قضية فلسطين

هل “الضفة” أفضل من “القطاع”؟

د. أسعد عبد الرحمن
عندما سيطرت حركة “حماس” على قطاع غزة في منتصف عام 2007، وتشكلت حكومة جديدة في الضفة الغربية، روج الكثيرون لسيناريو يرى أن الضفة ستكون نموذجاً من حيث الانتعاش الاقتصادي يتناقض مع مصير القطاع المحاصر. حينها، سارع رئيس وزراء الحكومة الانتقالية سلام فياض إلى التأكيد على أنه سيحول الضفة إلى “إسرائيل ثانية من الناحية الاقتصادية”، تبعه في ذلك التأكيد مبعوث الرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط توني بلير الذي وعد السلطة الفلسطينية بتطوير وضع الضفة الاقتصادي عبر خلق فرص عمل جديدة وتشجيع الاستثمار، بعد تعويض المؤسسات الفلسطينية التي أغلقت أو دمرت. وترافق ذلك مع الإعلان عن أن مهمة بلير تستهدف جعل السلطة “قوية اقتصادياً”، حيث شرع هذا الأخير ببلورة خطة سلام اقتصادي، بالتعاون مع رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت “تصنع الفرق بين الضفة والقطاع”. وفي إطار هذه الخطة كان من المفترض، عند المتفائلين (ولا أقول الساذجين)، أن يهب كبار رجال الأعمال في المنطقة لإنشاء مصانع مشتركة، ووضع خطط ثنائية في مجال الاقتصاد الإسرائيلي الفلسطيني، والعمل على تشجيع الاستثمار الأجنبي عبر تخفيض الضرائب، فيما ستساعد إسرائيل على تسهيل حرية الحركة ومنح التسهيلات لرجال الأعمال الفلسطينيين الذين سيستثمرون في هذه المشاريع.
وها قد مر ما يقارب السنتين، والضفة لا يختلف وضعها جوهرياً عن القطاع. بل إن المخاطر التي تهددها، بمعنى محدد، أكبر وأخطر. فعلى عكس ما هو عليه الحال في القطاع، المحرر والمحاصر، الضفة مليئة بالمستعمرات المتنامية، وبالتالي باعتداءات المستعمرين ضد البشر والشجر والحجر الفلسطيني، والحواجز والمعابر، والجدار على امتداد البصر، والاقتحامات والاغتيالات يومية. وبدل أن تكون السلطة في الضفة مقدمة للدولة وأداة لاستعادة الحقوق، تحولت إلى “حكم ذاتي”، حتى لا أقول “حكم غير ذاتي” أو “مجلس بلدي”. فإسرائيل، وعلى عكس خطة بلير، لم تسهل حركة البضائع والأفراد، ولم تسرع منح التأشيرات وتسهيل وصول المستثمرين والخبراء إلى الضفة، ولم تتعاون مع السلطة والدول المانحة لتطوير عملية أكثر كفاءة للموافقة على مشاريع الجهات المانحة، بل إنها لم تلتزم بتنفيذ مجموعة التدابير التي أعلن عنها في مايو 2008 والتي اتفقت عليها إسرائيل وبلير. ومن جهته، وصف البنك الدولي الوضع الاقتصادي في الضفة بـ”الكارثة الاقتصادية”، معتبراً أن “الأزمة ليست أزمة ائتمان على غرار ما يجري في العالم، بل أزمة نقص الأراضي التي تحول دون الاستقرار فيها بغرض السكن أو الزراعة أو الصناعة والاستثمار”، ذلك أن 60 في المئة من أراضي الضفة (“المنطقة ج” في اتفاقية أوسلو) تقع كلياً تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي وهي بغالبيتها غير مستثمرة وعدد السكان فيها قليل. ويشير التقرير إلى أن “اتفاقية أوسلو وما جاء فيها، مثلت في حينها حالة انتقالية نحو إعلان دولة فلسطينية، إلا أن السلطات الإسرائيلية قامت بتجميد كامل لنقل الأراضي إلى السيادة الفلسطينية منذ بدء الانتفاضة الثانية”، وذلك رغم استمرار النمو الديمغرافي لدى الفلسطينيين دون أن يسمح لهم بالانتشار جغرافياً داخل الضفة لكي يطلقوا عجلة اقتصادهم والعمل على الإنماء والتطور، بحيث اعتبر التقرير الدولي أن “مشكلة الأرض وانعدام إمكانية التمدد الجغرافي الفلسطيني، تسبب أزمة فعلية لسوق العقارات، مما يشكل حتماً أزمة سكن وأزمة إنماء”.
لقد فشلت المفاوضات التي أطلقت في “أنابوليس” في نوفمبر 2007 في تحقيق ما أراده الرئيس الأميركي السابق بوش، في حين تابعت إسرائيل ممارساتها الاحتلالية. فالأخيرة لم تثق بالأداء الأمني للسلطة الفلسطينية، لاعتقادها بأن هناك فرقاً شاسعاً بين فرض النظام والقانون والحملة غير الناجعة تجاه منظمات المقاومة الفلسطينية، وبين القيام بحملة فعالة مضادة لفصائل المقاومة، الأمر الذي جعلها تصر على استمرار عدوانها العسكري المباشر في الضفة، حتى في المدن التي استلمتها قوات الأمن الفلسطيني! ثم إنها حافظت على أكثر من 580 حاجزاً كبيراً وساتراً معيقًا أو خندقًا في الضفة، وهو عدد ارتفع منذ “أنابوليس”، بحيث ما زالت هذه العوائق المتنوعة سبباً رئيساً من أسباب الذل للفلسطينيين على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والتجارية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية والنفسية. بل إن من أصعب ما تواجهه الفلسطينيات في الضفة الآن هو إجبارهن -بشكل متزايد- على التعري على الحواجز بحجة التفتيش. والحال كذلك، علينا أن لا ننسى أن هناك شبه إجماع إسرائيلي على تخليد احتلال الضفة. فالكاتب الصحفي الإسرائيلي “الوف بن” يقول في “هآرتس”، إن هناك الآن في إسرائيل “إجماع يتبلور على أن الانسحاب من الضفة الغربية لم يعد ممكناً، وأنه يمكن إبعاد الفلسطينيين عن الأعين بجدار الفصل، لكن لا يمكن التحرر من السيطرة عليهم… ويشترك الجميع في هذا الاستنتاج، من كافة المعسكرات والأطراف السياسية”. ثم يضيف: “المشترك في هذه المواقف من اليسار واليمين هو تخليد الوضع القائم، مع عشرات المستوطنات، ومئات الحواجز، وآلاف الجنود وراء الجدار”.
أما المستوطنات فهي لوحدها سبب رئيسي يجعل كل عاقل يسخر من أي تصريح يصب في اتجاه الوعود بتحويل الضفة إلى “سنغافورة جديدة”. ففي الوقت الذي لم تتوقف فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي عن اقتحام المدن والبلدات والقرى واعتقال الكثيرين، يزيد التوتر الحاصل بسبب “المستوطنين”، خاصة وأن هناك أكثر من جهة رسمية وحزبية إسرائيلية تؤيد تصرفاتهم في العلن! كما أن الأحزاب الإسرائيلية اليمينية الفائزة في الانتخابات الأخيرة تعرف أن “المستوطنين” انتخبوها لكي تمسك بالمستعمرات، مما يعطي هؤلاء مجالا أوسع للتحرك، خاصة مع تنامي قوة “إسرائيل بيتنا” الداعي لطرد الفلسطينيين، والذي تشكل سياسته ذروة الأهداف التي قامت من أجلها حركة “الاستيطان”، أي إخراج الفلسطينيين وتهجيرهم خارج الأراضي الفلسطينية ما أمكن، أو تجميعهم في كانتونات متفرقة يمكن السيطرة عليها بسهولة، حيث تنتهي الإمكانية العملية لوجود أي كيان فلسطيني مستقل، بحيث يكون الحديث عندها عن الاقتصاد نكتة سخيفة وعن الاستقلال نكتة سمجة! فهل ينتبه السياسيون والإعلاميون لهذه الوقائع والحقائق ويتوقفوا عن إظهار أوضاع الضفة وكأنها “النعيم” وأوضاع القطاع المحرر والمدمر، كما لو أنها وحدها هي “الجحيم”، مع أن حصار إسرائيل له ومقارفاتها ضده تجعله ليس بعيداً عن مثل هذا الوصف.
طالما استمر الانقسام غير الطبيعي بين حركتي “فتح” و”حماس” وبالتالي بين الضفة والقطاع، وطالما ظلت المؤسسات الفلسطينية غير موحدة ولا قادرة على العمل بفعالية، فسيكون من الصعب التخطيط من أجل تحسن مستدام على المدى الطويل والتقدم بجدية في عملية التسوية. وفي ظل الظروف الراهنة، لا تستطيع الضفة أن تصبح نموذجاً لأي شيء إيجابي، بل الخوف من أن يكون قطاع غزة “الطعم” الذي يشد أنظار العالم في حين تبتلع إسرائيل الضفة.

جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى