلال إلى عشر مناطق أمنية.
أعد الدراسة ثلاثة علماء من قسم الجغرافيا في “جامعة لوس أنجلوس” في كاليفورنيا بهدف التحقق من فاعلية خطة الإدارة الأميركية السابقة والقاضية بزيادة عدد القوات. الدراسة معنية بالبحث عما إذا كانت الخطة قد “أنجزت هدفها الرئيسي في تحقيق الاستقرار، وتحسين نوعية الحياة اليومية، كمقدمة للمصالحة السياسية بين الجماعات الطائفية والإثنية المختلفة”؟ والجواب هو: لا. لم تُبن نتائج البحث أن الخطة حققت آثاراً ملحوظة، باستثناء كونها “ختمت بالمصادقة على عملية التطهير الطائفي”. يوضح ذلك “التدهور الهائل في مدى الاختلاط السكاني المتبادل بين الجماعات المختلفة، واحتمال فقدان أرواح كثيرة من السكان في بعض المناطق”.
ولا يستبعد الباحثون في حال سحب القوات الأميركية، “استئناف عمليات التطهير الطائفي الشريرة”، حسب تعبيرهم، إلاّ أنهم يشيرون إلى حقيقة أن عملية الفصل الطائفي حدثت بوجود القوات الأميركية، وبأعداد كبيرة. والسخرية واضحة في الفقرة الأخيرة للدراسة الأكاديمية، التي تعلن أن وجود القوات “ربما ليس له دور مركزي في الأحداث ببغداد والعراق، كما تتصور حكومة الولايات المتحدة والرأي العام. وهي بالتأكيد لم تكن كذلك خلال السنتين الماضيتين”!
ولم يكن العراقيون بحاجة إلى أقمار فضائية لرصد أحداث تجري في وطنهم، تكفيهم عيونهم وقلوبهم كأقمار ومجسات للرصد. وقد نبهتُ، أنا الغائب عن بلدي، إلى خطر الطائفية منذ السنة الأولى للاحتلال، وذلك في مقال منشور هنا يوم الرابع من ديسمبر عام 2003، بعنوان “تأسيس أكاديمية العلوم العراقية في لندن”. وأضحك الآن بمرارة لسذاجتي ووجلي الشديد من تناول الموضوع، وكيف اعتذرت بالنكتة لأنبه إلى الخطر. واحتّج عليّ آنذاك من تسلم فيما بعد منصباً وزارياً سيادياً وفق المحاصصة الطائفية!
ماذا فعلوا بهذا البلد الطيب، الذي احتضن مختلف المعتقدات والديانات منذ فجر التاريخ؟ لقد أقاموا فيه كياناً دموياً بغيضاً، وقالوا هذا هو العراق. ويعرف حكماء العراقيين والعرب أن عمليات العنف والتفجيرات الانتحارية قلبُ سياسة لا قلب لها، وضميرُ أوضاع لا ضمير لها، إنها فاجعة سياسية، وأخلاقية، ودينية، وإنسانية. ويصارع البلد على مدار الساعة لحماية نفسه وقلبه وعقله من هذا الواقع الذي شرّد نخبة الطبقة المتوسطة، شرّدها جغرافياً وعاطفياً وذهنياً ومعنوياً. وقد يستسلم بعض أفراد النخبة إلى أقبح ما يبغضون، إلى جنون الطائفية التي حشرها في أرواحهم الاحتلال والمتعاونون معه. “وعندما نتعب تهاجمنا أفكار قهرناها منذ زمان”، كما يقول الفيلسوف الألماني نيتشه.
وتعب النخبة المتنورة تعب للبلد كله؛ فهي تتكون من آلاف المهندسين، والعلماء، والعسكريين، والتدريسيين، ورجال الأعمال، والفنانين، والأدباء الذين حافظوا في أتعس الظروف على بقاء البلد وسلامة عقله الوطني. والله يعلم ما يمكن أن تفعله هذه النخبة، جوهرة الروح العراقية، لو أتيح لها في أي وقت واحد بالمليون مما أهدره المحتلون والمتعاونون معه، أو لو كفوا البلد شرهم فحسب.
جريدة الاتحاد