صفحات ثقافية

فيلم «الملتزم».. البحث عن الحالة «السويّة» يقود إلى الهلاك

null


ترجمة: مالك عسَّافعن «لندن ريفيو أوف بوكس»

كيف يمكن أن نميِّز بين الإنسان السوي وغير السوي؟ هذا جزءٌ من السؤال الذي يهيمن على فيلم «الملتزم» الذي أخرجه بيرناردو بيرتولوتشي العام1970، والمأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان للكاتب الكبير ألبيرتو مورافيا. وسبب الحديث عن هذا الفيلم في هذا الوقت هو أنه يتم عرضه في كافة أرجاء بريطانيا خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان).

والمشروع الذي يقدِّمه هذا الفيلم مكونٌ من جزءين، حيث يشير في جزءٍ منه إلى أن الحالة السوية فكرة غريبة، أو على الأقل من الغريب أن يفكر الإنسان بامتلاك مثل هذه الحالة السوية. وفي الجزء الآخر يشير إلى أن الشخص الذي كان يسعى للوصول إلى هذه الحالة السوية في إيطاليا خلال حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، فإنه لا يجد أمامه إلا الفاشية.

انحياز للجزء الثاني

نحن لا نعلم تماماً مدى انحياز مورافيا وبيرتولوتشي للجزء الثاني من المشروع، لكن حتى مجرد الاشتباه بأنهما ملتزمان بهذا الجزء يؤدي إلى إضعاف الفيلم. وبطل الفيلم مارتشيلو كليريتشي، الذي يؤدي دوره الممثل جان لوي ترينتينيانت، لا يريد أن يكون شخصاً سوياً وحسب، بل يريد أيضاً أن يعفو المجتمع عنه. قد لا تستحق هذه الفكرة الوقوف عندها كونها غير منطقية، لكن لماذا يعتقد مارتشيلو أن الفاشية هي حالة سوية، أو أنها تمثِّل المجتمع، أو أنها يمكن أن تعفو عنه، حتى عندما كانت ممسكة بالسلطة؟

بالرغم من غرابة هذه الفكرة، إلا أننا نستطيع أن نتفهم سبب إلحاحه على أن يكون إنساناً سوياً. فوالده موجود في مستشفى للأمراض العقلية، ووالدته مدمنة على المورفين وعندما تصحو من إدمانها فإنها تقيم علاقة مع سائق ياباني. ومارتشيلو نفسه أقدم على قتل رجل، أو هكذا يعتقد، عندما كان لا يزال في الـ13من عمره، وهذا الرجل هو سائق إيطالي حاول ممارسة الجنس مع مارتشيلو، إلا أن هذا الأخير غافله واختطف منه مسدَّسه ثم أطلق عليه النار. بعد ذلك يتزوج مارتشيلو من فتاة تقليدية وغير جذابة يتضح فيما بعد أنها كانت تقيم علاقة منذ فترة طويلة مع عمها البالغ من العمر 60 عاماً.

جزءان ومكانان

وعلى طريقة مشروع الفيلم الذي يتحدث عن الحالة السوية في جزءين، فإن فيتوريو ستورارو صوَّر هذا الفيلم في مكانين. فباريس التي جاء إليها مارتشيلو ليغتال أستاذه السابق، الذي يمارس نشاطاته المعارضة للفاشية من المنفى، تبدو ضبابية وجميلة، لكنها مدينة حقيقية بكل معنى الكلمة. أما إيطاليا فهي أشبه بالوهم: حيث تبرز فيها الشوارع المصوَّرة بشكلٍ مائل، والقصر القديم الآيل للسقوط وحديقته المغطاة بأوراق الأشجار الذابلة، والمكتب الحكومي الأشبه بالمدرجات الفارغة لأحد ملاعب كرة القدم. باختصار يبدو أن الحجم والمكان أهم شيء بالنسبة للفاشية، حيث يصبح الناس أقزاماً أمام الهندسة المعمارية.

اللجوء إلى أسطورة قديمة

تتم مقاربة موضوع الحالة السوية من خلال اللجوء إلى أسطورة سينمائية قديمة: تهمة الشذوذ الجنسي.

فعدم قدرة مارتشيلو على التغلُّب على الحالة النفسية التي نشأت عنده بعد محاولة السائق الإيطالي إقامة علاقة معه، يدل على أن الصدمة التي ولَّدتها تلك المسألة كانت أعمق من الأثر الذي خلَّفه موت السائق ظاهرياً.

وتأخذ هذه الصدمة شكلاً جديداً في نهاية الفيلم، عندما يلتقي مارتشيلو، بعد سقوط موسوليني، بذلك الرجل نفسه، وقد تحول شعره من ضفائر سوداء إلى أشقر مرسل. ونتيجة لشعوره بالدهشة والاستغراب من كون السائق مازال على قيد الحياة، فإنه يوجه له على الفور اتهاماً باغتيال البروفيسور في فرنسا العام 1938.

كما يتهمه بالفاشية، ويوجه التهمة نفسها إلى أحد أصدقائه القدماء، الذي كان منظِّراً متحمساً للفاشية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أليس أو ألم يكن مارتشيلو فاشياً؟ هنا تتدخل الأسطورة. فهو، بانتمائه للفاشية، كان يحاول فقط أن يكون إنساناً سوياً. ولذلك فإن تهمة الشذوذ الجنسي ليست هي الأسطورة بحد ذاتها، بل الإيحاء بأنه لولا تهمة الشذوذ الجنسي لما قُدِّر للفاشية أن تنطلق وتستمر في إيطاليا، أو على الأقل ما كانت لتكون مثيرة للاهتمام. وتكمن جاذبية هذه الأسطورة من خلال تجليها في شكلين مختلفين، الذكر المخنَّث والأنثى المسترجلة. وقد تكون المشكلة في التهمة ذاتها أو في الشذوذ نفسه، إنما في كلتا الحالتين لا أحد يتغلب عليها، ولذلك فإن النتائج تأتي كارثية.

مشهد الاغتيال

عندما نصل إلى مشهد الاغتيال، نرى كيف أن مارتشيلو ورجل الاستخبارات الذي برفقته يلحقان بسيارة البروفيسور. وبالرغم من أننا نعلم، من خلال سياق الفيلم، أن مارتشيلو يستعد لارتكاب جريمة قتل، لكن في هذه اللحظة توحي اللقطات لبعض الأحداث من الماضي، التي تُعرض بطريقة الخطف خلفاً، أن هذا الأمر لن يحدث.

إذ من الواضح أن مارتشيلو ليست لديه الرغبة للوصول إلى تلك اللحظة.

في نهاية المطاف تأتي سيارة مسرعة من الاتجاه المقابل، وكانت على وشك أن تصطدم بسيارة البروفيسور، فيتوقف الجميع، ومنهم مارتشيلو ومساعده اللذان كانا في سيارة سيتروين على بعد قرابة 30 ياردة خلف باقي السيارات. في هذا المشهد لم يخرج الرجلان من سيارتهما على الإطلاق، ولم يبديا أي رد فعل، حتى عندما تحاول دومينيك ساندا، زوجة البروفيسور، التشبث عبثاً بنافذة السيارة هرباً من قتلة زوجها. الذي حدث هو أن البروفيسور خرج من سيارته ليحاول مساعدة سائق السيارة الأخرى التي كانت قادمة من الاتجاه الآخر، حيث كان متكئاً بلا حراك فوق عجلة القيادة. في تلك اللحظة خرج مجموعة من الرجال المسلحين من قلب الغابة وانهالت على البروفيسور ضرباً بالسكاكين، كما لو أنه يوليوس قيصر.

مأساة نهائية

لم يصوَّر أي من هذه المشاهد بالحركة البطيئة، بل يبدو كما لو أن الفيلم كان يقوم بتركيب ذاكرة مقيتة إنما لا يمكن التغاضي عنها، فكان المشهد النهائي عبارة عن مأساة حقيقية. نشعر في تلك اللحظة أن التفرج على رجل وزوجته وهما يحتضران هو أشبه بقتلهما فعلياً.

بعد ذلك نشعر أننا فعلاً بحاجة إلى المشهد الذي يلي ذلك المشهد الدموي، حيث تعلن الإذاعة عن سقوط موسوليني وعن الاحتفالات التي يقيمها الناس بهذه المناسبة في شوارع روما. نشعر أننا بحاجة إلى هذا المشهد، لا لنستجمع فتات الأسطورة القديمة، بل لنتمكن من إدراك أن البحث عن الحالة السوية، قد يؤدي بدوره إلى التهلكة، لأنه لا يهتم إلا بالبحث عن نعمة أو عن صك غفران لا يمكن الحصول عليهم

الثلاثاء, 1 أبريل 2008

فيلم «الملتزم».. البحث عن الحالة «السويّة» يقود إلى الهلاك

ترجمة: مالك عسَّافعن «لندن ريفيو أوف بوكس»

كيف يمكن أن نميِّز بين الإنسان السوي وغير السوي؟ هذا جزءٌ من السؤال الذي يهيمن على فيلم «الملتزم» الذي أخرجه بيرناردو بيرتولوتشي العام1970، والمأخوذ عن رواية تحمل نفس العنوان للكاتب الكبير ألبيرتو مورافيا. وسبب الحديث عن هذا الفيلم في هذا الوقت هو أنه يتم عرضه في كافة أرجاء بريطانيا خلال شهري مارس (آذار) وأبريل (نيسان).

والمشروع الذي يقدِّمه هذا الفيلم مكونٌ من جزءين، حيث يشير في جزءٍ منه إلى أن الحالة السوية فكرة غريبة، أو على الأقل من الغريب أن يفكر الإنسان بامتلاك مثل هذه الحالة السوية. وفي الجزء الآخر يشير إلى أن الشخص الذي كان يسعى للوصول إلى هذه الحالة السوية في إيطاليا خلال حقبة الثلاثينيات من القرن الماضي، فإنه لا يجد أمامه إلا الفاشية.

انحياز للجزء الثاني

نحن لا نعلم تماماً مدى انحياز مورافيا وبيرتولوتشي للجزء الثاني من المشروع، لكن حتى مجرد الاشتباه بأنهما ملتزمان بهذا الجزء يؤدي إلى إضعاف الفيلم. وبطل الفيلم مارتشيلو كليريتشي، الذي يؤدي دوره الممثل جان لوي ترينتينيانت، لا يريد أن يكون شخصاً سوياً وحسب، بل يريد أيضاً أن يعفو المجتمع عنه. قد لا تستحق هذه الفكرة الوقوف عندها كونها غير منطقية، لكن لماذا يعتقد مارتشيلو أن الفاشية هي حالة سوية، أو أنها تمثِّل المجتمع، أو أنها يمكن أن تعفو عنه، حتى عندما كانت ممسكة بالسلطة؟

بالرغم من غرابة هذه الفكرة، إلا أننا نستطيع أن نتفهم سبب إلحاحه على أن يكون إنساناً سوياً. فوالده موجود في مستشفى للأمراض العقلية، ووالدته مدمنة على المورفين وعندما تصحو من إدمانها فإنها تقيم علاقة مع سائق ياباني. ومارتشيلو نفسه أقدم على قتل رجل، أو هكذا يعتقد، عندما كان لا يزال في الـ13من عمره، وهذا الرجل هو سائق إيطالي حاول ممارسة الجنس مع مارتشيلو، إلا أن هذا الأخير غافله واختطف منه مسدَّسه ثم أطلق عليه النار. بعد ذلك يتزوج مارتشيلو من فتاة تقليدية وغير جذابة يتضح فيما بعد أنها كانت تقيم علاقة منذ فترة طويلة مع عمها البالغ من العمر 60 عاماً.

جزءان ومكانان

وعلى طريقة مشروع الفيلم الذي يتحدث عن الحالة السوية في جزءين، فإن فيتوريو ستورارو صوَّر هذا الفيلم في مكانين. فباريس التي جاء إليها مارتشيلو ليغتال أستاذه السابق، الذي يمارس نشاطاته المعارضة للفاشية من المنفى، تبدو ضبابية وجميلة، لكنها مدينة حقيقية بكل معنى الكلمة. أما إيطاليا فهي أشبه بالوهم: حيث تبرز فيها الشوارع المصوَّرة بشكلٍ مائل، والقصر القديم الآيل للسقوط وحديقته المغطاة بأوراق الأشجار الذابلة، والمكتب الحكومي الأشبه بالمدرجات الفارغة لأحد ملاعب كرة القدم. باختصار يبدو أن الحجم والمكان أهم شيء بالنسبة للفاشية، حيث يصبح الناس أقزاماً أمام الهندسة المعمارية.

اللجوء إلى أسطورة قديمة

تتم مقاربة موضوع الحالة السوية من خلال اللجوء إلى أسطورة سينمائية قديمة: تهمة الشذوذ الجنسي.

فعدم قدرة مارتشيلو على التغلُّب على الحالة النفسية التي نشأت عنده بعد محاولة السائق الإيطالي إقامة علاقة معه، يدل على أن الصدمة التي ولَّدتها تلك المسألة كانت أعمق من الأثر الذي خلَّفه موت السائق ظاهرياً.

وتأخذ هذه الصدمة شكلاً جديداً في نهاية الفيلم، عندما يلتقي مارتشيلو، بعد سقوط موسوليني، بذلك الرجل نفسه، وقد تحول شعره من ضفائر سوداء إلى أشقر مرسل. ونتيجة لشعوره بالدهشة والاستغراب من كون السائق مازال على قيد الحياة، فإنه يوجه له على الفور اتهاماً باغتيال البروفيسور في فرنسا العام 1938.

كما يتهمه بالفاشية، ويوجه التهمة نفسها إلى أحد أصدقائه القدماء، الذي كان منظِّراً متحمساً للفاشية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أليس أو ألم يكن مارتشيلو فاشياً؟ هنا تتدخل الأسطورة. فهو، بانتمائه للفاشية، كان يحاول فقط أن يكون إنساناً سوياً. ولذلك فإن تهمة الشذوذ الجنسي ليست هي الأسطورة بحد ذاتها، بل الإيحاء بأنه لولا تهمة الشذوذ الجنسي لما قُدِّر للفاشية أن تنطلق وتستمر في إيطاليا، أو على الأقل ما كانت لتكون مثيرة للاهتمام. وتكمن جاذبية هذه الأسطورة من خلال تجليها في شكلين مختلفين، الذكر المخنَّث والأنثى المسترجلة. وقد تكون المشكلة في التهمة ذاتها أو في الشذوذ نفسه، إنما في كلتا الحالتين لا أحد يتغلب عليها، ولذلك فإن النتائج تأتي كارثية.

مشهد الاغتيال

عندما نصل إلى مشهد الاغتيال، نرى كيف أن مارتشيلو ورجل الاستخبارات الذي برفقته يلحقان بسيارة البروفيسور. وبالرغم من أننا نعلم، من خلال سياق الفيلم، أن مارتشيلو يستعد لارتكاب جريمة قتل، لكن في هذه اللحظة توحي اللقطات لبعض الأحداث من الماضي، التي تُعرض بطريقة الخطف خلفاً، أن هذا الأمر لن يحدث.

إذ من الواضح أن مارتشيلو ليست لديه الرغبة للوصول إلى تلك اللحظة.

في نهاية المطاف تأتي سيارة مسرعة من الاتجاه المقابل، وكانت على وشك أن تصطدم بسيارة البروفيسور، فيتوقف الجميع، ومنهم مارتشيلو ومساعده اللذان كانا في سيارة سيتروين على بعد قرابة 30 ياردة خلف باقي السيارات. في هذا المشهد لم يخرج الرجلان من سيارتهما على الإطلاق، ولم يبديا أي رد فعل، حتى عندما تحاول دومينيك ساندا، زوجة البروفيسور، التشبث عبثاً بنافذة السيارة هرباً من قتلة زوجها. الذي حدث هو أن البروفيسور خرج من سيارته ليحاول مساعدة سائق السيارة الأخرى التي كانت قادمة من الاتجاه الآخر، حيث كان متكئاً بلا حراك فوق عجلة القيادة. في تلك اللحظة خرج مجموعة من الرجال المسلحين من قلب الغابة وانهالت على البروفيسور ضرباً بالسكاكين، كما لو أنه يوليوس قيصر.

مأساة نهائية

لم يصوَّر أي من هذه المشاهد بالحركة البطيئة، بل يبدو كما لو أن الفيلم كان يقوم بتركيب ذاكرة مقيتة إنما لا يمكن التغاضي عنها، فكان المشهد النهائي عبارة عن مأساة حقيقية. نشعر في تلك اللحظة أن التفرج على رجل وزوجته وهما يحتضران هو أشبه بقتلهما فعلياً.

بعد ذلك نشعر أننا فعلاً بحاجة إلى المشهد الذي يلي ذلك المشهد الدموي، حيث تعلن الإذاعة عن سقوط موسوليني وعن الاحتفالات التي يقيمها الناس بهذه المناسبة في شوارع روما. نشعر أننا بحاجة إلى هذا المشهد، لا لنستجمع فتات الأسطورة القديمة، بل لنتمكن من إدراك أن البحث عن الحالة السوية، قد يؤدي بدوره إلى التهلكة، لأنه لا يهتم إلا بالبحث عن نعمة أو عن صك غفران لا يمكن الحصول عليهم

الثلاثاء, 1 أبريل 2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى