صفحات ثقافية

ريمون دوباردون: السرعة وباء انتقل إليّ من العمل بالتصوير الصحافي

null
جوزف الحاج
ريمون دوباردون الفرنسي هو الوحيد بين الفوتوغرافيين الذي يحمل مع آلته الفوتوغرافية كاميرا سينمائية، وغالباً ما تتجسد أعماله في أشكال متعددة: صورة ثابتة تنشر في كتاب ثم تعرض، وأخرى متحركة. قدمت “مؤسسة كارتييه” عمله السينمائي الأخير “ارض المولد: المكان الآخر يبدأ هنا” وعرضت أعماله الفوتوغرافية، الصادرة في كتاب يحمل العنوان نفسه (276 صفحة و250 صورة) بالتزامن مع “أرض المزارعين”، معرضاً وكتاباً (160 صفحة و120 صورة)، وفيلماً وثائقياً هو “الحياة العصرية” شكل الحلقة الثالثة من ثلاثيته عن مزارعي المناطق الوسطى الفرنسيين. أما الكتاب الثالث فهو “مانهاتن آوت” (79 صورة) كان قد التقطها في نيويورك العام 1980، والرابع “حول العالم في 14 يوماً”.
الحوار مع دوباردون سهل ومعقد، إذ لا حاجة الى أسئلة معدة سلفاً. تكفي كلمة واحدة ليتحول الى حكواتي ينقلنا الى عوالمه الأكزوتيكية والفلسفية، والى التصوير والسينما ورجالاتهما.
مع “الحياة العصرية” يختم دوباردون ثلاثية عن أوضاع المزارعين كان قد بدأها قبل عشر سنوات: “فكرة هذا العمل جاءت متأخرة، أتممت هذا العبور في عالم المزارعين أو بالأحرى عالم طفولتي ونشأتي، أنا الذي حظيت بنعمة إبصار النور والعيش في مزرعة تقع في منطقة سون ـ إي ـ لوار. أنا جد محظوظ ومقتنع بأن هذا التجذر العائلي أبقى رجليّ على الأرض، فأنا أتحلى بطباع المزارعين. كنت بدأت العمل على هذه المراحل من حياتي في صور نشرتها في كتاب “مزرعة غاريه”. الحسرة الوحيدة التي لا تزال تؤرقني هي عدم تمكني من تصوير لحظات من حياة والدي في شريط سينمائي، كما أفعل اليوم مع مزارعي جيله. مفرداته الصحيحة التي كان يستخدمها اختصرت مواقف برمتها. بحثي عن مفرداته قادني الى الفصل بين السينما والفوتوغرافيا. لست عالم لغة بل بصري. السينما تعني لي الشريط الصوتي، السينما هي الزمن والفوتوغرافيا اللحظة”.
عن عمله المتعلق بالمشهد الطبيعي الفرنسي والمزارعين، اكتشف مناطق يجهلها الجميع رغم أنها مسكونة بالتاريخ. اهتدى الى ساعي البريد ومختار كل منطقة لإرشاده الى المزرعة التي يجب التوجه اليها: “كانت زياراتي تتم عند الثامنة صباحاً. نشرب القهوة ونتحدث عن حياتنا الخاصة. للمزارعين حشرية في معرفة تلك الناحية. إنهم يودون معرفة ما إذا كنت عازباً أم متزوجاً وكم أنجبت من الأولاد أكثر من اهتمامهم بعملك ومهنتك. آتي اليهم ومعي آلة التصوير الفوتوغرافية وكاميرا سينمائية. يجب أن تكون الكاميرا مكملة لشخصيتك، وجزءاً منك لكي ينساها مضيفوك فلا تزعجهم. كان ذلك أسهل بالنسبة للكاميرا السينمائية التي ما إن أصل حتى أركنها في زاوية معينة لتسجل كل ما يدور في مجالها، فلا يعود ينتبه اليها الحاضرون، بينما إذا أردت أن تلتقط صورة فوتوغرافية في سياق الحديث فعليك أن ترفع الآلة الى مستوى العينين عندئذٍ ينقطع الحوار فجأة وتتشنج الأجساد. إنها لحركة عنيفة فعلاً” يقول دوباردون. في بداية عمله معهم استخدم الكاميرا الخفيفة، لكن سرعان ما استبدلها بالمتوسطة الحجم، كون الأولى تجعلهم يشعرون كما لو أن أحداً يسدد باتجاههم ليطلق عليهم النار.
أول ما لاحظه لدى هؤلاء المزارعين هلعهم من تحول صورهم الى بطاقات بريدية تباع للسياح في المناطق المجاورة. قضى وقتاً طويلاً قبل أن يكسب ثقتهم، ويشعر بواجب احترام إرادتهم من دون الدخول في نقاش معهم. يتذكر دوباردون أن أكثر الذين زارهم لتصويرهم كانوا، رغم تقدمهم في السن، يسخرون منه لأنه لا يزال يحمل كاميرات قديمة، وكان حينها يستخدم الكاميرا ذات القياس الكبير الشبيهة بالآلات الأولى التي لا يتذكر هؤلاء سواها. كانوا ينصحونه بشراء كاميرات “رقمية”: “كنت في نظرهم فلاحاً أحرث أرضي بواسطة الثيران بدلاً من الجرار الآلي” يقول.
أما اللون فاستخدمه منذ البداية لأفلامه الوثائقية، بينما بدأت الفوتوغرافيا بالأسود والأبيض واستغرقت زمناً طويلاً قبل الانتقال الى الألوان “لم تصبح الألوان جميلة إلا منذ 15 عاماً. استعمل الأفلام الملونة السلبية مع عدسات قديمة تنقصها المعالجة لتصوير الألوان، ما يعطيني ألواناً هادئة ناعمة وليست صارخة، ذلك كان مرادي رغم أنني مع الأسود والأبيض أميل الى الألوان المفحمة الكثيفة. اليوم عندما يسألني أحدهم إذا ما انتقلت الى التصوير الرقمي فإنني أجيبه “مهلاً لقد انتقلت لتوي الى الألوان”.
أبعد من كل التقنيات العصرية، ما يهم جوباردون هو إطار الصورة سواء كانت ثابتة أم متحركة. هذا ما خبره في السينما “حيث يجب تحديد الإطار أولاً”. أما عن قياس الشريط السينمائي الذي يعجبه فيميل الى الحجم البانورامي الذي يتسع لالتقاط حوار بين شخصين من دون اللجوء الى التقطيع وتبديل موقع الكاميرا. في الفوتوغرافيا يجد أن مسألة الإطار هي غاية في الأهمية وأساسية. يرى لدى مصوري اليوم تيهاً بين الأحجام والمقاسات المتنوعة” “فيما مضى كنا متورطين في الحجم الصغير 24*36 بسبب بدعة هنري كارتييه ـ بريسون الذي كان يعتبر الحجم المتوسط على أنه تصوير من البطن. شخصياً أحب التنويع في الأحجام لذلك وضعت في كتابي “مزرعة غاريه” لائحة بالكاميرات ذات المقاسات المختلفة التي استعملتها في صور الكتاب”.
عن كتابه “مانهاتن آوت”، الصادر حديثاً، أوضح أنه سافر الى نيويورك في 1980 فور عودته من مهمة في التشاد لتغطية خطف رهائن، وكان قبلها قد رافق الزعيم الأفغاني “مسعود” فترة طويلة، كانت نيويورك نعيماً بعد جحيم الحروب، هي مدينة مسامحة حيث يمكن تصوير كل شيء، الشوارع مستقيمة مغرية للتفنن واللعب على الإضاءة والإطار كما يقول. التقط الصور بعفوية وسرية من دون أن يرفع الكاميرا الى عينيه. “كنت خجولاً”. يتذكر قولاً يتردد في أوساط المصورين: “إنك تصبح محترفاً عندما تتجرأ على رفع الكاميرا الى عينيك والتقاط صورة المسافر الجالس أمامك في مقصورة القطار”.
في نيويورك التقط صوراً رائعة بعدسة قديمة واسعة زاوية النظر. هي نفسها استعملها في بيروت “حيث كنت أعبر شوارعها المحاذية لخطوط التماس خلف أحد رجال الميليشيات، وهي نفسها التي صورت فيها حملة الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان الانتخابية. إنها من الجيل القديم الذي لا يسبب تشوهاً في خطوط المنظور. بالتقاط الصورة عفوياً ومن دون مشاركة العين مع الكاميرا كنت أعتقد أن لا أحد يلاحظ أنني أصوره. المفاجأة الكبرى كانت عندما عدت اليوم الى هذه المجموعة من صور نيويورك التي كنت حققتها قبل 28 عاماً لأكتشف أن كل الناس الذين صورتهم كانوا واعين لوجودي كمصور فهم يحدقون ملياً في عدستي كما تظهر الصور. المفاجأة الثانية كانت جودة الصور تلك التي كنت أعتقدتها رديئة ملأى بالحبيبات بسبب رفعي حساسية الفيلم الى الضعف أملاً بالحصول على سرعة غالق مرتفعة تجمد حركة المارة. عندما أعدت اكتشاف هذه الصور والمفاجآت التي سببتها لناظري قررت إصدارها اليوم في كتاب فكان “مانهاتن آوت”. لم افكر مطلقاً أن يوماً ما سيأتي وستحصل أحداث تربط افغانستان مباشرة بنيويورك كما حصل في الحادي عشر من أيلول”.
“ارض المولد..” كان أساساً مشروعاً سينمائياً، والفكرة هي لقاء أفراد ينتمون الى أعراق مهددة بالإنقراض هي ولغاتها وأماكن عيشها. سأل دوباردون هؤلاء ماذا تعني لهم “أرض المولد” فردوا بلغاتهم الأصلية. الى الشريط السينمائي صور لقطاته الثابتة مستخدماً الآلة الكبيرة الحجم والفيلم الفوري “بولارويد” من قياس 4*5 أنش. معترفاً أن أسلوب “مدرسة اللايكا” قد أسدى له خدمات جلى في اعتماده الكاميرا الكبيرة. “كان علي أن التقط بسرعة، أن أنظر عبر الكاميرا والعين في نفس الوقت. كما اتكلت على تأمين مجال كافٍ أمام الكاميرا يظهر الموضوع نقياً مهما اختلف موقعه وذلك بعد اختيار فتحة عدسة ضيقة”. ردود فعل هؤلاء كانت مثيرة ولافتة. لم يهتموا لرؤية صورتهم المظهرة فوراً وسخروا منها. هم من حضارة ما قبل الصورة “يبرر دوباردون الذي ما إن لاحظ أن صوره الفورية هذه تختلف عما سبقها من أعماله التقليدية حتى قرر نشرها في كتاب على حدة هو “أعط الكلام” كتب مقدمته بول فيريليو، ونشر المتبقي في كتيب المعرض “أرض المولد…”.
لا يحب دوباردون أن تبقى صوره حبيسة الأرشيف. توقف عن العمل في تصوير المشهد الطبيعي الفرنسي ليهتم بصور نيويورك التي تعود الى الثمانينات الماضية. من عاداته الغوص في مشاريع عديدة في الوقت نفسه.
بين عملين، يواصل دوباردون مشروعه عن المشهد الطبيعي الفرنسي الذي بدأه منذ سنوات. لا يتوقف إلا لينهي موضوعاً جديداً طارئاً. فكرته الأساسية أن يقوم مصور واحد بتصوير المناطق كافة. صور بالأسود والأبيض ثم رأى أنه لتصوير دراجة نارية صغيرة أو جرار زراعي لا بد من الفيلم الملون. استقدم لهذه الغاية كاميرا من الحجم الكبير من أميركا ليجاري زملاءه هناك في طريقة تصوير بلدهم.
حصل على منحة من وزارة الثقافة الفرنسية مكنته من المباشرة بالمشروع منذ ما يقارب السنوات الخمس فاتخذ له مساعداً تقنياً واشترى سيارة “فان” جعلها مشغله الجوال في الأرجاء الفرنسية. يبقى لدوباردون خمس سنوات أخرى لاتمام مشروعه هذا. يقول عنه: “قليلاً ما صورت مراكز المدن؟ وسط المدينة في مدننا العصرية متشابه بين مدينة وأخرى. كذلك الضواحي التي لم أزرها إلا نادراً، لقد أصبح لها مصوروها المتخصصون. الأمكنة التي تعني عملي هذا هي الطبيعة الفرنسية التي لم تحظ من قبل بمن يهتم بها كما اهتم الأميركيون بطبيعة بلدهم. لوجوه الفرنسيين في المناطق النائية صور تملأ الصحافة المحلية، أما الطبيعة فلا صور لها. أميل بشدة الى المدن المتوسطة والصغيرة، فلا يزال لديها مكتب بريد وسوق وساحة عامة. أحب أن أشاهد وأفهم كيف تنتظم كل هذه الأمور. لا يستهان بتصوير الطبيعة الفرنسية فهي أصعب من تصوير الطبيعة في أميركا مثلاً.
“حول العالم في 14 يوماً عمل سينمائي وكتاب آخر صدر، فرضه التعامل مع فيريليو في عمله “أرض المولد”.. يقول عنه دوباردون: ماذا كان باستطاعتي أن أفعل لأكون بمستوى مشاركة هذا الفيلسوف المعاصر؟ السرعة وباء انتقل اليّ من العمل في التصوير الصحافي. كنت كلما أسرعت في عملي أحسست أن تأثير صوري أصبح محدوداً. فكرة هذا العمل جاءت من رغبتي في زيارة جنوب إفريقيا وواشنطن حيث نصب الجنود الذي سقطوا في فيتنام. لكنني أكتشفت أن ثمن التذكرة الى هذين المكانين يعادل ثمن تذكرة للسفر حول العالم في درجة رجال الأعمال. وجدتني منافساً لفيريليو في نظريته حول مسألة السرعة. أصنف عملي هذا في أسلوب تحقيقي الآخر “تجوال” حيث كل الصور كانت ملتقطة رأسياً لتناسب حجم “كتب الجيب” الرحلة معرفة وتحد. في عصر الانترنت حيث العالم بمتناول الجميع من دون حاجة الى السفر، تساعدني الفوتوغرافيا على فهم العالم”.
كتب في “رحلات” (1999): “من الوهم اعتقادنا أننا نتعرف بعمق على الآخرين إذا ما اكتفينا بالتحدث اليهم.. أن نكون على مسافة منهم فهذا أفضل من التظاهر بأننا نحترمهم”.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى