المثنى الشيخ عطية

الحلقة رقم 4 من رواية: سيدة الملكوت

null
المثنى الشيخ عطية
دومينو الحرب
أمدّ يدي إلى راديو سيارة محمد. أوقف الموسيقى الصاخبة.
ـ أليس لديك شيء أهدأ؟.. أقول لمحمد الذي يستغرب تصرفي.
ـ كنت تحبها كما أظن!
ـ نعم لكن لا أدري لماذا كرهتها للتو. هل تعتقد أنهم سينفذون الإنذار.. أقول وينظر إليّ محمد مستغرباً. يضحك لموقفي.
ـ ما بالك الآن. أنت الوحيد الذي يصرّ على أنهم خططوا للحرب كي يخوضوها!
ـ مع ذلك أكاد لا أصدّق. اليوم انتهت كل فرص التفاوض. لقد أفشلوا كل فرص التفاوض، ومع ذلك لا أكاد أصدق أنهم سينفذون الإنذار، ألا ترى أنك تجاوزت البار. لماذا لا تتوقف عن السير. منذ ساعة وأنت تدور بالسيارة.. أقول ويضحك محمد قلقاً
ـ لقد حيرتني. قبل قليل ضقت بالبار وطلبت مني أن نخرج.
ينعطف محمد إلى اليمين. يدخل الشارع الموازي لشارع بار ماريّا، ويلف من خلفه، لتستقر السيارة أمامه.
ـ هيّا. أظنك طلبت أن ندخل البار.. يقول وأتردد في النزول.
ـ أنا طلبت ذلك!!.. أقول ويصمت محمد. أفتح باب السيارة وأنزل. ندخل بار ماريّا بب. نتجه إلى البار. يأخذ محمد مكانه أمام الساقية الإنكليزية. يحدثها ممرناً لغته.
ـ اثنان فودكا بالجريب فروت. ينظر إليّ إن كنت موافقاً. نعم. أمسك كأسي. أرتشف ما فيه من مرارة شارداً في الزجاجات المرصوفة خلف الساقية.
ـ ما رأيك بالبلياردو؟.. يسألني محمد، ويحضر قطع النقد. يصفّها على حافة الطاولة. يتناول واحدة. يضعها في الشق. يسحب القبضة، وتتدفق الكرات بتزاحم محدثة جلبة خالية من الصوت ومنتشرة أمامي كما الهلام. ينظر محمد إليّ وأنا أمسك بعصاي دون أن أتحرك. يضع عصاه ويبدأ بإخراج الكرات. أنتبه إليه. أحضر المثلث. أحصر الكرات بداخله وأقف. يرفع محمد المثلث. ينظر إلي. يلقي بقطعة النقد ويتلقفها على ظهر يده. وشم. الضربة الأولى لي. أركّز على الكرة البيضاء وأضرب. أفكر بنورا. أتخيل وجهها وهي قلقة عليّ من خلال التلفون.
ـ ساعة الصفر تقترب. كيف الحال لديك في قبرص!؟ لديكم قاعدة إنكليزية. هل أنت بعيد عن موقع الخطر!؟. أتخيل وجهها وأعيد تكرار
طمأنتي لها. أعيده للمرة الخمسين في ذاكرتي.
ـ لا تقلقي نورا. أقول محاولاً اغتصاب ضحكة من داخلي. أنا بعيد، ولن يضرب أحد قبرص. القاعدة بعيدة عني على أية حال. كيف أحوالكم أنتم. بدأت أسمع عن طرد بعض المعارضين للحرب من فرنسا.
ـ نعم هاني. وهذا يقلق الجميع. مبادرة ميتران تم مسحها من الإعلام، ولم يعد من أمل سوى الاجتماع الأخير بين جيمس بيكر وطارق عزيز. الشباب هنا يفكرون أنه تراجع لأمريكا عن الحرب لكني أحس بقلقهم.. تقول نورا وأصمت.
ـ اسمعي نورا. آمل أن يكون كذلك فلا تخشي شيئاً. هل أنت قلقة علي فعلاً!؟.. أقول منتظراً إجابتها بلهفة.
ـ لا. أردت فقط أن أعرف إن كنت قد حافظت على غلاظتك أم لا.. أضحك وأنا أتخيل وجهها. أستعيد غضبها. نار غضبها. كم أحتاج لها الآن. يلاحظ محمد شرودي. أنا أضرب الكرات دون تركيز.
ـ لم تقل لي. كيف حال نورا؟ أحسست أنك قلق بعد تلفونها في المكتب. يقول محمد وهو يستلم ضرب الكرات، يفاجئني بالتقاط إحساسه لما أفكر فيه.
ـ جيدة. إنها تفكر في المجيء  إلى قبرص، لقد عرض عليها عمل كمصممة لمجلة الجديد في نيقوسيا.
ـ هذا جيد. دعها تأتي. ربما فكرنا في زيادة عملها من رسومات الأطفال بتصميم الكتب. نصير عرض علي مشروعاً للاشتراك في طباعة الكتب.
ـ أشكرك محمد.. أقول. لقد شجعتها على المجيء لكنني قلق من جماعة الجديد. ما هي مسموعاتك عنهم؟.
ـ إنهم بخلاء قليلاً في الرواتب، لكن يمكنها تعويض ذلك بعمل التصميمات لجهات أخرى.
ـ إذا وفروا لها الوقت. أنت تعلم ما هي صعوبة العمل في مجلة أسبوعية!
ـ نعم لكن أنت قلق زيادة عن اللزوم، دعها تأتي ولا تخف. يقول محمد مخففاً من قلقي، وأستلم دوري في ضرب الكرات. أدور حولها محتاراً. أي واحدة علي أن أضرب. تلك هي كرتي. أضرب لكنني ألمس الكرة السوداء. يضحك محمد. أضع عصاي على الطاولة، ونتجه إلى البار.
ـ من الذي ربح؟.. تسألنا الساقية.
ـ أنا … خسرت. أقول وتضحك. نحتسي كأسينا. أعود إلى شرودي. بينما يدرب محمد لغته مع الساقية.

أنظر إلى الزجاجات المرصوفة المتلامعة خلف الساقية. أغرق في الظلال المتداخلة التي تداخلني وتشعرني بالتلاشي. أغرق في تكسّر النور والظلال، وأستعيد وجه نورا، قلق نورا عليّ… أسمع طرقاً على الباب وأفتح باب غرفتي لأرى نورا تنظر إلي وكأنها غير مصدقة أن تراني. إنها تريد التأكد من أنني حقيقة أمامها. أنظر إليها أن تهدأ . أمسك بساعديها. وأجلسها على الكرسي بجانب المدفأة. تداري ضعفها بجرعات من السيطرة.
ـ حسناً هاني. سنحسم أمرك بالرحيل عن دمشق هذا اليوم قبل الغد. لقد هيأت لك كل شيء. لقد تم عمل عقد لك مع صحيفة عربية في قبرص. وكمال أرسل لك جواز سفر سوف تستلمه في بيروت. خروجك مؤمن عن طريق بيروت. لن أتحمل قلقي عليك بعد الآن.
ـ ما الذي استجد لكي تقلقي إلى هذه الدرجة. أقول قلقاً من قلقها.
ـ سألحق بيوسف إلى الكويت بعد أيام.
ـ أعرف هذا. وأعرف أنك سعيدة للم شمل العائلة. لكن ما الذي يقلقك الآن!؟. أقول وأنظر إليها أن تفصح.
ـ حسناً. تقول. لقد اعتقلوا رباح، وعليك أن تكون حذراً. لا أستطيع الثقة أنه سيصمد أمامهم وهو يعلم أنهم قتلوا عبد الرزاق تحت التعذيب لأنه رفض إفشاء ما يعرف. تقول وأخاف من قلقها على انهيار رباح.
ـ حسناً. علي أن آخذ حذري، لكنك تبالغين في خوفك من انهيار رباح. أنت لم تحبيه منذ البداية. ماذا يقلقك غير ذلك!؟
ـ معاذ. تقول نورا وتدمع عيناها.
ـ ما به معاذ. لقد خرج من السجن!؟.. أسألها بقلق وتداري انفعالها.
ـ لا شيء. لكني قلقة عليه. إنه مريض كما تعلم. والسجن ربما يكون قد أثّر على صحته.. تقول وأشعر بالقلق على معاذ. أبدي لها غضبي منه لأنه لم يأت إلي كي أخفيه في دمشق خلال ملاحقته.
ـ أرسلت له أنني أستطيع إخفاءه هنا. لكنه أصرّ على البقاء في حلب. كم أكره حلب. أقول وتدمع عينا نورا. تخفي انفعالها بأخذ سيجارة. أشعل لها سيجارتها، وتخفي عني وجهها متشاغلة بجلب منفضة السجائر. تأخذ نفساً عميقاً من سيجارتها.
ـ لن ينفع الندم الآن. أنت تعلم عناده وإصراره على العمل السري في حلب. المهم أنه طليق الآن، ويستطيع العلاج. دعنا نفكر في قضيتك أنت. لن يصدّق أحد أنك خارج التنظيم. هاني قل لي ماذا يعرف عنك رباح. لقد طلب مني مروان تحذيرك أنت بالذات. قال أن النسخة الثانية من الرسالة الداخلية كانت مع رباح خلال اعتقاله. قل لي ما هي هذه الرسالة، وما دخلك أنت بذلك. تقول نورا وتعتصر يد ساحقة قلبي.
ـ متى اعتقلوا رباح!؟..  أسأل نورا. الأمر يتطلب التحرك، فقد يفشي لهم رباح باسم من أعد الرسالة.
ـ البارحة.. تقول. وأحس أن علي التحرك.
ـ أعتقد أن علي تغيير المكان، ولكن إلى أين!؟.
أفكر باللجوء إلى العائلة، ولكن كيف أصل إلى دير الزور. لم أحسب هذا الحساب لتدبير هوية مزورة. وستكون الطرق هي أول ما يراقبوه. علي المغادرة الآن والتفكير بعد ذلك إلى أين. أنظر من نافذة غرفة جابر المطلة على الطريق مستطلعاً الشارع، وتذهب نورا للنظر من نافذة عبد الحي لاستطلاع الجهة الأخرى. المكان هادئ. لكن الليل سيهبط ولا يدري أحد ما يخبئه الليل. علينا أن نغادر. أقول لنورا. أجول ببصري في أرجاء غرفتي الحنون وكأنني أودعها لآخر مرة. أنظر إلى لوحات الإعلان البولونية التي تشكل بتكوينها السري الذي لا يعلمه غيري اسم المرأة التي أحببت وهي بجانبي على خلفية ورق الجدران الجغرافي الأزرق البحري الذي يشكل العالم. أنظر إلى كتبي المرصوفة في ركن الحجرة..
“مذكرات بابلو نيرودا. أعراس محمود درويش. التجربة التاريخية الفيتنامية لياسين الحافظ. إلزا أراغون. قحط هيثم الخوجة. وعزلة غابرييل غارسيا ماركيز”. أنظر إلى أشرطة الكاسيت المرمية حول المسجل “فيكتور جارا. أغاني المقاومة. مارسيل خليفة. جوان باييز. أحمد الزعتر. كارمينا بورانا. شهرزاد ريمسكي كورتزاكوف. خامسة بيتهوفن. وبحيرة بجع تشايكوفسكي”. أرفع كاسيت كارمينا بورانا لأضعه في جيبي وأتوقف. أفكر بلا جدوى أخذي لأية ذكرى، وأعيد الكاسيت إلى مكانه. سينثرونك مع بقية محتويات الغرفة. تتناول نورا شالها وتلفه حول عنقي.
ـ ستخنقيني. أقول. الربيع على الأبواب. والجاكيت والكنزة التي تسجنيني بهما تكفيان. تضحك نورا وتنتهي من لفي وكأنني طفلها.
ـ لست ابنك طارق.. أقول وتضحك.
ـ سوف تتمنى ذلك لو اعتقلوك.. تقول وأنظر إليها بعينين ماكرتين.
ـ أستطيع تمني ذلك دون أن يعتقلوني.. أقول وتضحك.
ـ كنت ترى نفسك كبيراً عندما كنا صغاراً.. تقول ضاحكة ونحن نغلق الباب لنغادر.
ـ ستنام عندنا هذه الليلة وبعد أيام سأدبر أمر خروجك إلى بيروت في إحدى سيارات المقاومة.. تقول ونمشي في شارع بيتي الفرعي باتجاه شارع العابد. ننعطف يساراً وأنظر إلى الخلف مواربة دون أن أشعر أحداً بذلك. ألمح سيارة الرانج روفر المميزة للمخابرات السورية من بعيد تتوقف على بعد عشرين متراً من المنزل فأعرف أن رباح قد سقط. نحث الخطى باتجاه السبع بحرات. ثم باتجاه موقف الباص الذاهب إلى ركن الدين.
ـ أنت في أمان منهم الآن.. تقول نورا، ونمشي مسرعين. تمر بذاكرتي صورة معاذ وسحر يقفان أمام البيت الذي ضرب فرد من أحد أحزاب التجمع الوطني الديمقراطي موعداً لمعاذ فيه. يمر بذاكرتي ارتياب سحر من الصمت المخيم في الشارع.
ـ لا يعجبني هذا الموعد.. تقول سحر. لم أستطع الوثوق بصاحبه. ويخاف عليها معاذ.
ـ انتظري في المدخل. سأحدث ضجة تسمعينها إذا حدث ما يريب. اهربي فور سماعك أية ضجة، ولا تسألي عني. أنا أدبر نفسي.
تمر بذاكرتي المثقلة خطى معاذ وهو يصعد الدرج إلى الطابق الأول وكأنه درج الجلجلة. يقرع الباب وتتابعه هي بنظراتها المتوجسة. يقرع الباب. ينتظر لحظة. يحس بالخطر ويتراجع غير أن الوقت فات. لقد كمنوا له داخل البيت. ينفتح الباب بسرعة ويبرز منه رأس الكلاشينكوف موجهاً إلى صدره. يمسك برأس البندقية بيده صارخاً ومزيحاً إياها عن صدره لتنبيه فتاته المنتظرة في الأسفل. يتعارك مع رجل المخابرات المسلح الذي يضغط على الزناد خائفاً فتنرشق الطلقات.
تسمع سحر صوت العراك في البداية وتزمع على الهرب. غير أن صوت الطلقات يسمّرها في المكان، ثم يدفعها إلى صعود الدرجات بجنون. ترى أمامها مسلحاً يهوي على رأس رفيقها بعقب البندقية من الخلف بينما تنحل يد معاذ عن فوهة بندقية مسلح ثان يشتبك معه. ويوجه مسلح ثالث فوهة بندقيته على جسده الذي يتهاوى.
تندفع سحر في اتجاه معاذ رامية نفسها عليه، ومغطية إياه في حركة حماية وصارخة أن يتركوه قبل أن يشدها المسلح من شعرها ويصلبها على الجدار.

تدخل نورا مكتباً للمقاومة في الساحة. تغيب لحظات. وتأتي باسمة
ـ لقد تم الأمر. هناك سيارة مغادرة مع فضل غداً وسيارة بعد ثلاثة أيام وعليك الخيار.. تقول.
ـ بعد ثلاثة أيام. علي إخبار الرفاق بتغيير مساري من قبرص إلى باريس.
ـ سأخبرهم عنك. أرى أن تسرع في الخروج رغم عدم وجود ما يمنع من بقائك ثلاثة أيام. لم أعد واثقة من شيء في هذه الأيام.. تقول ونمضي في اتجاه بيتها.

تضحك الساقية من صعود أصابع محمد إلى ساعدها بعد أن كان يمسك بيدها بين كفيه. أضحك محرجاً. ماذا أفعل لمنعه من تماديه. أحس بمسؤوليتي عنه تجاه عائشة التي تطلقه حراً إذا كان بمرافقتي. لكن لماذا أمنع محمد عن شقاوة الطفل فيه. لماذا لا أدعه على سجيته في هذا العالم الذي يوشك على الانهيار. أنا أعلم أنه يحب عائشة ولا يستطيع العيش دونها رغم كل شقاواته. كم تعجبني وتوازن تعقيدي بساطته. أنظر إلى الزجاجات المرصوفة أمامي خلف الساقية. أرتشف جرعة كبيرة من كأسي وأغرق في تكسر النور والظلال.

ـ لم تقل لي ما هي خطورة الرسالة التي كانت بحوزة رباح عليك؟.. تسألني نورا ونحن نحتسي القهوة في المطبخ بعد العشاء.
ـ ليس من خطر حقيقي سوى أنه سيكشف حقيقة وضعي الحزبي إذا قال لهم رباح من كتب الرسالة، ولن يمكنني الإنكار لأنها بخط يدي.
ـ بخطك!.. تكتب رسالة خطيرة بخطك. ماذا جرى لك!؟.. تقول نورا. وأضحك
ـ تهوري المعتاد، لكن لم يكن هناك مجال آخر.
ـ نعم. أنت الذي يقرر كالعادة إن كان هناك مجال آخر أو لم يكن.
ـ يروق لي أن تقومي بدور أمي، لكن لا تهيني كرامتي هكذا.
ـ أنا لا أهينك، فقط أحس بالمسؤولية تجاهك لأن خالتي أوصتني بك.
ـ هههها نعم. خالتك. أقدّر لكما أنت وخالتك الاهتمام بي.. أقول ساخراً وأنا أتذكر بمرارة دخول أمي غرفتي لتضع القهوة على الطاولة ولتخاطب ابنة الجيران التي جلست أمامي لرسمها قائلة لها إن هانيبال لديه دراسة. أتذكر مرارتي من تصرفات أمي الوقحة مع كل من أحببت من فتيات. أتذكر تدميرها لمراهقتي. أتذكر مرارتي وأنا أنظر برعب إلى نورا التي بدت وكأنها تشبه أمي.
تدخل أخت نورا المطبخ، تسلّم علي. تعرّفها نورا عليّ.. تقول لها إنني سأقضي لديهم بضعة أيام ويفضل أن لا يعلم أحد بوجودي.
ـ طبعاً، أقدّر ذلك.. تقول أختها وهي تخرج معتذرة لدراستها.
ـ نعم. أنا أسمع منك. اشرح لي أمر الرسالة.. تقول ويسقط في يدي. هل أخبرها بما حدث. وكيف أخبرها بذلك. أنا واثق أنها ستتخذ موقفاً لن يعجبني من قصتي. لكن نظرتها الحنونة تغريني بإخبارها. أنظر في عينيها اللتين تنتظران روايتي بحنان ويسقط في يدي، لم لا أخبرها القصة سوف يعجبها ما صنعت، على الأقل كرجل تصرف بثقة ورجولة، وربما ساعد هذا في استمالتها لي. نعم. لماذا لا أستميلها بهذا؟
ـ أنت تعلمين.. أقول لها.. أنه كان عليّ واجب مساعدة الحزب عندما اعتقلوا القيادة الأولى والأمين العام، خاصة أن عضو المكتب السياسي أبو حرب الذي دفعني للاستقالة من الحزب خان الحزب وسلم الأمين العام إلى المخابرات. لقد قلت لك وقتها إنني عدت إلى العمل السياسي، لكن ما لم أقله هو أنني حضرت اجتماع القيادة الجديدة للحزب لمناقشة أخطر ما يواجه الحركة الديمقراطية في البلد لاتخاذ أصعب قرار يواجه الحزب: إما التخلي عن البرنامج الديمقراطي الذي طرحناه وشكلنا التجمع الوطني الديمقراطي على أساسه، كما يطلب النظام، وبهذا نحصل على الأمان الذليل غير المأمون من الفاشية. أو الإصرار على التمسك ببرنامج الحزب، ومواجهة السجن والموت.
لقد اتضح لي أكثر من أي وقت مضى أن النظام هو الذي صنع الحرب مع الإخوان المسلمين لا لضربهم فقط بل لضرب الحركة الوطنية الديمقراطية التي بدأت النهوض، وضربنا على أي وجه مهما كان القرار الذي سنتخذه لكوننا على رأس هذه الحركة.
كان الرفاق يعلمون بموقف أبو هشام في السجن عندما طلب منه النظام إصدار بيان بإدانة الإخوان المسلمين، ويعلمون بإصراره على مبدأ التعددية السياسية للجميع، وعلى حقه الديمقراطي ورفضه ذلك تحت موقف أن الحزب الشيوعي هو حزب مستقل يكفل له الدستور حرية الرأي والقرار. وأن التفاوض لا يتم مع سجين. هناك حزب في الخارج مسؤول عن إصدار القرارات، وعليهم إطلاق سراحه والتفاوض مع الحزب..
وكان على النظام أن يلعب اللعبة.. لعبة أن يحصل من الحزب على هذا القرار مادامت القيادة الصلبة معتقلة لديه في السجن.. ولهذا قام النظام بترتيب لقاء بين يوسف ظافر الذي فصله الحزب علناً لانضمامه إلى المنشقين، وبين عضو الأمانة الوحيد ميخائيل أيوب الذي بقي خارج السجن. وقد بدأ ميخائيل بوازع طيبته وتحت ظن أنه بهذا يوقف اعتقالات الرفاق بالاتصال مع منظمات الحزب لعقد اجتماع للجنة المركزية من أجل إصدار بيان يدين الإخوان المسلمين غير مدرك أن هذا البيان سينسف مبدأ حق التعددية واستقلالية موقف الحزب التي ناضلنا عمرنا من أجلها.
لقد رأيت بنفسك مدى قلقي عندما طلب مني الرفاق حضور هذا الاجتماع، فلقد كنت أصغر حجماً من هذه المسؤولية لكني أدركت خطورة القرار عندما رأيت تحرك سامح ظافر بدفع من أخيه يوسف وأيدي النظام لجرّ منظمات الحزب إلى قرار مضاد لقرارات مؤتمرنا. كان النظام يريد شق الحزب وكان يوسف وسامح ظافر وميخائيل أيوب يساعدان على ذلك بوازع نوايا طيبة لم أستطع أن أرى في عسلها غير السم…
كان واضحاً أن هذه الحركة بدون وجود القيادة الأولى للحزب ستقسم الحزب، كما كان واضحاً أن المشنقة سوف تنصب لمن يقف ضد هذا التوجه.
كانت المسؤولية جسيمة، وكان وضعاً لا أحسد عليه، دفعني للذهاب إلى البلد وتصفية ذهني أمام الفرات.
أمام نهري وقفت لاتخاذ أخطر قرارات حياتي.. لقد كان اجتماع اللجنة المركزية الذي دعيت إليه هو الصراط الذي يحك معدني كرجل. إنه معركة حقيقية لا حدود لاحتمالاتها والقرارات التي ستتخذ فيه قرارات لن تكون سارة لأحد، والمشنقة سوف تعلّق لمجرّد الحضور إلا إذا لبس المرء ثياب يهوذا.
لقد فكرت بالتراجع. تلك مسؤولية كبيرة على من أراد القيادة فيها أن يتحمل وضع صدره أمام النار.. لكن رغبتي بمساعدة رفاقي كانت تمنعني عن التراجع. ماذا أفعل كي أكون نافعاً لرفاقنا داخل السجن، وماذا أفعل لمساعدة من هم خارجه حتى الآن!؟. إن أي قرار سوف يتخذ هو قرار أكثر من حساس.  ماذا لو كان ميخائيل على حق وأنه سيساعد الرفاق بموقفه، لكن هل هو على حق فعلاً وهل سيساعد هذا رفاقنا؟!.. تذكرت بلدنا وما آل إليه من فساد، تمييز طائفي، ديكتاتورية، ضعف، فاشية، سرطانية للأجهزة البوليسية، تدمير للحياة المدنية المؤسساتية، حكم للحزب الواحد والفرد الواحد، تأليه للتفاهة، مجازر خارج السجون وداخل السجون، تذكرت كيف حولوا بلدنا إلى سجن مريع. تذكرت رفيقي فرحان الذي سلخوا من شبابه أربع سنوات داخل السجن كان سيتخرج فيها مهندساً لمجرد خروجه في مظاهرة ليوم الأرض الفلسطينية، وأخرجوه ليعيدوه إليه مرة ثانية. تذكرت عبد الرزاق وهو يلفظ أنفاسه تحت التعذيب دون أن يسمح لهم بإذلال رجولته باعتراف. تذكرت عمر قشاش بسماحته وهو يقول للمحقق “إنني مع سياسة حزبي التي أعرفها والتي لا أعرفها، فافعلوا ما تشاؤون”. تذكرت الدكتور فايز الفواز وهو يشرح لي بلطفه وذكائه أهم ما ارتكز عليه فكرنا من أجل خير الناس في بلادنا، ودون أن يشير إلى شكة لينين التي وضعتها على ياقة معطفي: “إن الميداليات السوفييتية هي امتداد لمعتقدية الأيقونات، وعبادة الفرد”، ويجرني إلى جرأة مواجهة إيمانيتي بروح العقلانية. تذكرت “ابن العم” الأمين العام لحزبي رياض الترك، بعينيه الطيبتين الصلبتين بآن وهو يزيح ورقة انسحابه بيده جانباً وينظر بتلك العينين إلى خشبة الصليب الذي أعدوه له، ويقول للضابط الذي قدمها “البيان يوقعه الشعب لا أنا”. تذكرت رفيقي رياض الترك وهو يسلمني رسالته لآخر اجتماع للقيادة قبل سجنه من أجل إخفائها، ويقول لي ضاحكاً: “يمكنك أن تقرأها لكن انتبه، عليك بإخفائها جيداً “. تذكرت أن هذه الوثيقة بالذات هي ما يمكن أن يقلب الطاولة أمام أي شك في موقف قيادة الحزب، ومن سيوقف لعبة النوايا الطيبة.. لا أنكر أن الخوف دخل إلى قلبي وأغراني برفض هذا الشرف. قلت في نفسي أنه يمكنني إعطاء وثيقة رياض لأبو مازن واللجنة المركزية وهم سيعرضونها في الاجتماع، ولكن ما الذي يضمن لي أن أبو مازن سيعرضها. وماذا إذا أعاق أبو مازن عن موعد الاجتماع اهتمامه الشديد بتغذيته في أحد المطاعم تحسباً للجوع، أو أعاقته الجاكيتات الثلاث والكنزات الخمس والبيجامات الأربع التي يلبسها مرة واحدة تحسباً للبرد إذا ما تم اعتقاله. تذكرت كم هو صعب مواجهة مرحلة حساسة مثل هذه بأحاسيس أبو مازن. تذكرت. نعم تذكرتك نورا، وضعت نفسي في طاحونة موقفك المتعارض الذي يشبه اختبار الله لإبليس حين طلب منه السجود لآدم وهو يعرف أنه ممنوع من السجود لغير الله. تذكرت أنك ستشيرين عليّ أن أسير بدرب السلامة خوفاً علي، وأنك ستحتقرين موقفي الخالي من الرجولة في الوقت نفسه إذا سرت في هذا الطريق. تذكرت أمي التي أدانت العالم وانكفأت على نفسها وتذكرت أبي الذي باع الدنيا وغاب عنا مع الصوفيين ووقفت أمام الفرات. وقفت في منتصف الجسر مواجهاً إياه. وقفت حيث تكون المياه المتدفقة الملتفة حول الدعامة أعنف ما تكون. وجهت قلبي صوب الفرات..
كانت الشمس تأخذ شكل برتقالة هائلة تهبط وئيداً في حضن النهر وتلاشيني معها في الخضم الهادئ لألم ومتعة هذا الولوج. انحدرتْ عيناي من قلب الشمس إلى هاوية المياه المزمجرة بصمت حول دعامة البازلت التي تغيب. حدّقت في قلب الهوة حتى الغياب فانشطر وجه قلبي وتدفق فيه النهر. كان عارماً ومعذباً بصمت. جرني النهر بهدوء نحو الأسفل حتى الغرق، وارتفع بي محلقاً بأجنحة هائلة ثقيلة تنتثر منها تحت رذاذ ضوء الغروب قطرات الماء.
صعدت عيناي ببطء نحو قلب الشمس. أحسست أن الكتل في داخلي تنحل، والكتلة الكبيرة التي تشكل رأسي تذوب ثم تتلاشى. فتحت ذراعي وتراجعت. درت على رجل واحدة دورة دورتان وأنا أحدق في الأعلى ثم انسفحت.. شكّل ذراعاي المنفتحان مع جسمي الممدد ما يشبه الصليب. كانت قيامةً وكنت مغموراً فيها بالغبطة.
بعد زمن لا أعرف مقداره قمت. حدّقت في الجهة المقابلة بالنهر حيث ينساب ويذهب. صرخت فيه لقد تبادلنا دماءنا يا فرات ولم يعد لك مهرب.
في اجتماع اللجنة المركزية أبرزت وثيقة الأمين العام المدونة بخطه. كانت بسيطة وحاسمة كما هي طبيعته: “وفقاً لقرارات مؤتمر الحزب ينبني المشروع الذي وضعه الحزب على إقامة نظام وطني ديمقراطي مبني على التعددية السياسية وهذا يعني عدم العمل بالديمقراطية الشعبية التي تتبناها بعض الأحزاب وتفتح الباب للديكتاتورية، كما يعني استقلالية الحزب في اتخاذ القرار الذي يراه مناسباً دون وصاية من أحد، مع التحذير من أن أي تراجع عن المشروع الديمقراطي تحت خديعة أي مساومة سوف يعني تكريس الديكتاتورية والطائفية والتشريع لها، وسوف يعني ضرب قيم الكفاح التي يجب أن تكرس بالتضحية من أجل الديمقراطية والشعب”. قرأت الوثيقة وقلت أن هذا هو ملخص اجتماع قيادة الحزب قبل ضربها.
بسبب ما يشكله رياض الترك للحزب من روح ورمز جرى التصويت بالأغلبية على استمرار كفاح الحزب وفقاً لقرارات المؤتمر الخامس،  وكان علي أن أنتقل إلى ما هو أكثر حساسية من هذا.. التصرف مع الرفاق الذين نسّقوا مع يوسف ظافر من أجل البيان، وخرقوا النظام الداخلي بمحاولات الاتصال مع منظمات الحزب خارج قنوات التنظيم. ابتدأت كلامي بتذكير الرفاق أن هناك نظاماً داخلياً للحزب ينص على فصل أي عضو يقوم بالتكتل أو يخرج عن قرارات مؤتمر الحزب، وطلبت بناء على ذلك فصل الرفيق ميخائيل عضو الأمانة المركزية من الحزب.
ـ ماذا؟! تقول نورا مندهشة مما أقول. طلبت فصل ميخائيل!!؟
ـ نعم. اتبعت سياسة طلب الكثير لأحصل على ما يمكن.
ـ وماذا كان رد ميخائيل!؟
ـ لم يكن حاضراً لحسن حظي وحظه، وقوبل رأيي باعتراض الأغلبية.
“إن هذا من شأنه أن يقسم الحزب”.. قال أحد الرفاق، وأجبته بأن هذا من شأنه أن يفعل العكس، فاتصال ميخائيل بمنشقين عن الحزب يتفقون مع النظام يعني عملياً اتفاقه مع النظام الذي يسجن ويقتل رفاقنا الآن، ويعني أن مكانته السابقة لن يكون لها تأثير على منظمات الحزب، كما أن فصله سيمنع اتصاله الذي يجب وقفه بالرفاق، ويحول دون هز عزيمتهم.. ما نحتاجه الآن.. قلت.. هو رص صفوف الحزب حول قرارات المؤتمر الخامس، وبتر أي محاولة لخلخلة التراص.
أقول وأنظر إلى نورا. إنها مندهشة من جنوني. وأنا سعيد بإدهاشها على هذه الصورة.
ـ طبعاً.. أقول.. إن هذا مأزق يصعب حله، لكن الرفيق أبو كريم حله بطرح تجميد الرفيق ميخائيل بدل الفصل للتصويت، ونظر إلي دون أن يلحظه أحد كي أوافق. ووافقت، فقد كنت أريد كف يد ميخائيل عن منظمات الحزب في هذه المرحلة وهذا يكفل ذلك.
ـ وهكذا كتبت أنت الرسالة الداخلية التي ألقت بميخائيل خارج الحزب، والتي من شأنها أن تعلقك على الجدار. تقول نورا مستنتجة ما حدث.
ـ ماذا كان بإمكاني أن أفعل؟!. لم يعد بالمستطاع الوصول إلى آلات الحزب الكاتبة في الوقت القصير الذي لدينا. كنا نخوض سباقاً مع الوقت، وكان علينا أن نكف يد سامح وميخائيل عن الاتصال بالمنظمات.
تصمت نورا مفكرة. تحتسي الرشفة الأخيرة من فنجانها.
ـ قلت لي إنني أضعك على الصراط مثلما فعل الله مع إبليس. تقول ضاحكة. هل تعتقد أن موقفك الرجولي الأحمق سيجذبني إليك أكثر مما لو اتخذت موقف السلامة.
ـ لم أفكر على هذا النحو. أقول محرجاً من انسياقي إلى ما هو محظور علي، وتاركاً لها نفسها أن تقرر.
ـ أنتم الرجال أغبياء، لكنكم محقون فنحن النساء أيضاً غبيات ونضعكم دائماً على الصليب. تقول، وألتقط إعجابها، لكنها تحس بذلك وتتراجع.
ـ لا يمكنكم إبعاد نيل إعجابنا عن مشاريعكم. تقول ضاحكة. وتستمر كمن تذكر شيئاً.
ـ تذكرت هاني. أهل يوسف يمكن أن يزورونا غداً ومن الأفضل أن  لا يراك أحد الآن.. سندبر أمر رحيلك غداً وسأخبر رفاقك بما حدث. هاني أرجو أن تفهمني.. تقول وتمد لي يدها. أمسك بيدها.
ـ أعرف أنك تريدين حمايتي. أقول لها ممتناً على هذه اللحظة من حبها.
ـ الأمر أخطر مما تتصور هاني. صدقني. تقول وتدمع عيناها.

أنظر إلى الزجاجات المتلامعة أمامي على رفوف البار. أنظر إليها وهي تتلاشى بوجه نورا.
ـ ما رأيك بتغيير المكان.. يقول محمد منتشلاً إياي من شرودي. لقد يئست الفتاة من إنكليزيتي. دعنا نذهب إلى بار فيه إنكليزية تفهم العربي. يقول وأوافقه الرأي مرتاحاً كي أزيح عن صدري حجر الرحى الذي بدأ يطحنه.

ندخل ساحة الشرف الوطني في ليماسول. ندخل بار “برينس أوف ويلز” الكامن في زاوية الشارع، والمطل على الساحة. يعرّفني محمد على صاحبة البار.
ـ إنها ليندا. أميرة ويلز.. يقول ضاحكاً بالعربية التي تفهمها قليلاً. وهذا صديقي هانيبال. إنه من العراق.. يقول وأنظر إليه باندهاش مترافق مع اندهاش نظرات ليندا.
ـ قلت لها ذلك لأثيرها.. يهمس لي. سوف ترى.
ترحب بي ليندا. تناولني كأس البيرة الذي طلبت.
ـ كيف هو استعداد العراق؟!. اليوم هو اليوم الأخير للإنذار. هل تعتقد أن صدام سيصمد أمام كل هذه القوة!؟.. تسألني ليندا بالإنكليزية ويثير سؤالها الرجلان الإنكليزيان على يساري. أراهما ينظران إلي بمواربة. أنظر إليهما. لقد طلب مني محمد أن أكون هادئاً لأن معظم رواد البار هم طيارون وبحارة إنكليز. أنظر إليهما وأفكر.. هل سيذهبان اليوم للقصف، ليتني أمتلك القوة لمنعهما، هل أستطيع منعهما. أتمنى لو أستطيع ذلك ولو بالقتل.
ـ هذه الحرب ستكون مدمّرة. ديكتاتور أحمق يضع العالم على فوهة بركان. ستكون هناك دماء.. تقول ليندا وأفكر بدماء أطفال بغداد تحت القصف. أتمالك أعصابي.
ـ أنت مثل جميع الأوروبيين المخدوعين.. أقول لليندا. تردّدين مقولة الديكتاتور الأحمق اليوم، متناسية أن من أطلقها ومن يخطط للحرب ومن يريد الحرب هي أمريكا من أجل السيطرة على نفط الخليج.
ـ ولماذا يعارض ذلك صدام!؟ النفط ليس نفطه.. تقول ليندا.
ـ وليس نفط أميركا.. أقول.
ـ إنه نفط الجميع.. تقول ليندا أمام دهشتي. نعم قد تختلف معي على ذلك، لكن النفط هو نفط جميع الناس على الأرض مادمنا أبناء لهذه الأم الواحدة التي هي الأرض.. تقول ليندا ويبدأ مرجل رأسي بالغليان.
ـ نفطكم!؟ هذه آخر نكتة أسمعها. ما رأيك لو حاول أحدهم مثل ألمانيا على سبيل المثال الاستيلاء على نفط الشمال، وهل ستعتبرين هذا من حق الألمان ماداموا أبناء أمنا الأرض.
ـ نعم إذا استطاعوا ذلك.. تقول ليندا ويطير غطاء المرجل عن رأسي.
ـ منطق القوة إذن هو ترجمتك لأمنا الأرض، ياللإنكليز. ليتكم حتى أصحاب الحرب ولستم مجرد مأجورين.. أقول ويتنبه الإنكليزي.
ـ هذه حرب دولية، والمجتمع الدولي بأجمعه هو من يحارب صدام.. يقول الإنكليزي.
ـ خفة الدم الإنكليزية لا تفارقكم حتى وأنتم في هذه الحالة.. هل تصدّق أنت كذبة أنكم لستم قتلة مأجورين من قبل الأمريكان!؟.. أقول ذلك وينزل من كرسيه على البار مستعداً للعراك، وتتدخل ليندا.
ـ أرجوك ريتشارد كلنا متوترون وعليك أن تهدأ.
ـ حسناً ليندا.. يمد يده إلى جيبه ليخرج النقود. يضعها على البار.. كنا سنخرج على أية حال. فرصة سعيدة أيها السيد.. يقول لي ريتشارد ويخرج دون أن ينتظر ردي.
أتنفس الصعداء. أطلب من ليندا أن تملأ لي كأسي.
ـ لا داعي للغضب هانيبال. كلنا هنا أصدقاء.. تقول ليندا وتتجه إلى محمد الذي يراقب ذلك سعيداً.
ـ وأنت. أين كنت طوال هذه المدة ومع من أيها الليبي!؟.. تسأل ليندا محمد، وأغرق في الهدوء متأملاً الزجاجات خلف ليندا. أحتسي بيرتي وأغرق في الهدوء المتراقص أمامي بين الظلال. أرى سيارة الجيب العسكرية وهي تنهب الطريق العسكري بين دمشق وبيروت. أراني فيها. أنظر من النافذة الخلفية وأرى دمشق تبتعد. أحس بحجر الرحى يبدأ الدوران ليسحق قلبي. لقد أصبح الأمر حقيقة وها أنذا على طريق المنفى.
أنظر بعينين حزينتين في عيني نورا التي تبتسم لي مشجعة، وتمسك بيدي.
ـ لا تقلق.. تقول.
ـ لم يكن من داع لمجيئك معي.. أقول وتضحك.
ـ أنا ذاهبة لشراء ثياب لطارق من بيروت.. تقول وتترك يدي. هذه الطريقة في السفر آمنة فلا تقلق.
ـ الحواجز ليست مخوّلة بتفتيش السيارة.. يقول فضل مطمئناً إياي. ويسأل فضل نورا عن أحوال يوسف. متى يأتي، أو متى تسافر هي إليه، وهل الأحوال جيدة في الكويت. أراقب الطريق الجبلي المعشب. أفكر بالرفاق. تتداخل صورهم مع صور أشجار السرو على الطريق. كيف سمحت لنفسي أن أذهب وأترك التنظيم بيد أحمق مثل أبو مازن!؟. لكن هل كنت سأستمر بالعمل دون اعتقالي مع شخص بمثل حماقته!؟. كيف أترك معاذ مريضاً على هذه الصورة، وكيف أترك الرفاق داخل السجن وأغادر البلد!؟. لكن هل كان بقائي ينفع لإخراجهم!؟ لقد عملت وتمنيت وحلمت حتى بتهريبهم من السجن ولو عبر نفق، غير أن أحلامي تتكسر أمام قوة النظام الآن، فمن جهة نحن حزب ديمقراطي لا نؤمن بالحل عن طريق السلاح. وثانياً لقد سيطر النظام على كامل البلد بإرهاب الخوف. إن قتل الآلاف في مجزرة مثل مجزرة حماة كان كفيلاً بتغييب وعي شعبنا عن هول ما يحدث ربما لثلاثين سنة. فماذا سوف يفعل عملي السري تحت هذه الظروف. أنا كاتب، وربما استطعت المساهمة أكثر في فضح هذا النظام بالعمل الإعلامي في الخارج. لقد تواطأ الإعلام الغربي الذي تقوده أميركا مع النظام إلى درجة إخفاء مجزرة بحجم مجزرة حماة. وقد يكون لعملي الإعلامي تأثير أكثر مما لو قبعت أناقش أبو مازن في صحة اتجاه هذه الجملة وتلك في جريدة محدودة مثل نضال الشعب. إن هذا التبرير يريحني ولكن هل يعبر هذا عن حقيقة داخلي، ألا أخفي جبني وخوفي من الاعتقال تحت هذا التبرير!؟. ونورا التي ورّطتني بالخروج رغم عشقها للمتهورين والأبطال والضحايا!؟ كيف ستعاملني بعد ذلك. لقد أرسلتْ زوجها يوسف للعمل في الكويت خوفاً عليه، وقد لاح لي ضيقه من تناقضاتها إلى درجة انصياعه للذهاب خوفاً من فقدان حبها، لكنه غامر أيضاً بفقدان حبها عندما أطاعها. هذه المرأة تذكرني برادا مكسيم غوركي التي كان زوبار سيفقد حبها لو لم يطع أمرها إليه بقتلها. لقد وضعتني في نفس الخيار الذي وضعت فيه يوسف وسقطت أنا في امتحانها. أنظر إلى المرأة التي تقتلني. أنظر إلى نورا. تنظر إلي باسمة. لقد تجاوزنا الحدود.. تقول. وتدمع عيناي. ألا أستطيع العودة. هل لك أن تتوقف يا فضل. لا. تدمع عيناي وتمر صورة معاذ بذاكرتي. أفكر في عناده للبقاء في حلب رغم مخاطر الاعتقال. أفكر في بطولته. أفكر في شقاواته معي عندما عرّفني على نورا وهو يضحك بعينيه الطفلتين للمأزق الذي وضعني فيه. أفكر فيه وهو يحتضن يد جميلة مناكداً إياي باستعارة وصفي ليديها.. “حمامة بيضاء تهدل”. كم كان معاذ لائقاً بها. وكم وضعت أنا من سدود أمامه بحبي لها. لكنه وجد الرفيقة التي يحب. كم أنا سعيد بحبه لسحر بعد ألف مغامرة خيار فاشلة للنساء. أفكر بمعاذ وهو يراقصها بعذوبة إلهين حمّلا أنفسهما عبء محو آثام البشرية في آخر أمسية لها على الأرض. أفكر بمعاذ وهي تحميه من طلقات بنادق الجلادين. هذا رجل سعيد. أقول. وهذا صديقي. أفكر بصديقي معاذ يقف أمام ضابط السجن يسأله بسخرية وهو ينظر إلى صندوق أوراق الاستفتاء أمامه: “هل أنت متأكد أنه يحق لنا نحن المعتقلون لديكم الاستفتاء على الرئيس، ولماذا تمنحوننا هذا الحق الديمقراطي المبجل”!؟. أفكر فيه وهو يتلقى رد الضابط: “هذه مكرمة من السيد الرئيس”. أفكر فيه وهو يضحك في البداية على النكتة ثم يرفع صوته بغناء نشيد سيد درويش الذي كنا حورناه أمام الضابط. أدمدم معه بالنشيد:
بلادي بلادي بلادي     لك حبي وفؤادي
أفكر بصوته العذب وهو يبعث العدوى بالرفاق الذين صفتهم إدارة السجن في الساحة للاستفتاء وهم يرفضون الاستفتاء تحت تهديد السلاح. أفكر فيهم وهم يشتعلون بالغناء:
سوريا أم البلاد          أنت روحي والفؤاد
وعلى هدي الوداد      فلتسيري يابلادي…

أفكر بمعاذ وهو يتهاوى تحت ضربات الهراوات وأعقاب البنادق لإسكات صوته المشتعل بنار الغناء. أفكر برفيقي شمس وهو يصرخ فيهم ويتناول قطعة حادة ليقطع بها شرايينه أمامهم كي يكفوا عن ضرب معاذ. أفكر برفاقي…

تتوقف السيارة أمام مكتب من مكاتب المقاومة في بيروت. يترجل فضل من السيارة. ونترجل أنا ونورا. تنظر إلي بحنان وهي تودعني..
ـ عناوين بيروت لديك. سوف يدبرون لك كل شيء وستتصل بي إلى الكويت لتطمئنني عنك من باريس. سأكون هناك بعد أيام.. تقول لي. وأنظر في عينيها. هاأنذا أودع المرأة التي تقتلني. هاأنذا أودع المرأة التي تحييني. هاأنذا أودع جنتي. أنظر إليها وأبتسم لأزيل هذا الإحراج.
ـ لقد اطمأنيت عليك الآن.. تقول وتنظر في عيني مباشرة. تضمني بهدوء وأحس بدموعها. أنظر في عينيها اللتين تريدان أن تخبراني شيئاً وتتراجعان.
ـ حسناً هاني. يبدو أن علي أن أخبرك. لم أستطع أن أخبرك في دمشق لكي لا تتردد في الخروج.. تقول وهي تشرق بدموعها.
ـ ماذا هناك. نورا.. أقول محاولاً إيقاف دموعها التي حبستها طيلة هذه الأيام.
ـ لقد مات معاذ بعد خروجه من السجن بأيام. تقول نورا وأقف واجماً. يبدوا أنهم أطلقوه لأن حالته الصحية تدهورت إلى غير رجعة.. تقول وهي تغرق على صدري بنهر دمعها. لقد قتلوا معاذ. تقول وتضع حجراً في عيني اللتين يتحجر فيهما الدمع.

أنظر إلى الزجاجات المتلامعة أمامي في البار. تدمع عيناي. تنشطر بحيرة عيني بسكين ليسيل دمعي. نهراً يسيل ولا يتوقف. أرى خلل الدمع ليندا وهي تدير وجهها عني كي لا تشعرني أنها تراني. أنزل من على الكرسي وأتجه صوب الباب وأخرج.
أخرج واتجه منحدراً صوب البحر. أمشي على الشاطئ. أنظر إلى الموج الفضي المتلامع المسترسل بتقدمه نحو أقدامي.
أنظر القمر الكامل الذي يقترب شيئاَ فشيئاً ليغمرني بالكامل في نور ضيائه. أخلع نعليّ بهدوء وأتقدم خطوات على الرمل. تدمع عيناي. أتجه صوب البحر. أرفع يداي فاتحاً إياهما إلى أقصى مدى نحو القمر. يا إله السماء. أصرخ وأتهاوى على ركبتيّ ثم أتهاوى على وجهي فوق الرمل وأبكي. أبكي. أتلاشى. يتلاشى ثقل جسدي وارتفع شيئاً فشيئاً نحو السماء. أرتفع لأرى خلل الرمل المترامي في الضوء نفسي ممدداً في حركة صليب على الفراش. أرتفع لأرى خلل الرمل المترامي في الضوء مدينة بغداد بقبابها الذهبية تتشكل تحتي. أرتفع لأحس أن هذه المدينة منذورة للدمار وتحتي. أنظر تحتي وأرى خلل الرمل المترامي في الضوء سهاماً نارية متراشقة تتجه إلى بغداد كما تتجه إلى قلبي. ترتفع النار في الأسفل. انفجار صامت أشبه بانفجار قنبلة ذرية يحدث. عمود دخان هائل يحمل نثار الأجساد ويرتفع في الأسفل تحتي. أصاب بالذهول والخرس. أحدّق في عمود الدمار الذي يبدأ بالتفكك كي يتحول إلى الأصفر المغبرّ. تقشع عيناي شيئاً فشيئاً من خلال علوّي الشاهق صليباً صغيراً ممدداً يكبر ويكبر تحت ضوء قمر يكتمل وأرى نفسي ممدداً على ظهري في حركة صليب على أرض مألوفة تتجلى خلل الضوء وتتكشف لي. هي ذي أرض أحلامي. أصاب بالدهشة. أقترب بعيني لائذاً بها من حجر الرحى الذي يسحق قلبي. أحس برائحة جسدها تنتشر في جسدي وأحس بالأمان.
أرى نفسي طفلاً ممدداً على ظهره ويفتح ذراعيه كما صليب. أرى طفلاً تتواثب حوله صيصانه الصفراء وتتناقر حوله تحت رقابة ديك مصاب بخيلاء ريشه المرقش بين الدجاجات. أرى طفلاً ممدداً لا يستطيع الحراك. يقترب منه غزاله الصغير، يشمشمه ولا يستطيع الحراك. أرى طفلاً تومئ إليه شجيرات التوت وأزهار فم العصفور والخراف الوادعة الصغيرة البيضاء السمينات الإلية وهي تلوك العشب الأخضر أن يقوم ولا يستطيع الحراك. يومئ له النحل تحت رذاذ ضوء شمس لا مبالية وهو يطنّ حول الأزهار ويحط عليها، يمتص رحيق فمها المفعم بالرغبة ولا يستطيع الحراك. . تومئ له الحية بابتسامتها الأليفة الخضراء وهي تزحف على ندى الجدار ولا يستطيع الحراك. يومئ له صوت المياه الرقراقة من فم الحنفية النازل في الحوض مشكلاً رغوة هفهافة ولا يستطيع الحراك. يومئ له الضوء المتناثر رذاذاً في أرجاء المكان ولا يستطيع الحراك. أحس بأنفاس الطفل هادئة آمنة في حديقة أحلامه وأحس بالأمان. أنظر إلى الطفل. أغرق معه في سكينة أحلامه، غير أنني أحس أن علي تنبيهه كي يستفيق. أقول له حسناً أيها الطفل الوديع تزوّد برائحة طفولتك قدر ما تشاء، خذ ما تستطيع من رائحة طفولتك كيفما تشاء ولكن علينا أن نستفيق. علينا أن نستفيق لكي نواجه شمس هذا النهار.

خاص – صفحات سورية –
باذن خاص من الكاتب المثنى الشيخ عطية
للكتابة الى الكاتب مباشرة
mothannas@hotmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى