كتاب الحمراء
أمجد ناصر
كل من يزور قصر الحمراء يقع في الفتنة. هناك أكثر من سبب للخفّة التي يشعرها المرء في أحشائه قبل قدميه. هناك، كذلك، أكثر من مصدر للروائح الفواحة التي تتحالف مع الرقة المعمارية لجعل المشي، بين ردهات هفهف فيها حرير ورنت قواف وتكلم مفوهون وحيكت دسائس، أقرب إلى السكر. الحمراء ليست قصراً ولا حديقة. هي كذلك، لكنها أكثر. إنها كتاب مفتوح أيضاً. لم تكن الكلمة فيها أقل من النقش والخط والتوريق، بل لعل الكلمة والخط والتوريق والزخرفة لم تمتزج، في مكان، كما امتزجت في قصر النصريين الذي يتربع، بلا استعلاء ولا قوة ، على الرابية الغرناطية. كل من يزور الحمراء يقع في الفتنة بصرف النظر عن أصله. ليس ضروريا أن يكون مصاباً بحنين مزمن ومثير للشفقة مثلنا. ليس مهماً الأصل هناك. فالجمال لا يخفى ولا يحتاج وسيطا أو ترجمانا. لكن مهلا، ربما احتاج الجمال، أحيانا، الى لغة وترجمان. يمكنك أن تقرأ بعينيك المخطوفتين بهاء الخط على الجدران، الأعمدة، الممرات، السقوف والقبب من دون أن تعرف معناه. قد لا ينقص الجمال، في هذه الحال، شيء من سحره. فالسحر كامن في الخط نفسه، لكن السحر يمكن أن يتضاعف عندما تقرأ المكتوب.
قبل سنين طويلة كتبت شيئاً عن سحر الحمراء وكتابها المفتوح. فعلت ذلك مثلما فعل آخرون، قبلي وبعدي، بعد هزة اللقاء، وجها لوجه، مع ذلك الجمال غير القابل للاستنفاد. آخر المصابين بمسّ الحمراء ليس عربياً بل أحد وارثي الجمال العربي وصائنيه. إنه الباحث الاسباني خوان كوستيلا الذي يعكف منذ سبع سنين، مع فريقه الكبير، على قراءة كتاب الحمراء المعلق، متسلحا بآلات ليزر ثلاثية الأبعاد، وقد أحصى الباحث الاسباني أكثر من عشرة آلاف بيت شعر وآية وقول مأثور مكتوبة بالخط العربي (الكوفي خصوصا) على جدران وممرات وسقوف القصر، بعضها لم يخضع للقراءة والفحص من قبل.
لا يزور أحد قصر الحمراء من غير أن يتوقف أمام تلك القصائد والآيات المكتوبة على الجدران. يقف الزائر المحظوظ أمام هذا الكتاب المحفور على الجص فتأخذه فتنة الخطوط بانسيابها وتداخلها ورقتها التي تُذكِّر بانسياب معجزة المياه في الرابية الحمراء وتداخلها ورقتها. لا بد أن يشعر بهواء الأنوثة الذي يهبُّ من الجدران، من بين الأعمدة النحيلة، من خرير المياه، من صالات النساء المتوارية، من الزليج الناعم النائم، من بقايا حوارات خافتة يخيِّل للمرء أنها لا تزال تتلكأ في الأرجاء. يستحيل أن يمر المرء مرور الكرام على هذا المظهر الذي يطبع قصر الحمراء وجنة العريف بطابعه ويحوّلهما من بناءين شيدا بحجر ورخام وملاط إلى كتابين ناطقين.
يمكن للمرء، أيضاً، أن يقارن بين انعدام الكلمة في قصر كارلوس الخامس المقحم، لاحقاً، على الرابية الحمراء الصارخ بالقوة وصلافة الحجر وبين قصر الحمراء وجنة العريف اللذين يُنزلان الكلمة صدر البيت وقلبه وأركانه الحميمة. المقارنة لا يمكن تفاديها لأن صرح كارلوس الخامس الناطق بأسباب القوة والضخامة مغروس، كنبتة غريبة، تماماً، في الرابية الحمراء. يمكن لمن يعرف العربية أن يفك بعضاً من طلاسم الخطوط المنقوشة على الجدران ويترنم بالشعر الذي تفلَّت من المناسبة، ويكتفي من لا يعرف العربية بترك نفسه تدوخ في متاهة هذا الكتاب المفتوح والمنطوي على نفسه في آن.
لكن قبل الباحث الاسباني خوان كوستيلا، الذي يتصدى اليوم الى جمع هذا الارث المغلق في وجه من لا يعرف العربية، كان هناك باحث أردني عكف على قراءة قصائد قصر الحمراء هو الدكتور صلاح جرار واصدر، قبل نحو عشر سنين، كتابا يضم قصائد القصر النصري. ففي ‘ديوان الحمراء’ قدم صلاح جرار، لأول مرة في العربية، دراسة وحصراً شاملين للقصائد والمقطوعات والأبيات الشعرية المنقوشة على جدران قصر الحمراء وجنة العريف معززين بألبوم من الصور. كان عمل كهذا، من قبل، حكراً على المستشرقين الإسبان والأوروبيين الذين لم يتوقفوا عن تأمل ودراسة هذه القصائد منذ أواسط القرن السادس عشر حتى آخر وقفة معاصرة وقفها المستعرب الإسباني الراحل إميليو غاريثا غوميث.
نعرف أن ثلاثة أو أربعة شعراء فقط هم الذين خلدهم قصر الحمراء، ولا أقول خلدوه لأن لا شيء يضاهي تلك التحفة المعمارية، وأبقى ذكرهم حاضراً وهم لسان الدين ابن الخطيب، ابن الجيّاب، أبن زمرك وفيما بقي هؤلاء الثلاثة أعلاماً غاب ذكر تلك الأيدي التي ضاهت، بعبقرية خطها ونقشها على الجص، القصائد وشعراءها.
قد لا يعرف زائر الحمراء العادي لمن هذه القصائد التي توشح الجدران ولكنه يشعر، من دون شك، بالحوار الخفي، الصامت، وربما المشحون، الدائر بينها خطاً وكلمات.
فلم تكن تلك القصائد والمقطعات والأبيات مجرد إرتجالات عابرة أملتها جماليات المكان وشكلت لحظات إبداع مستقلة بل كانت، في معظمها، حواراً يطبعه التنافس الحاد بين شعرائها وربما خطاطيها. فالشعراء الذين كتبوا، خصيصاً، هذه القصائد لم يكونوا بعيدين عن السياسات والدسائس والمطامح التي كانت تتصادى في صالات قصر الحمراء، مقر حكم المملكة النصرية، لكن الشعر الحقيقي قادر على التحرر، مع ذلك، من قيد المناسبة وإكراهات التماس المباشر مع السلطة، فَيخْترق المناسبة العابرة، المؤقتة، بشظايا وكَِسرَ من الخلود الصرف. هذا الخلود مؤكد بدليل وصول ذلك الإرث الجمالي الباذخ إلينا. بدليل قدرته على استثارة الأسئلة من عصر إلى عصر لكن هذا الإرث الباذخ، بحق، لا يقع موقع التصالح مع المحيط الذي لا يزال ينبض فيه. فقد طبع التجاهل، غير المبرر، موقف الاسبان طويلا من إرث آل، في نهاية المطاف، إليهم.
هذا ما أخبرنا به خوان غويتسلو، في أكثر من مناسبة، وهذا ما شدد عليه في كتب ومقالات وحوارات. فالثقافة الاسبانية، في نظره، مختلفة عن سائر الثقافات الاوروبية. مكمن الاختلاف يجد تفسيره في الارث العربي والاسلامي الذي ساد جنوب اسبانيا لاكثر من سبعة قرون متواصلة. لا يمكن، في رأي غويتسلو، وقلة مثله يشاطرونه الرأي نفسه، فهم الثقافة الاسبانية، بل واللغة أيضاً، من دون معرفة المؤثر العربي والاسلامي. قد لا يطول التجاهل الاسباني الرسمي للمنجز الحضاري الذي ورثوه طويلا، إذ ان ما يقوم به خوان كوستيلا ليس عملا يمليه شغف فردي بتلك الاعجوبة المعمارية بقدر ما يعكس توجها اسبانيا عاما وإن كان خجولاً وحذراً حتى الآن.
وأختم رحلتي مع غرناطة وقصر الحمراء بأبيات من قصيدة لأبن زمرك خطت على حاشية نافورة ‘ساحة السباع’ التي يحيطها إثنا عشر أسداً جلبت، كما يقال، من قصر الوزير اليهودي بن نغريلة ووضعت في قلب القصر لتشكل معلماً فارقاً في فضائه الفني:
بذوب لجينٍ سال بين جواهرٍ
غدا مثله في الحُسن أبيض صافيا
تشابه جارٍ للعيون بجامدٍ
فلم ندرِ أياً منهما كان جاريا
ألم ترَ أن الماء يجري بصفحها
ولكنها سدَّتْ عليه المجاريا
كمثل محبٍّ فاض بالدمع جفُنُه
وغيَّضَ ذاك الدمع إذ خافَ واشيا.
القدس العربي